يتصاعد "التوتر" بين الجزائر وفرنسا بشكل "متسارع" في الآونة الأخيرة، ما يكشف عن معركة مصالح قد تتطور إلى أزمة بين البلدين، على الرغم من استبعاد العارفين حدوثها لاعتبارات عدة، أبرزها التاريخ المشترك المتشابك، غير أنها قد تتسبب في بعض "الفقاعات" العابرة.
تسلسل فرنسي
فبعد "صفقة" دفع الفدية وإطلاق سراح إرهابيين مقابل تحرير رهائن غربيين في مالي، ثم رفض الاعتذار عن "الجرائم المرتكبة في الجزائر من قبل الاستعمار الفرنسي"، تجددت مناوشات من نوع آخر، حين نشرت مجلة "لوبوان" الفرنسية مقالاً اعتبره الجزائريون مستفزاً، اعتبرت فيه محافظة تندوف منطقة تقع تحت سيطرة جبهة "البوليساريو" التي تدافع عن أراضي الصحراء الغربية، في تشكيك بعدم جزائرية المنطقة، الأمر الذي دفع سفير الجزائر بباريس عنتر داود، إلى عدم التأخر في الرد.
تدخل السفير لتصحيح انزلاق؟
وأعرب السفير في توضيح موجه لمدير النشر، إتيان جورنال، عن استغرابه لفحوى المقال، وقال: "استغربت كثيراً ما ورد في المقال الذي نشرته النسخة الرقمية لصحيفتكم "لوبوان أفريك" مع وكالة الأنباء الفرنسية، بتاريخ 19 يناير (كانون الثاني)، تحت عنوان "مناورات جزائرية في الصحراء بالقرب من الحدود مع المغرب"، والذي يستند إلى برقية لوكالة الأنباء الفرنسية، تقدم فيه محافظة تندوف كإقليم خاضع لسيطرة جبهة "البوليساريو"، معتبراً ذلك "انزلاقاً خطيراً" يستدعي التصحيح.
وتابع الدبلوماسي الجزائري أنه "كان من الأحرى بقسم تحرير الأسبوعية، من باب إعلام قرائها ومن أجل صدقيتها، التحقق من المعلومات المذكورة قبل الخوض في ادعاءات لا أساس لها من الصحة بخصوص الانتماء الإقليمي لمحافظة تندوف"، مضيفاً أنه "كان من الأسهل وحتماً أكثر صدقية، أخذ الفقرات الواردة في برقية وكالة الأنباء الفرنسية بأمانة مثلما تقتضيه قواعد أخلاقيات مهنة الصحافة"، وواصل "جاء في مقدمة المقال أن الجزائر نفذت مناورات عسكرية في المنطقة الخاضعة لسيطرة جبهة البوليساريو، بل وورد في صلب المقال أن تندوف إقليم تابع للصحراء تحت سيطرة جبهة البوليساريو ومنطقة حدودية مع المغرب".
وأوضح السفير عنتر داود، أنه "بعيداً من إهانة معارفكم الجغرافية والجيوسياسية، فإن تندوف ومن باب التذكير، جزء لا يتجزأ من الجزائر كما ورد ذكره صراحة في برقية وكالة الصحافة الفرنسية، التي استند إليها قسم تحريركم"، مؤكداً أن هذا الانزلاق الخطير يستدعي التصحيح من قبل فريق تحرير الأسبوعية الذي سيجد "العبارات المناسبة لوضع الأمور في نصابها من حيث الدال والمدلول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا أزمة دبلوماسية
"الأمر مقصود، لكن لا أظن أنه سيصل إلى أزمة دبلوماسية"، يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية مبروك كاهي، مضيفاً أن ما صرحت به الصحيفة هو بإيعاز من الإليزيه للضغط على الجزائر لإقناع جبهة "البوليساريو" بالتخلي عن فكرة الحرب مع المغرب، أو على الأقل تجنب التصعيد، موضحاً أن تحرك السفير الجزائري يأتي في سياق الرد على الاستفزازات. واستبعد "استدعاء السفير الفرنسي بالجزائر لوزارة الخارجية، لأن فرنسا تتحجج بحرية التعبير، وبعدم وجود أي رقابة على الإعلام"، كما أن تصريح الصحيفة لا يمثل الخارجية الفرنسية.
تداعيات سلبية
في المقابل، يعتقد أستاذ القانون الدولي إسماعيل خلف الله، أنه "ما لم تتدارك السلطات الرسمية الفرنسية الأمر وتصدر رأيها وتصويب عما صدر عن الصحيفة، فإن المسألة ستكون لها تداعيات سلبية على علاقات البلدين، ذلك لأن هذا الأمر خطير وخطير جداً"، معبراً عن رفضه التحجج بحرية التعبير، وتساءل: كيف سيكون رد باريس لو تم اعتبار مدينة نيس تابعة إقليمياً لإيطاليا؟ وهل سيتم قبوله على أساس حرية التعبير؟ وتابع "ما حصل يندرج في خانة الاستفزازات التي تمارس ضد الجزائر، كما يمكن إدراجه في سياق خلق مشكلة جديدة في المنطقة".
ويواصل خلف الله أن الرد بمقال للسفير الجزائري في فرنسا، لا يصنف في باب الاحتجاج الدبلوماسي الرسمي، وكان من المفترض على الأقل استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، "ننتظر ربما الرد سيأتي غداً"، موضحاً أن رفع دعوى قضائية ضد الصحيفة أبسط شيء، بدلاً من نشر مقال للسفير، لأنه إجراء قانوني خارج الجانب السياسي والدبلوماسي.
اهتمام أم حملة
يأتي تقرير المجلة الفرنسية المحسوبة على اليمين، بعد ساعات على موقف الرئاسة الفرنسية تجاه "ماضيها الاستعماري في الجزائر"، عقب تسليم المؤرخ بنجامين ستورا تقرير "الذاكرة" للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تم رفض تقديم الاعتذار عن الجرائم المرتكبة.
كما سبق المقال، نشر صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريراً تحدثت فيه عن مطالبة الحكومة الجزائرية لباريس بتحمل مسؤولياتها عن الأضرار الصحية والبيئية، الناجمة عن التجارب النووية في الصحراء، وذكرت بأن لجنة تعويض ضحايا التجارب النووية التي أنشأها "قانون مورين"، وافقت على تعويض حالة واحدة من إجمالي 545 حالة حتى الآن، ما دفع الجزائريين للتساؤل عما إذا كان "ما يحدث تمييزاً عنصرياً أم عدم اكتراث لمصير الضحايا؟".
وأكدت الصحيفة أن آلاف الجزائريين الذين عملوا سابقاً في مواقع التجارب النووية ما بين 1960-1967، يستوفون الشروط اللازمة، لكن ملفاتهم بالكاد تصل إلى لجنة تعويض ضحايا التجارب النووية، موضحة أن المشكلة تكمن في غياب إشراف سياسي أو نقابي يدعم موقف الضحايا الجزائريين، حيث لا تنشط في هذا المجال سوى بعض جمعيات التي تفتقر إلى الوسائل اللازمة لأداء عملها، ومن الواضح أن الدولة الجزائرية لا توفر لها الدعم الكافي.
صمت رسمي
وفي خضم الجدال الحاصل في البلدين، سواء بسبب ما يعرف بـ"صفقة" مالي، أو الموقف الرئاسي الفرنسي من ملف "الذاكرة"، أو ما أقدمت عليه صحيفة "لوبوان"، لم تصدر أي بيانات رسمية عن العاصمتين، وبقيت الأمور محصورة في نطاقات ضيقة يتقاذفها الإعلام ونقاشات النخب، فسرته أطراف بأنه "صمت" مقصود لاحتواء التوتر منعاً لأي تصعيد.
ويعتبر الباحث في الشؤون المغاربية سعيد هادف، أنه على الرغم من تصحيح الصحيفة للصياغة بعد احتجاج السفير الجزائري، إلا أن ما أقدمت عليه الصحيفة يبقى مثيراً للتساؤل والاستغراب، و"يترجم موقفاً معادياً للجزائر، قد نجد تفسيره في النظرة الفرنسية للصحراء أثناء المفاوضات التي أسفرت عن اتفاقية إيفيان في مارس (آذار) 1962، قبيل الاستقلال"، وقال إنه يمكن تفسير الموقف في التباس العلاقة الجزائرية- الفرنسية الراهنة حول الذاكرة المشتركة وما يصاحبها من جدل سياسي وإعلامي، وختم أنه بغياب سياسة براغماتية ومتبصرة، من المحتمل جداً أن تتعقد الأمور ويزداد التواصل بين البلدين انسداداً.