تردد اسم مدينة العلا السعودية أمس بين أنحاء شتى من العالم، وهي التي شهدت مصالحة وصفت بالتاريخية بين أرباب البيت الخليجي، ممن أشغل اختلافهم منذ 4 سنوات حتى الدول العظمى حليفتهم، وصار في مرات عدة كأنه يستعصي على الحل.
لكن المحافظة التاريخية شمال غربي البلاد، كانت الأسعد حظاً بالحدث الكبير، إذ قال أناس من أهاليها لوسائل الإعلام، إنهم حين وجدوا اسمهم يتردد بين القنوات، والوفود تتقاطر على مدينتهم، استشعروا كما لو أنهم في "مناسبة عرس".
ومع أن الأمر بدا عادياً، أن تستضيف أي مدينة سعودية؛ قمة تكون الرياض أحد أطرافها، إلا أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي نفض الغبار عن المدينة وجعلها وجهة السياحة التاريخية لبلاده، لا تعرف الصدف إلى خطواته طريقاً، وهو الذي قاد المملكة المترامية الأطراف، إلى خوض التحدي في تطبيق رؤية 2030 الذي تم إنجاز شوطها الأول في 2020 على الرغم من عوائق عدة، ليس أقلها كورونا، وانهيار أسعار النفط.
وهكذا فإن المدينة تضيف نبضا جديدا إلى نبضها التاريخي والسياحي، فبعد أن أحيا ليالي "شتاء طنطورة" فيها نجوم الفن والطرب من العرب والعالم، جاءت لتحجز مقعدها على طاولة الأحداث السياسية المهمة، وربما أيضاً في قاموس مدن المصالحات التي اشتهر منها عربياً "كامب ديفيد، وأوسلو، والطائف"، وهي التي شهدت على التوالي معاهدة مصر وإسرائيل، وفلسطين مع تل أبيب، ثم اتفاق الفرقاء اللبنانيين بعد الحرب الأهلية.
وعلى مستوى العالم كانت هناك معاهدات أخرى لا تقل شهرة، سميت باسم المدن والمنتجعات أو القصور التي وقعت فيها، مثل "فرساي" في قصر باريس الشهير، حيث اجتمع الكبار بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقاسموا مناطق النفوذ والمستعمرات، وكذلك "لوزان" في ذلك العهد أيضاً، بوصفها أبقت على تركيا الحديثة مستقلة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وتفككها. وفي عهد قريب كانت هنالك أيضاً معاهدة "ديتون" التي أنهت حرب البوسنة والهرسك الدامية.
وفي المنطقة العربية، عاشت مدن القمم والمصالحات أحداثاً، جعلتها محفورة في الذاكرة، مثل "فاس، وبغداد، والقاهرة، والخرطوم، وبيروت، والصخيرات"، وغيرها.
من اليابان إلى الخليج
لم تكن المصالحة الخليجية التي حدثت بالأمس، المناسبة السياسية الوحيدة التي شهدت عليها المدينة، ففي مثل هذا الوقت من العام الماضي، كان ولي العهد السعودي، عقد في المحافظة التابعة للمدينة المنورة مباحثات مع ضيفه رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، الذي كانت الرياض قد تسلمت من بلاده ذلك الحين للتو رئاسة مجموعة العشرين.
واستقبلت الفرق الشعبية التي قدمت عروضاً فنية من التراث الشعبي الذي يقام في المناسبات السعودية قديماً، المسؤول الياباني، واطلع خلال جلسته مع مضيفه في "بيت الشعر" على جوانب من التراث والثقافة السعودية الأصيلة، بعد أن اكتسى بعباءة "الفرو" المشهورة بين أهالي الجزيرة العربية، بصفتها قاهرة الشتاء والبرد القارس.
وبعد اللقاء الشتوي، قالت وكالة الأنباء السعودية الرسمية، إن ولي العهد وآبي عقدا يومئذٍ جلسة مباحثات رسمية جرى خلالها تبادل الأحاديث حول العلاقات الثنائية، وبخاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والثقافية بما فيها أوجه التعاون وفق الرؤية السعودية اليابانية 2030، إلى جانب استعراض وجهات النظر في عدد من المسائل الإقليمية والدولية.
ومثل الأمر نفسه تقول الوكالة، حصل مع الضيف القطري تميم بن حمد آل ثاني الذي أخذه مضيفه السعودي محمد بن سلمان، في جولة خاصة على المرافق السياحية والأثرية في مدينة قال علماء الآثار، إنها تمثل أكبر متحف طبيعي في الهواء الطلق، تمضي السعودية قدماً في إكسابها زخماً عالمياً، وتنظيم اكتشافات أثرية فيها لا تزال في طورها الأول.
قطار المصالحات
قبل اتفاق "العلا" كانت البلاد أشبه ما تكون بالمزار للمختلفين من العرب والمسلمين، الذين طالما وجدوا في "دارة العرب" كما يحلو للسعوديين أن يفاخروا بأنفسهم، محلاً لتضميد جراحهم وتجاوز خلافاتهم. وبين أقرب تلك المناسبات، اتفاق الرياض في عام 2019 الذي عادت قبل أسبوع فقط حكومة اليمن بموجبه إلى عدن بعد سنوات من العيش خارج وطنها، في تطبيق ما اعتبر أكثر بنود الاتفاق صعوبة، بدليل الاستقبال الدامي الذي وجده في مطار المدينة بالمتفجرات والطائرات المسيرة.
لكن دبلوماسية الرياض وإن أعطت الخليج واليمن أولوية بحكم الجوار والقربى، فإنها وسِعت برغبتها في السلم كل الذين وجدت لديهم قابلية وصدق في إنهاء عوامل الفرقة والبحث عن صيغة أقوم للتفاهم تحتكم إلى العقل بعيداً من السلاح والاستقواء بالعدد أو العُدة. حدث ذلك في "اتفاق الطائف" بين الفرقاء اللبنانيين الذي أنهى سنوات من الحرب الضروس وأحال لبنان بعد الركام إلى جداول ولوحات تسر الناظرين، كما هي الحال مع المجاهدين الأفغان حين تمكنوا بمساعدة المملكة وحلفائها الأميركيين من طرد الروس من بلادهم لكنهم ما لبثوا أن دب الخلاف بينهم بسبب السلطة، فدعتهم السعودية إلى الوفاق بمكة فنبذوه قبل أن يجف حبره، ثم عادت الكرة بعد ذلك بسنين طويلة في 2018 عندما جمعت علماء المسلمين ودعت الطالبان والحكومة الأفغانية إلى نسيان الماضي والعيش المشترك في الوطن الواحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا شهدت ساحات قصور مكة وجدة والرياض والطائف والجنادرية مصالحات وقمماً واتفاقيات، القاسم المشترك بينها "إعادة الألفة إلى قنواتها بين المختلفين العرب والمسلمين"، إذ كان ضيوفها من إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والمغرب والجزائر وفلسطين بفتحها وحماسها والعراق والصومال وقطر والبحرين وإيران والسودان وتشاد وليبيا وأميركا وغيرها، فمنهم من صدَق وعده ومنهم من نقض "ومن نكث فإنما ينكث على نفسه".
رؤساء احتضنتهم الرياض
وإذا كان تاريخ الرياض مع التوفيق بين أصدقائها وأشقائها أصبح علامة فارقة فإن جانباً آخر وثيق الصلة بهذا النهج ظلّ أيضاً سمة يذكرها الكثيرون للسعودية، وهي استضافة البلاد عدداً من رؤساء الحكومات والزعماء والمفكرين الذين ضاقت بهم بلادهم، فمنهم من قضى نحبه فيها ومنهم من عاد إلى بلاده موفور الصحة والكرامة.
ومن أشهر أولئك الإمام اليمني محمد البدر حميد الدين الذي أُطيح به في انقلاب 1962، وكذلك الرئيس الأوغندي عيدي أمين الذي خرج من بلاده إثر انقلاب عسكري أيضاً عام 1979، كما أن رئيسة وزراء بنغلادش خالدة ضياء ورئيس وزراء باكستان نواز شريف كان بين أولئك الذين وجدوا صدر المملكة رحباً لهم، كما لقي نظيرهم برويز مشرف المعاملة نفسها. وقبل عدد من أولئك وبعدهم رئيس الحكومة العراقية الشهير في عهد الإنجليز عالي الكيلاني والرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الذي تستضيفه المملكة ليس هو وحده لكن أيضاً حكومته (انتقلت هذا الأسبوع إلى عدن) ومستشاريه ونوابه ممن فروا من اليمن بعد الهيمنة الحوثية.
ولم يكن اليمن بدعاً من جواره الخليجي، ففي الأزمة التي شهدتها الكويت في عام 1990 عند احتلالهم من جانب العراق كانت الرياض ومدن المملكة حصناً للحكومة الكويتية ومواطنيها الذين عادوا إلى بلاهم مكرمين بعد أن تقاسمت السعودية معهم أرضها ودورها وأموالها، وقال ملكها آنذاك فهد بن عبدالعزيز مقولته الشهيرة "نحن والكويت إما أن نبقى سوياً أو نذهب سوياً"، فكانت تلك الجملة بين أحد أسرار تحرير الكويت التي لم يكشف عنها الكثير.
ويعتقد المحللون أن السعوديين الذين تدفعهم تقاليدهم العربية الأصيلة إلى إكرام الضيف وحسن الجوار، وقيمهم الإسلامية إلى البر وإشاعة المعروف، كان بين أسباب سلوكهم هذا النهج بفتح الصدور للغرباء والمضطهدين أمثال قيادات الإخوان المسلمين المهددين بالإعدام في عهد عبدالناصر والبرماويين والتركستانيين والبلوش والسوريين الآن، وغيرهم من النازحين المستغيثين، إنما كان وفاءً لمؤسس السعودية الحالية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل الذي كان اضطر هو وأسرته إلى ترك بلاده بعد احتلالها من جانب العثمانيين ووكلائهم متجهاً نحو جيرانهم من آل صباح في الكويت قبل أن يستعيد الملك ملك آبائه وأجداده ليصبح قبلة لمن تضيق بهم الديار والسبل.
وهي الوشائج والصلات التي ظلّ الكويتيون والسعوديون يفاخرون بها ويذكرونها مثلاً على عمق الصلة بين أبناء الخليج حكوماتٍ وقبائل وشعوباً، يمكنها من التغلب على دواعي الفرقة، مهما كانت عصية كما في أزمة المقاطعة الرباعية التي قالت "قمة العلا" إنها طويت أخيراً.