في 23 يونيو (حزيران) 2016، سرتُ بين جبال الـ"فوسج" Vosges المجللة بالسكون، بين كولمار وفردان، محاولاً سلوك طريق لم يسلكها أحد من قبل بين سويسرا والقناة الإنجليزية. وفي ذلك اليوم، أحسست أن ثمة ملايين الأميال تفصلني عن الصخب في لندن والمملكة المتحدة. وأنا كمؤلف كتاب عن رئاسة (ديفيد) كاميرون، كنت على اتصال دائم بـ"الرقم 10" (مقر الحكومة البريطانية في لندن). وآنذاك، بدت الرسائل الأخيرة الواردة من هناك شديدة التفاؤل، "التصويت يبدو جيداً". (الاستفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو مغادرته).
واستطراداً، حدث تماثل بين سَيري في الجبال، وبين ذاك الاستفتاء الوطني القائم يومها. إذ إنني قبل سنوات قليلة، حينما أجريت بحثاً لمصلحة كتاب عن الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى)، وقعتُ على رسالة كتبها جندي بريطاني آنذاك، هو الملازم أ. د. غيليسبي، موجهاً إياها إلى مديره السابق في جامعة "وينشيستر كوليدج". وإذ فُجع الضابط الشاب بخسارة شقيقه قبل سنة واحدة، فقد كتب أنه لو قدرت له النجاة من الحرب، فسيود رؤية مسار، يصنع كتذكار للدمار الرهيب والموت، يمتد لـ500 ميل عبر خط الجبهة الغربية القديم. وذكر غيليسبي في رسالته إن "على كل رجل وامرأة وطفل في أوروبا الغربية، المشي في هذا المسار. وذلك كي يتسنى لهم التفكير والتأمل بما يمكن أن تعنيه الحرب من خلال شهود صامتين بجانبهم".
والحال فإن رسالة غيليبسي تلك، المملوءة تفاؤلاً بعالم أكثر ترابطاً، أراها مجسدة في شباب اليوم، أوحت لي بفكرة. فبفضل العمل الدؤوب لعدد من الأشخاص على جانبي القناة الإنجليزية، غدت رؤيا الملازم الشاب حقيقة بعد مضي 100 عام (إذ ظهر) "مسار الجبهة الغربية". وذاك مشروع دعمه بقوة كل من مايكل موربورغو وتوم هيب، صاحب فكرة "البرامج الريفية" (للإنماء) Countryfile، وأحد أحفاد الملازم غيليسبي.
لقد صمدت رؤيا أوروبا الموحدة بالاحترام والتفاهم، التي ذاقت دروس الحرب وتعلمت منها، أقل عقدين قبل أن يصدعها عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية الذي ما زال يمثل أكبر خسارة بشرية عرفتها القارة. بيد أن هذه الرؤيا عادت أخيراً وأيقظت الأوروبيين، كي يدركوا أن الطريق لا تتمثل في قيامهم مرة أخرى برفع الجسور المتحركة بعد 1945، والعودة إلى الأفكار القومية والسيادية المحمومة. وبالأحرى، إنها تتجسد في طريق تتطلب بناء علاقات وجسور دائمة بين البلدان.
وفي هذا الإطار، استفادت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إذ إنها انضمت إليه في 1973 باقتصاد مثقل ومختل ولا أمل فيه. ثم ما لبثت أن غدت خامس أكبر اقتصاد في العالم. وكذلك انضمت إلى الاتحاد بأبطأ نمو في مجموعة الدول السبع الكبرى. وخرجت من الاتحاد باقتصاد يعد الأسرع نمواً. وانضمت بريطانيا إلى الاتحاد حينما اعتُبرت "رجل أوروبا المريض" وأضحوكة دولية. ثم ما لبثت أن حازت احترام الدول جميعها، وباتت تعد القوة الناعمة الرقم واحد في العالم. في 1973، بدت لندن مدينة منهكة متداعية. ثم غدت لندن مدينة عالمية بارزة ومتألقة.
صحيح أن بعض تلك التغييرات من شأنه الحدوث، بغض النظر عن العضوية في الاتحاد الأوروبي، لكن من المستحيل القول بأن الاتحاد الأوروبي من شأنه منع تلك التغييرات في بريطانيا.
وفي هذا السياق، تمثل تلك المعطيات بعضاً من المواقف والحجج التي دفعتني آنذاك إلى توقع فوز الدعوة إلى "البقاء" (في الاتحاد الأوروبي) في الاستفتاء الوطني. ولقد كان أكثر صواباً أن يحصل ذلك. لذا، يكفي أن تتخيلوا وضعية تستمر فيها المشاحنات (بشأن الاتحاد الأوروبي) لو لم يرحل كاميرون لمصلحة النتيجة التي تأتت عن ذلك الاستفتاء (تفوق فيه أصحاب الدعوة إلى مغادرة الاتحاد).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الآن، أخيراً، بعد سنوات من انصياع رؤساء الوزراء البريطانيين لدعاوى التشكيك بأوروبا التي تنشرها الصحافة، ورفضهم تأييد الاتحاد الأوروبي، فقد جاءت فرصة التعبير عن الموقف الإيجابي تجاه أوروبا وفهمه، على الملأ وبوضوح. إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أنني بقيت عاجزاً عن تصديق الطريقة الساذجة، والمثبطة نوعاً ما، التي اختارها فريق "البقاء" أثناء خوض حملته في الاستفتاء (الآخر الذي حصل في 2016). "أوقفوا شيطنة الفريق الآخر"، كنت لأبعث رسائل نصية لشخصيات بارزة في "الرقم 10" (مقر الحكومة) آنذاك، كانت الحكومة عمالية مؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي. "أجل، نسمعك" يجيبون، لكنهم لم يوقفوا ذلك. "أوقفوا المبالغة في عرض السلبيات، بل قدموا رؤيا إيجابية". "أجل، نسمعك"، يأتي الجواب، لكنهم لم يسمعوا.
وجردت ماكينة البريكست فريق "البقاء" من أسلحته وفاقته قوة. وقد خسر هذا الفريق الحملة، لكنه لم يخسر الحجة.
وبالاستعادة، حينما أجريت بحثي لمصلحة الكتاب الذي يتناول (ديفيد) كاميرون، سافرت إلى بروكسل للحديث مع عميد مسؤولينا في الاتحاد الأوروبي، السير إيفان روجيرز. أبلغني روجيرز أنه "إذا اختارت بريطانيا المغادرة، فإن الأمر سيأخذ سنوات وسنوات من التفاوض". وحين فارقته ومضيت إلى خارج الفندق حيث التقينا، لحقني إلى الشارع وناداني.
ولقد ذكّرني ذلك بالسكير الذي نُقل في عربة من معركة "روركس دريفت" Rorke’s Drift (بين الجيش البريطاني وشعب الزولو) في فيلم "زولو" Zulu، ثم راح يصيح "أنتم جميعاً ستموتون. لسنوات وسنوات". وهكذا تتردد أصداء صوت روجيرز، عبر الهواء الصباحي الناعم والنقي الذي يلفح الاتحاد الأوروبي.
لقد استلزمنا الأمر بالفعل سنوات وسنوات للوصول إلى اتفاق بوريس جونسون في عيد الميلاد. وقد فاق ذلك مجمل زمن الحرب العالمية الأولى، التي حصدت غيليبسي و20 مليون بشري آخر. وقضت بريطانيا تلك السنوات في الجمود، فلم تتعامل كما ينبغي مع مشكلاتها المزمنة، كمسألة الرعاية الاجتماعية، ومظاهر الحرمان من التعليم، وأحوال البيئة المتقهقرة، وواقع اللامساواة المناطقية والعجز السكني وغيرها من الأمور، إلى أن حلت الجائحة. ومثّل ذلك فشلاً حكومياً هائلاً. فشلاً سياسياً وليس رسمياً، على الرغم من أن الذين سقطوا وابتلوا وتهاووا، هم الرسميون ذوو المناصب.
إننا ندخل اليوم في علاقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي. وإذا قُيد لبريكست أن يعمل، فسيستلزم الأمر نصرة الشباب. لقد قضيت مع الشباب حياتي المهنية كلها، كمعلم مدرسة ومدير جامعة في السنوات الخمس الأخيرة. وفي الغالب هم مناصرون للاتحاد الأوروبي. وليس لديهم أي مشكلة، كإنجليز أو ويلزيين أو اسكتلنديين أو إيرلنديين، في أن يُعرّفوا كأوروبيين، وعلى نحو مماثل، كمواطنين عالميين. إن أوهام السيادة ليست لهم، بل يتمثل ما يشغلهم في الواقع بالقضايا العالمية والهويات المتعددة.
إن من هم بين سن الـ 18 و24، غدوا منذ سنة 2016 أكثر تأييداً للاتحاد الأوروبي. في ذلك الاستفتاء، صوت هؤلاء لمصلحة الـ"بقاء" بنسبة جاوزت الـ70 في المئة، فيما صوت من هم فوق سن الـ 65 تأييداً للـ"بقاء" (في الاتحاد) بنسبة 40 في المئة فقط. وفي سنة 2018، بحسب المفوض العدلي للانتخابات السير جون كورتيس، غدا 82 في المئة ممن هم بين سن 18 و24، مؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي. ماذا يقدم بريكست لهؤلاء؟ إنهم يريدون منازل بشروط ميسرة. هل سيمنحهم بريكست إياها؟ وكذلك يريدون وظائف. ولقد قدرت "المؤسسة الدولية للعلوم" IFS، وهي مؤسسة محترمة جداً، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أن يكون النمو أقل بـ2.1 في المئة سنة 2021، بالمقارنة مع حال بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ما يعني وجود عدد أقل من الوظائف. إنهم يريدون رؤية مجتمع أكثر تسامحاً وإبداعاً وانفتاحاً، بيد أنهم يخشون إسهام بريكست في تشجيع الأصوات الشعبوية ودعاوى الهوية العرقية البيضاء.
لقد علمنا كوفيد-19 أموراً عدة، من بينها أن العالم الحديث ليس له حدود وطنية. إن العِلم شأن عالمي لا حدود له، والمعرفة عالمية، والشركات الكبرى عالمية، والحقيقة عالمية. لقد ماتت النزعة السيادية الصارمة التي كثيراً ما تحرك عتاة البريكست، مع نهاية الألفية الثانية، حتى قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول). وقد تثبت فكرة "استعادة السيطرة" ("استعادة السيطرة على الحدود" وهو شعار لأنصار بريكست) أنّها خيبة الأمل الأكبر منذ بداية تسجيل الوعود السياسية، إضافة إلى أنها ليست من الأفكار التي تثير الأجيال الشابة في كل الأحوال.
بيد أن اليوم يمثل الفرصة الأخيرة للكف عن المهاترات. وأنا أود رؤية بريطانيا أمة متضامنة ومتفائلة أمام الغد الآتي. وتجاه فوائد غير أكيدة قد تتأتى من المغادرة، بالمقارنة مع المكاسب الأكيدة للعضوية في الاتحاد، نبقى عاجزين عن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. الواقع اليوم ليس تكراراً لسنة 1925، حين عادت بريطانيا إلى اعتماد "معيار الذهب" (نظام مالي ساد في القرن التاسع عشر، قُدرت قيمة الوحدة النقدية الاقتصادية فيه بالاستناد إلى كمية محددة من الذهب)، بل إنه خطأ ذاتي آخر صممه وارتكبه سياسيون بريطانيون. ولقد نُقض ذلك القرار المذكور (بشأن معيار الذهب) في 1931. هذه المرة، ولسنوات وسنوات، لن تكون هناك طريق عودة. لذا، أنا اعتقد أنه علينا جميعاً واجب تنحية خلافاتنا وانقساماتنا حول بريكست جانباً، كي نجعل من بريطانيا قوة حيوية للخير في العالم. لكن، إذا لم نُعِر انتباهنا إلى هموم الشباب ونلبي مطالبهم، فلن يكون سلام ولا توافق. ولم يعش الملازم غيليبسي كي يرى بأم العين حلمه متحققاً. فقد قُتل ذلك الشاب في المعركة بعد أسابيع قليلة من كتابته رسالته. ونحن اليوم علينا احترام هواجس الشباب، والتعامل معها بطريقة أفضل.
(يصدر الكتاب الجديد لأنطوني سيلدون في أبريل (نيسان) بعنوان "المنصب المستحيل، رئيس الوزراء منذ 1721")
© The Independent