"مهلاً دقيقة! أنا آسفة، آسفة، آسفة حقاً." مارلين مونرو، ملتحفة فستانا أزرق اللون بشعرها الفضي المبلل، تُصوّر مشهداً من فيلم "ستنحل في النهاية" (Something’s Got to Give). لقد تعثّرت للتو في جملها، وهذه ليست المرّة الأولى. "أنا آسفة. هل يُمكننا... من البداية؟ آسفة." في غضون شهرٍ واحدٍ من هذا المشهد، ستكون نجمة هوليوود في عداد المطرودين. وفي غضون ثلاثة أشهر، ستكون في عداد الموتى. والفيلم لن يكتمل أبداً.
منذ وفاة مونرو بجرعةٍ زائدة من المهدّئات عن عمر 36 عاماً والأساطير تُحاك بلا انقطاع حول دورها التمثيلي الأخير المشؤوم. وفي أحد مشاهد فيلم "تحت بحيرة الفضة" ( (Under the Silver Lakeالجديد والمثير للجدل لديفيد روبرت ميتشل، تُخرج ريلي كيو ساقها العارية من الماء وتُمدّدها عند طرف المسبح، مؤديّةً تحية إجلال لأحد مشاهد فيلم مونرو القليلة المكتملة.
ليس ثمة الكثير من المشاهد الأخرى تُخَص بالتكريم. فمونرو، نادراً ما كانت تظهر في موقع التصوير. وعندما كانت تظهر، ثمة إجماع على رواية تزعم أنّها كانت "مزعجة عن قصد" وغير قادرة على حفظ نص دورها، وأنها كانت - حسبما ورد في وثائقي صدر عام 1990 بعنوان "مارلين: ستنحل في النهاية" Marilyn: Something’s Got to Give)) - "تطفو في مشاهدها على غير هدى مكتئبة داخل غيمة من وحي المخدرات". ولكنّ الحقيقة أكثر تعقيداً بعض الشيء.
وكان القيّمون على أستوديو الأفلام يُدركون تماماً ما كانوا مُقدمين عليه: فالممثلة معروفة بعدم التزامها بالمواعيد وبيلي وايلدر – الذي أخرج فيلم "البعض يُفضّلونها ساخنة" (Some Like It Hot) حيث أدت مونرو دور شوغر كاين [قصب سكر] كوالزيك قبل ثلاث سنوات – اعتاد إخفاء نص دورها بين أكسسوارات موقع التصوير كي تتمكّن سرّاً من قراءتها. وحين أقام حفلة إنتهاء التصوير في منزله، لم يدعُها. ولكنّ أداء النّجمة في الفيلم عوّض عن كلّ ما سبق – كما كان الحال مع الأرقام التي حقّقتها على شبابيك التذاكر. وفي وقت لاحق، اعترف وايلدر أنّه لم يكن بمقدور أيّ ممثلة تجسيد شخصية "شوغر كاين" على نحو ما فعلت مونرو.
وكان قد مضى على غياب مونرو عن مواقع التصوير أكثر من عام عندما أُعطيت فرصة التّمثيل في "ستنحل في النهاية"، وهو إصدار جديد للكوميديا العاطفية الرعناء "زوجتي المفضلة" (My Favorite Wife) (1940). وابتليت خلال فترة عطلتها بالمرض والإدمان على المخدرات: فقد خضعت لعمليةٍ جراحية لانزياح بطانة الرحم وعملية جراحية أخرى لاستئصال المرارة، كما دخلت المستشفى لفترةٍ وجيزة جراء الاكتئاب. هذه الضريبة البدنية المتراكمة، كبدت مونرو الكثير من الوزن وبَدت أنحف من أيَ وقتٍ مضى في حياتها البالغة. سُر الأستوديو-توانتيث سنتري فوكس- بذلك. وعلى حدّ تعبير منتج الفيلم هنري واينشتاين: "لم يكن على (مونرو) أن تقدم أداء، بل كان عليها أن تبدو باهرة. وهذا ما فعلته".
لكن بعد تفكير ملي، لم تكن مونرو مستعدّة – لا ذهنيّاً ولا جسديّاً – للعودة إلى التمثيل. كان من المفترض بها أن تلعب دور إيلين، وهي امرأة تقطّعت بها السّبل على جزيرةٍ نائية فظلت فيها لسنوات. ولدى عودتها، اكتشفت أنّ زوجها (دين مارتن) ارتبط بأخرى. لكن، منذ اليوم الأول للتصوير، كانت مونرو الحاضرة الغائبة التي لا تنفكّ تبعث للأستوديو تقارير طبيّة تتحدث عن إصابتها بالتهابٍ حاد في الجيوب الأنفيّة وحمى شديدة وفيروس مزمن. وحينما كانت تظهر في موقع التصوير، كان لا بدّ من استمالتها في كلّ مرة كي تُغادر مقصورتها.
"كانت تخشى الكاميرا، هذا كلّ ما في الأمر"، قال واينشتاين، متذكّراً نوبات تقيّؤ مونرو قبل التصوير. وكان في وقت سابق قد عثر عليها فاقدة الوعي فيما وصفه بحالة غيبوبة جراء المهدئات. "وللحال، أدركتُ أنّها أكثر اضطراباً ممّا كنتُ أظنّ. فما كان منّي إلا أن ذهبتُ إلى الأستوديو وبلّغتُ بما رأَيت؛ قلتُ لهم: ’لا أعتقد أنّ بإمكانكم مواصلة تصوير الفيلم‘. أجابوني: ’بلى، بلى، لا بأس، سنستأنف‘".
لم يكن فريق الإنتاج والأستديو يتعاطفون كثيراً مع نجمتهم. "نعم، إنها امرأة مريضة"، قال كاتب السيناريو والتر برنستاين، "ولكنها أيضاً نجمة سينمائية تأبى إلا أن تحصل على مرادها ولا تأبه لغيرها، كما أنها تتصرّف بشكلٍ يُسيء إليها وإلى من حولها."
غير أنّ إلقاء نظرة صغيرة على المقاطع المصوّرة من فيلم "ستنحل في النهاية" – التي ظلّت في معظمها غير مشاهَدة لسنواتٍ بعد إلغاء الفيلم – يُعطي انطباعاً مختلفاً. فأمام الكاميرا، تبدو مونرو جديّة ورزينة ومستميتة لتقوم بدورها على أكمل وجه. وإن تلعثمت استفاضت في الاعتذار. وعند تصوير أحد المشاهد، تهُدر ساعاتٌ طويلة فيما يُحاول المخرج جورج كيوكر دون جدوى حثّ الكلب، الحيوان الأليف لشخصية مونرو في الفيلم، على النباح بإشارة يدٍ منه. ومع ذلك، لا تشتكِي مونرو ولو مرةً واحدة. "إنه يتحسّن!"، تقول ضاحكةً فيما يدور الكلب حول طاقم المصوّرين. عدا ذلك، تبدو مونرو لطيفة جداً مع النجوم الأدنى الذين يُشاركونها العمل. كان من المفترض بألكسندريا هيلويل التي لعبت دور ابنتها البالغة من العمر 5 سنوات، الجلوس بشكلٍ مستقيم. "لو أستطيع أداء المطلوب بالشكل الصحيح..." تنطق الفتاة الصغيرة. يقاطعها كيوكر قائلاً: "اهدئي!". فتبتسم لها مونرو وتُطمئنها بلطف: "ستفعلين". الأكيد من خلال ما رأينا في المقاطع، أنّ تصرف مونرو لا يُشبه لا من قريب ولا من بعيد تصرّف إنسانٍ "مزعج عن قصد."
وكانت هناك بضعة أيام جيدة. ففي خلال مشهد المسبح الشهير مثلاً، تغطس إيلين عاريةً في المياه في وقتٍ متأخرٍ من الليل، في محاولةٍ لاستدراج زوجها خارج غرفة النوم. كان موقع التصوير مقفلاً حينها ولم يكن فيه سوى عددٍ قليلٍ من المصوّرين المختارين. وعندما انتهى الأمر بخلع مونرو زي السباحة أدمي اللون الذي أُعطي لها، تفاجأوا جميعاً. "ارتديتُ زي السباحة طيلة الوقت ولكنّه حجب الكثير"، وفق ما صرّحت به مونرو للصحافة في وقتٍ لاحق. وأضافت: "كان سيبدو غير مُرض على الشاشة... كان موقع التصوير مقفلاً وشبه خالٍ إلا من بعض أفراد طاقم العمل الذين كانوا لطفاء جداً. طلبتُ منهم أن يُغمضوا أعينهم أو يُديروا ظهورهم، وهذا ما فعلوه على ما أعتقد. وكان في موقع التصوير أيضاً حارس نجاة، مهمته أن يُساعدني متى احتجتُ إليه. لكنني لا أعلم كيف كان سيُساعدني بعينين مغمضتين". ظهرت صور مونرو وهي تصعد من المسبح عارية، على غُلُف المجلات في أكثر من ثلاثين بلدا. وحسب كلّ الروايات، كانت المعنويات مرتفعة.
لكنّ الأمور تدهورت بسرعة. وفي 19 مايو (أيار) 1962، وبعد تخلّفها عن الحضور إلى موقع التصوير بحجة المرض أسبوعاً كاملاً تقريباً، سافرت مونرو إلى نيويورك للمشاركة في احتفالات عيد ميلاد الرئيس جون ف. كينيدي. أداؤها المثير هناك لأغنية "هابي بيرثداي" (ميلاد سعيد) ما زال معروفاً إلى اليوم حول العالم، وصورتها في ذلك الفستان أدمي اللون المرصّع بأحجار لمّاعة والمحاك على مقاسها، محفورة في ذاكرتنا الجماعية على نحو لا يُمحى، تُحاكى بسخرية مستواصلة في الثقافة الشعبية. آنذاك، غضب كيوكر غضباً شديداً. ومع أنّ مونرو كانت قد حصلت على إذنٍ بحضور الحدث قبل بدء التصوير بوقتٍ طويل، فقد اعتبر وجودها غير مقبول. وفي حزيران (يونيو)، وبعد مرور أيام قليلة على عيد مونرو السادس والثلاثين، تم طردها بحجة "غياباتها الكثيرة والمتكررة" ورفعت فوكس قضيةً ضدها، مطالبةً إياها بدفع مبلغ 750 ألف دولار أميركي "لانتهاكها المتعمّد للعقد المبرم بينهما". فما كان من مونرو إلا أن وجّهت برقية خطيّة إلى كيوكر، جاء فيها ما يلي : "عزيزي جورج، أرجوك سامحني، لم تكن فعلتي. لقد كنتُ أتطلّع جداً للعمل معك."
والحقيقة، قد لا يكون كل الأزمة من عمل مونرو بمفردها. فحين كان يُصور فيلم "ستنحل في النهاية"، كانت فوكس تنزف مالا على فيلمها الملحمي ذي الساعات الثلاث، كليوباترا Cleopatra)) (1963). وكان الفيلم متعثراً بسبب بدايات خاطئة وإعادة تصوير مشاهد والتأخر في تصوير أخرى، وما زال حتى اليوم – مع أخذ أثر التضخّم في الحسبان – أحد أعلى الأفلام المصوّرة تكلفة على الإطلاق. فنجمته إليزابيث تايلور التي كانت تتقاضى مليون دولار أي عشرة أضعاف أجر مونرو، رفضت مراراً وتكراراً الظهور في موقع التصوير قبل الساعة الحادية عشر ظهراً. كما أنها كانت على علاقة عاطفية قوية مع ريتشارد برتون الذي كان يشاركها البطولة. و"كان كلّ يوم تصوير يتوقّف على ما إذا كان الثنائي قد أمضى أوقاتاً جيدة في الليلة السابقة"، روى جورج كول، الذي كان يلعب دور فلافيوس، مستذكراً تلك الفترة.
كان الهلع يخيّم على أستديو الأفلام. "كان التوتر عالياً والأعصاب مشدودة والأموال قليلة"، ذكرت ميشيل فوغيل في كتابها "مارلين مونرو: أفلامها وحياتها" (Marilyn Monroe: Her Films, Her Life)، والواضح أنّ فيلم "ستنحل في النهاية" ومارلين مونرو كانا كبشي فداء لبعض المدراء التنفيذيين المتوترين الذين شعروا بأنّ الأمور تفلت من بين أيديهم في كلا الإنتاجين. وكان لا بدّ لهم من التخلّي عن الأقل أهميةً بينهما."
ليس من الواضح تماماً ما الذي دفع بأستوديو الأفلام إلى إعادة توظيف مونرو بعد أشهر قليلة. لربما السبب هو دين مارتن الذي رفض العمل مع أيّ ممثلة أخرى، مهدداً بالتوقّف عن تصوير الفيلم بُعيد قيام الممثلة لي ريميك بتجربة أداء لدور مونرو. "أكنّ كلّ الاحترام للسيدة لي ريميك وموهبتها وكلّ الممثلات الأخريات المحتملات للدور"، قال مارتن في تصريح. "ولكنني وقّعتُ عقداً للتصوير مع مارلين مونرو ولن أقبل العمل مع ممثلة أخرى سواها". لربما أدركوا بكلّ بساطة فداحة الخسارة التي كانوا سيُمنون بها لو لم يفعلوا. في كلّ حالٍ من الأحوال، ومع عودة مونرو إلى الفيلم وإعادة التفاوض بشأن العقد المبرم معها، كان من المتوقع للتصوير أن يبدأ من جديد في تشرين الأول (أكتوبر).
لكن في آب (أغسطس)، عُثر على مارلين مونرو ميتة. فالممثلة التي نشأت في دار للرعاية وعانت الأمرين جراء الاضطرابات الذهنيّة والإدمان على المخدرات، توفّيت في منزلها في لوس أنجلوس جراء جرعة زائدة مميتة من الأدوية. وعلى الأثر، أهمل الفيلم. وبعد عقودٍ طويلة من الزمن، عُثر بالصدفة على طبعة باهتة منه في مستودعٍ تعمّه الفوضى.
وقبل بضعة أيام من وفاتها، كانت مونرو قد أجرت مقابلة مع أحد صحافيي "لايف ماغازين" ولكنّها لم تصدر إلا بعد أسابيع قليلة. وانتهت المقابلة آنذاك بالآتي: "سألتُها عمّا إذا كان العديد من الأصدقاء قد التفّوا حولها لمؤازرتها عندما طردتها "فوكس". فكان هناك صمتٌ وجلوسٌ مستقيم بعينين واسعتين ومجروحتين، خرقتَهما أخيراً بكلمة ’كلا‘ صغيرة".
© The Independent