هناك أفلام في تاريخ السينما تدخل هذا التاريخ بفضل موضوعها وأخرى بفضل تقنياتها وثالثة بفضل اسم مخرجها. هناك بالطبع أسباب لعظمة كل فيلم من الأفلام تتعدد بتعدد الأفلام نفسها. ولئن كنا نعرف أفلاماً كثيرة برزت بفضل نجمها أو نجمتها، كفيلم لمارلين مونرو أو آخر لجيمس دين أو مارلون براندو مثلاً، يمكننا أن نقول إنه من النادر جداً، في السينما الهوليوودية على الأقل، أن تميز فيلماً بفضل ممثل رئيس فيه يعتبر بطلاً مضاداً أو لا يحسب في عداد النجوم. من هذه الأفلام التي تدخل في هذه الخانة الأخيرة، فيلم يعتبر دائماً واحداً من أعظم 20 فيلماً في تاريخ السينما الأميركية، ناهيك عن اعتباره الفيلم الأقرب في تاريخ هذه السينما، لتاريخ المجتمع الأميركي بخاصة، ومع هذا فإذا ما تذكرنا هذا الفيلم فإنما نتذكره بفضل ممثل الدور الأول فيه، هنري فوندا، على الرغم من امتلاء الفيلم بأكبر الأسماء الأميركية في مجالات عدة، من جون فورد في الإخراج إلى جون شتاينبك في الكتابة، وغريغ تولند في التصوير إضافة إلى دافيد أو سيلزنيك في الإنتاج.
ملحمة الكارثة الاقتصادية
نتحدث هنا طبعاً عن "عناقيد الغضب"، تلك الملحمة السينمائية التي عبّرت عن مرحلة الركود الاقتصادي في ثلاثينات القرن الـ20 بأفضل مما فعل أي فيلم آخر، بالنسبة لأية قضية اجتماعية أخرى. فيلم تاريخي – اجتماعي لا سابق له، لكنه في الوقت نفسه فيلم ارتبط بشخصيته الرئيسة أكثر مما فعل أي فيلم آخر في تاريخ السينما، ومن هنا يغض المؤرخون والباحثون الطرف دائماً عن مجمل العناصر الفنية والفكرية التي صنعت هذا الفيلم ليتوقفوا عند "بطله"، عند هنري فوندا الذي صار شيئاً آخر تماماً، منذ قام فيه بدور ربّ العائلة الذي يكافح مع أسرته الصغيرة للبقاء والعيش في أميركا المنهارة اقتصادياً، وقد خيّم عليها شبح الجوع والحرمان وانسدت آفاق المستقبل، مما يدفع ذلك المكافح البسيط والمناضل الشجاع إلى النزوح بأفراد أسرته غرباً إلى كاليفورنيا، وسط استحالة ذلك، لبناء حياة جديدة نابعة من العدم، إنما من دون أحلام أميركية وذهبية، ومنذ ذلك الحين صار فوندا ما يمكننا أن نسميه "الضمير السينمائي لأميركا المتعبة".
انطلاقاً من غوص فوندا، في الفيلم، في صراع العيش لمجرد العيش، أتت شخصيته لتمهد لتلك السلسلة من الشخصيات الأقل كثافة بالطبع، التي انتشرت في أفلام فرانك كابرا الذي ستأتي سينماه كنوع من الرد الروزفلتي على الكارثة، وكنوع من الدعم الأيديولوجي المباشر لصفقة روزفلت الجديدة التي انتهى بها الأمر إلى إنقاذ أميركا.
حضور أكثر إنسانية
كان حضور هنري فوندا في "عناقيد الغضب" أقل أيديولوجية ولكن أكثر إنسانية بكثير، ومن هنا ظل حاضراً في تاريخ الوعي الاجتماعي الأميركي كعنصر فاعل في التمسك بأهداب الأمل وحتى من دون أن يعتبر نجماً. ونعرف أن هنري فوندا واصل عمله السينمائي حوالى 50 عاماً من دون أن يزعم أو يزعم الآخرون عنه، أنه نجم. كان دائماً ممثلاً كبيراً مهما كانت الأدوار التي لعبها، وهو عبر تاريخ الفن الأميركي بهذه الصفة من دون أن يتطلع إلى ما يتجاوزها، معتبراً أن ليس ثمة ما يتجاوزها في تاريخ هذا الفن.
لكن هنري فوندا لم يكن أبداً وحده، إذ لم يكن قليلاً عدد آل فوندا العاملين في السينما الأميركية، ولئن كانت الوحيدة من أفراد العائلة الموجودة على الساحة حالياً هي بريدجت، ابنة بيتر فوندا، فإن هذا الأخير كان لا يزال إلى فترة قريبة، حاضراً وإن كان حضوره نادراً. أما الأشهر فهي جين فوندا، ابنة هنري وأخت بيتر وعمّة بريدجت، التي باتت نجمة كبيرة ذات يوم ومناضلة سياسية وسيدة شغلت الصحافة والناس طوال ثلاثة عقود، حيناً بكونها ممثلة من طراز رفيع، وحيناً بكونها ناشطة سياسية، وبعد ذلك بكونها رائدة في رشاقة الجسم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إيطالي آخر في هوليوود
هذه العائلة الصغيرة الشهيرة تتحدر كلها من هنري فوندا، الذي لم يقلّ أبداً شهرة عن ابنه بيتر وابنته جين، بل فاقهما من ناحية قيمته الفنية، كما من ناحية استمراريته، فهو إذ رحل عن عالمنا في 1982، فإنه حين رحل كان في الـ 77 من عمر أمضى ثلاثة أرباعه ممثلاً كبيراً وذا حضور طاغ. وهنري فوندا مثله في ذلك مثل بعض كبار أهل الشاشة الأميركية، إيطالي الأصل، وإن كان ولد في نبراسكا الأميركية العام 1905.
منذ بداياته أُغرم هنري فوندا بالمسرح والتحق بفرق التمثيل المدرسية ثم الجامعية، وفي العام 1928 بناء على توصية من أم مارلون براندو، التي كانت ذات نفوذ فني كبير، التحق هنري بفرقة "ممثلي الجامعة" التي حققت نجاحاً كبيراً أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات، وكان من أبرز مسرحياتها "المزارع يتخذ لنفسه زوجة"، التي لعب فيها هنري دور البطولة. وحين اشترت "فوكس" حقوق تحويل المسرحية إلى فيلم، كان من الطبيعي أن يسند الدور الأول إليه، وكان المخرج هو فيكتور فليمنغ الذي عرف خصوصاً بإدارته الجيدة للممثلين. وهكذا كانت بداية هنري فوندا في العام 1935، بداية طيبة.
وبين العامين 1935 و 1982، عام رحيله، لم يتوقف هنري فوندا عن العطاء في واحدة من أطول المسيرات الهوليوودية عمراً، ولكن دائماً في أدوار تكاد تكون متشابهة، إذ غلب على أدواره طابع الأميركي الهادئ المتّزن النزيه، مما أضاف قدراً كبيراً من الصدقية إلى اعتباره "ضمير الديمقراطية الأميركية السينمائي".
أكثر من 80 فيلماً
خلال 47 سنة، مثّل هنري فوندا في أكثر من 80 فيلماً، كان له في معظمها دور البطولة. والحال أن معظم أفلامه تعتبر من المستوى الجيد في المقاييس الهوليوودية العامة، باعتبار أن هنري فوندا عرف كيف يختار، غالباً العمل تحت إدارة مخرجين كبار، من فريتز لانغ في مرحلته الهوليوودية إلى هنري كنغ، ومن ويليام ويلمان إلى جون فورد إلى ألفرد هتشكوك. ومن هنا، حتى لئن كان بإمكان اسم هنري فوندا أن يغيب عن الأذهان حين تستعاد ذكرى كبار نجوم هوليوود، فإن مجرد التذكير بأفلام مثل "المتهم الخطأ" لهتشكوك، أو "12 رجلاً غاضباً" لسدني لامبث، أو "عاصفة على واشنطن" لاوتو برمنغر، أو حتى "حدث ذات مرة في الغرب" لسرجيو ليون، هذا التذكير كاف لأن يحيل اسم هنري فوناد إلى مكانة الصدارة، إذ نتذكر أنه كان ممثلاً جيداً أكثر مما كان نجماً.
مهما يكن، فإن عمل هنري فوندا السينمائي وحتى خارج إطار الاستثنائي "عناقيد الغضب"، يمكن تقسيمه إلى مرحلتين، أولاهما تبدأ مع بداياته وتتوقف في العام 1948، حين انصرف إلى المسرح بعد مغامرات سينمائية حققت له مكانة ولكنها لم تحقق ما يكفي من الشهرة. أما المرحلة الثانية فتبدأ في العام 1955، حين اختاره ألفريد هتشكوك ليمثل دور البطولة في "المتهم الخطأ"، ثم كان بعد ذلك تألقه في الدور الرئيس في "12 رجلاً غاضباً" الذي يعتبر من أشهر أفلام المحاكم في تاريخ السينما الأميركية. وبعد الدورين لم يتوقف هنري فوندا عن العمل، وكان من الطبيعي لكبار المخرجين أن يختاروه للعب أدوار الشخصيات الأكثر التباساً، والتي تعيش حالاً من الشك، على غرار أميركا التي كانت في ذلك الحين تعيش مرحلة تساؤل وشكّ حول هويتها.
على الرمق الأخير
ولعل أطرف دور لعبه هنري فوندا، كان دور هنري فوندا نفسه في فيلم "فيدورا" 1978 من إخراج بيلي وايلدر، إذ يمثل في الفيلم دوره كنجم يحمل إلى غريتا غاربو جائزة الأوسكار التي تفوز بها. أما نهايته السينمائية فكانت في فيلم "بيت بجانب البحيرة" الذي مثّل فيه إلى جانب كاثرين هيبورن دور عبقري عجوز ينفر من الآخرين، وهذا الدور مكنه من الحصول على جائزة الأوسكار التي انتظرها طويلاً، فلم تأته إلا وهو في فيلمه الأخير وفي الرمق الأخير، أي قبل أشهر قليلة من رحيله.