تأبى الحرب الضارية أن تتوقف. تظن أن الوطأة قد خفت والمصلحة العامة سادت، فتفاجأ بأن السخونة اشتعلت والأهداف الخاصة صرعت العامة بالضربة القاضية. والأدهى من ذلك هو أن البعض يصارع لا من أجل مصلحة خاصة، بل رافعاً راية "خليفة خلف خلاف".
حروب ضارية
"خليفة خلف خلاف شخصية حقيقية. بمتابعة مجموعات على (فيسبوك) و(واتساب) للأهل والأمهات، يتبين لك أن في حياة كل منا عشرات وربما مئات من الأشخاص الذين يخالفون ويعارضون ويطالبون بتطبيق عكس ما يتم تطبيقه لا لشيء إلا للمعارضة". لقب "خليفة خلف خلاف" تطلقه رحاب مصطفى، (34 عاماً)، وهي أم لابنين في مرحلة التعليم الابتدائي وعضو "غير فاعل" في مجموعات للأمهات على "واتساب" و"فيسبوك".
تقول رحاب، "في البداية اعتقدت أن الغرض من هذه المجموعات مشاركة الأخبار وتبادل الرأي والخبرة في أمور تخص الأبناء في المدرسة للصالح العام، لكني فوجئت بتحول معظم النشاط إلى حروب ضارية سواء بين الأمهات وبعضهن أو بين الأمهات ورؤاهن فيما يختص بالتعليم من جهة ووزارة التعليم وقراراتها من جهة أخرى، لذا اتخذت قراراً بمراقبة المحتوى من دون تدخل حفاظاً على أعصابي وسلامتي".
سلامة 23 مليون طالب وطالبة في مراحل الدراسة ظلت مادة للشد والجذب على مدار عام كامل، وما زالت. فمنذ تأكد انتشار وباء كورونا في مطلع 2020، والعراك على أشده بين الأهل ممثلين في "غروبات الماميز" (مجموعات الأمهات العنكبوتية) والحكومة ممثلة في وزارات التربية والتعليم والتعليم الفني والصحة، ومعهما المركز الإعلامي في مجلس الوزراء المصري، الذي بات نفي الإشاعات على رأس مهامه اليومية.
مهام يومية
المهام اليومية لـ"غروبات الماميز" لا تعد أو تحصى، لكن أغلبها يبدأ بتقييم القرارات الخاصة بالتعليم، ثم نبذ أغلبها، ونعت ما تبقى منها بنعوت تتراوح بين "قصر النظر" و"غياب الرؤية" و"عدم وضع أولوية الطلاب في المقدمة". وتمر بـ"شير في الخير" و"شاركوا على أعلى مستوى" و"خبر هام وعاجل" وتنتهي بأدعية المساء لحفظ الأبناء والبنات وحماية الأهل والأجداد.
وهنا تبدأ مهام المركز الإعلامي في مجلس الوزراء الذي يصارع الزمن يومياً لنفي الغالبية المطلقة من أخبار "شير في الخير"، ومناشدة السادة المواطنين توخي الحذر وتحري الدقة وعدم المساهمة في نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة.
تداخل الأخبار الكاذبة والصادقة والنصف نصف مع تعالي نبرات التنظير والتحليل على متن هذه المجموعات وصل أوجه خلال 2020، ويستكمل مسيرته في العام الجديد 2021. لعبة القط والفأر بين وزارة التربية والتعليم و"غروبات الماميز" في كنف كورونا تحولت إلى تبني مواقف عكس تلك التي تقرها الحكومة.
إذا قررت الجهات الرسمية تعليق الدراسة في المدارس وتحويلها "أونلاين" هاجت الغروبات غضباً وطالبت الأمهات بالإبقاء على التعليم في المدارس خوفاً على بلبلة العملية التعليمية، معتبرين التعليم "أونلاين" غير ذي فائدة. وإن أبقت العملية التعليمية في المدارس تصاعد صراخ الأمهات خوفاً على صحة الأبناء من غدر الوباء.
وإن غضت الوزارة الطرف عن شيوع الدروس الخصوصية وتحول جانب منها هي الأخرى إلى الشبكة العنكبوتية، غضبت الأمهات وطالبن بإحكام السيطرة وفرض العقوبات على المعلمين المخالفين. وإن أحكمت الدولة السيطرة وفرضت العقوبات على المنظومة، استغاثت الأمهات بالرئيس خوفاً على مستقبل الأبناء، فالدروس الخصوصية طوق النجاة الوحيد، وهلم جرا.
المعركة في أوجها
ومنذ بدء العام الدراسي الحالي 2020- 2021، والمعركة في أوجها. "التربية والتعليم" تؤكد وتكرر أن الدراسة مستمرة في المدارس، وأن الحضور إلزامي، وأن التعليق قرار دولة وليس وزارة، و"غروبات الأمهات" ماضية في طريقها مطالبات بتعليق الدراسة، حيث البعض يطالب بإلغاء العام الدراسي برمته، والبعض الآخر يطالب بتحويله إلى "أونلاين".
ومع بزوغ شمس الموجة الثانية من الفيروس، ظهرت موجة جديدة من موجات المقاومة والتصدي للقرارات السارية والمتوقعة والجديدة. وعلى مدى أسابيع، ظل كثير من هذه المجموعات يدق يومياً على أوتار ضرورة تعليق الدراسة، والوزارة تدق يومياً أيضاً على أوتار تأكيد أن الإجراءات الاحترازية في المدارس متبعة، وأن فكرة التعليق ليس واردة بعد في ضوء الأرقام والإصابات الحالية، وأنه حتى في حال تطور الأوضاع إلى الأسوأ، فإن الأمر يبقى في مجلس الوزراء.
قرارات زائفة وأخبار مفبركة
وقد تطورت المعركة وأصبحت هذه المجموعات تموج بصور متداولة من قرارات رسمية "زائفة" أو "مفبركة" تحمل أختام الدولة، يشير بعضها إلى تعليق الدراسة، وأخرى إلى إلغاء السنة، وثالثة لإلغاء الامتحانات، ورابعة للتأجيل المعلق أو التعليق المؤجل.
وفي كل مرة، يخرج وزير التربية والتعليم طارق شوقي مؤكداً على صفحته أن لا صحة للتأجيل أو متحدثاً عبر برنامج تلفزيوني، مشيراً إلى أن القرارات لا تُستمد من "غروبات" أو ميول أو مشاعر، بل بناء على أرقام وتقييم موقف وقرار سيادي.
وفي اليوم الأخير من 2020، صدر القرار السيادي الذي طال انتظاره من قبل "ماميز مصر". وجرى الإعلان رسمياً عن إلغاء الحضور في المدارس بمختلف أنواعها، وتأجيل كل الامتحانات التي كان من المقرر عقدها في الفصل الدراسي الحالي سواء الورقية أو العملية أو الإلكترونية لما بعد إجازة منتصف العام التي تبدأ في 16 الحالي وحتى 20 فبراير (شباط) المقبل، وبحسب استقرار الأوضاع في ضوء انتشار الجائحة، مع استكمال تدريس المناهج حتى نهاية الفصل الدراسي الحالي بنظام التعليم عن بعد من دون أي محذوفات.
مناهضة الـ"أونلاين"
ولم تمر سوى دقائق معدودة بعد هذا الإعلان الرسمي حتى شمّرت الغروبات عن سواعدها، وانكبت "الماميز" لتوجيه دفة الحرب صوب مناهضة التعليم "أونلاين" والمطالبة بحذف ما لا يقل عن نصف المناهج. وذهب البعض إلى المطالبة بإلغاء العام.
لكن الغريب هو ارتفاع أصوات معارضة لقرار إلغاء الحضور في المدارس ومطالبة باستمرار العملية التعليمية المعتادة. والأغرب أن كل مجموعة تأتي إلى المنصات العنكبوتية مسلحة بالحجج والبراهين، وكذلك بالمنشورات العلمية المؤيدة لآرائها وصور من قرارات رسمية تعضد توجهاتها، وهي القرارات التي سرعان ما ينفيها المركز الإعلامي لمجلس الوزراء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن ما جرى في اليوم الأخير من العام الميلادي المنصرم في عدد من سلاسل السوبر ماركت الشهيرة الكبيرة كان كاشفاً. ففي ليلة رأس السنة الميلادية، وبعد ما اطمأن الأهل لبقاء الصغار في البيت خوفاً عليهم من غدر الفيروس، توجهت أعداد ضخمة من العائلات مصطحبة الأبناء والبنات إلى أماكن عامة للاحتفال مثل كورنيش النيل، وكوبري ستانلي في الإسكندرية الذي شهد تظاهرة احتفالية التحم فيها الكبار والأطفال وكأن كورونا لم يكن.
كما توجهت الآلاف إلى المراكز التجارية المغلقة وفروع السوبر ماركت الكبرى المختلفة في عدد من المدن المصرية بحثاً عن طريقة احتفاء بالعام الجديد من دون تكلفة باهظة، وفي الوقت نفسه الحصول على العروض الكثيرة المعلن عنها بغية الترويج، وهو ما أدى إلى تلاحم وتزاحم غير مسبوقين حتى في زمن ما قبل كورونا.
الغريب أن نسبة معتبرة من الحضور كانت لأطفال في سن المدارس اصطحبتهم أمهاتهم رغم أنف الفيروس الذي قاتلن من أجل توقيف الدراسة خوفاً على الصغار منه. وقد ترتب على الازدحام والتلاصق صدور قرارات رسمية بإغلاق عدد كبير من هذه الفروع، لعدم التزام الإجراءات الاحترازية، بدءاً بالتباعد الاجتماعي مروراً بعدم ارتداء كثيرين من المواطنين الكمامات، وانتهاء بالسماح لأعداد غفيرة من الكبار والصغار بالتزاحم في أماكن مغلقة.
إغلاق معتاد
إغلاق صفحات عنكبوتية تروج أخباراً كاذبة بات معتاداً. ووصل الأمر إلى درجة أن الوزير حذر قبل أيام على صفحته من إحدى الصفحات التي تخصصت في خلط أخبار التعليم المفبركة بالحقيقة، وحث المستخدمين على نشرها على صفحاتهم "حتى تعم الفائدة".
الفائدة التي تعود على طلاب المدارس والمعلمين والعملية التعليمية والوزارة والأمهات أنفسهن من "غروبات الماميز" تتعرض لكثير من التساؤلات والتشكيكات هذه الآونة. بعض هذه التساؤلات تأتي من "الماميز" أنفسهن.
سوزان عبد العالم (36 عاماً) أم لابن في المرحلة الإعدادية وعضو في ثلاث مجموعات "واتساب" وصفحتين للأمهات على "فيسبوك". تقول، "على الرغم من أن الغرض المعلن من هذه المجموعات والصفحات هو نشر أخبار المدرسة، وطرح المشكلات التي يتعرض لها أبناؤنا في إطار العملية التعليمية، ومساعدة بعضنا البعض في حال تعرض أحدنا لمشكلة لها علاقة بالتعليم، فإنها أصبحت مجموعات طبخ وأزياء وتبادل أدعية دينية، ثم تحولت إلى مجموعات من الخبيرات في كل شيء وأي شيء ومعارضة على طول الخط لكل ما يصدر عن الحكومة أو الوزارة من قرارات خاصة بالتعليم".
وتضيف، "على الرغم من أن بعض ما يجري طرحه على هذه الصفحات والمجموعات منطقي ويستحق التفكير، فإن الطالح أكثر بكثير من الصالح، وهو ما يفقدها مصداقيتها تماماً ويضع أغلبها في خانة الاتهام".
اتهامات متبادلة
اتهامات متبادلة تمضي على قدم وساق منذ سنوات بين وزارة التربية والتعليم و"غروبات الماميز"، لكن سنة الوباء الماضية وسنته الجديدة الحالية وضعت الطرفين في مواجهة عنيفة. "ثورة أمهات مصر على المناهج التعليمية" و"مؤسسي ثورة أمهات مصر على المناهج التعليمية" و"استغاثة إلى الرئيس من أمهات مصر" و"غضب أمهات مصر على تدخل النقد الدولي في تعليم أولادنا" و"اتحاد أمهات مصر للنهوض بالعملية التعليمية" و"أمهات زهقانة وعيال زنانة" وغيرها المئات من "الغروبات" لا تتوقف عن طرح قضايا خاصة بتعليم الأبناء.
ووصف وزير التربية والتعليم ما تفعله هذه المجموعات بـ"التنمر بمنظومة التعليم واستهدافها لإلحاق الضرر بها". وقال إن هذه المجموعات لديها أهداف واضحة تعمل على تحقيقها على مدار ثلاث سنوات ويقوم عليها رجال وليس أمهات لأبناء في مراحل التعليم.
سعي إلى الرقمنة
واقع الحال يشير إلى أن وزارة التربية والتعليم سعت إلى الرقمنة قبل زمن كورونا، وهو السعي الذي قوبل بموجة عارمة من الغضب والاستياء من قبل قطاعات عريضة من الأهل والمعلمين الذين اعتادوا الأسلوب الورقي والحفظ والتلقين والدروس الخصوصية.
وحين أعلن كورونا قدومه في مطلع العام الماضي، خفتت حدة الاعتراض بعد ما تبين أن السبيل الوحيد لاستكمال العملية التعليمية رقمي. وتحولت دفة المعارضة من قبل الأمهات من مهاجمة الرقمنة إلى مناصبة قرارات تعليق الدراسة في المدارس أو عودتها وتحويل الدراسة "أونلاين" أو الإبقاء عليها فعلية. أصبح العداء للشيء وعكسه.
الخناقة الحالية المشتعل وطيسها هي معركة الأمهات العاملات في ظل القرار الرسمي بتحويل الدراسة "أونلاين". استغاثات ونداءات واعتراضات مفادها أن "تعليق الدراسة خراب بيوت مستعجل. افتحوا المدارس".