تطرح الديمقراطية في الوطن العربي تساؤلاً كبيراً يتعلق بمدى قدرتها على بلورة مفهوم الانتماء للدولة التي تذوب فيها كل الانتماءات القبلية والجهوية والشرائحية، ولأن العنوان يتألف من كلمتين هما، الديمقراطية والقبلية، فلا بد من أن نتناول دلالة الكلمتين.
أولاً: تعرف المعاجم السياسية الديمقراطية بأنها آلية سياسية، يكون فيها الحكم لأغلبية الشعب بشكل مباشر، أو عن طريق مجموعة من الأشخاص بواسطة انتخابهم بصفة حرة.
الانتماء السياسي
أما القبلية فتعني الانتماء السياسي الذي يكون الفرد محكوماً فيه بتوجهات قبيلته، والقبلية نسبة للقبيلة التي يمكن تعريفها بأنها الحاضنة الاجتماعية التي يولد فيها الفرد وينشأ، وتلزمه بواجبات اجتماعية ناتجة عن القرابة والرحم المشترك.
والنظام القبلي سابق لنشأة الدولة الحديثة، وقد حافظ على ثقافة الأمة وهويتها، في مراحل غياب الدولة، واستطاعت تلك الكيانات العربية الصغيرة (القبائل) البقاء بفضل التكافل والانتماء العصبي الواحد، فالديمقراطية تقوم على الولاء للدولة، وترفض كل ولاء قبلي أو عرقي أو طبقي، بينما يكون الولاء في القبلية للقبيلة.
القبلية السياسية
وقد طبعت القبلية السياسية، وما خرج من رحمها من إمارات وملكيات، مسار العرب السياسي منذ العصر الجاهلي، وحتى اليوم، وحين تشكلت الكيانات السياسية العربية في شكل دول، تكيفت معها القبلية بدعمها أولاً، وبالسيطرة عليها من الداخل وتدميرها ثانياً، وما إن فشل مشروع الدولة العربية الحديثة حتى أطلت القبيلة بتياراتها السياسية وكتائبها المسلحة، وما ليبيا واليمن والعراق إلا أمثلة حية على ذلك.
وإذا كانت الأنظمة التي حكمت موريتانيا منذ استقلال البلاد وإلى اليوم، تعلن رفض القبلية السياسية عبر خطابها السياسي ووسائل إعلامها الرسمية، فإن الواقع يحكم بعكس ذلك، وظلت تراعي التمثيل القبلي في الوظائف المهمة، بل إن التنافس السياسي داخل القبيلة الواحدة ربما جعل الدولة تعين لكل طرف ممثله.
تقاليد وممارسات عريقة
وتتكئ القبلية في موريتانيا على تقاليد وممارسات عريقة، بينما تم استيراد الديمقراطية، وفصلت على عقل لم يتخلص بعد من الولاء لحاضنته الاجتماعية التقليدية (القبيلة)، ولا بد من الإشارة إلى أن الغرب تبنى الديمقراطية بعد أن قضى على كل الولاءات الطائفية والعرقية والجهوية، فأصبح ولاء الفرد للدولة، وهذا سر نجاح ديمقراطيتهم وسر فشل ديمقراطياتنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مظاهر الديمقراطية القبلية في موريتانيا
لم تستطع الممارسة الديمقراطية إزاحة القبيلة عن دورها السياسي المحوري، ويبدو ذلك من خلال:
أولاً: الحضور القبلي في المواسم الانتخابية، حيث تتسابق الأحزاب السياسية للحصول على ولاء زعماء القبائل، وتعقد الندوات والمهرجانات ذات الطابع القبلي، كما تنشط المبادرات السياسية القبلية الداعمة هذا الطرف أو ذاك، وتتحايل القوى السياسية على هذه الممارسات حتى لا توصم بالقبلية، بعدم توقيعها باسم القبيلة.
ثانياً: تبدو قوة الديمقراطية القبلية في موريتانيا من خلال ترشيحات الأحزاب للوظائف الانتخابية، وتعطي الأحزاب الأولوية لترشيح أفراد ينتمون لقبائل قوية.
ثالثاً: تبدو قوة الديمقراطية المحكومة بالنظام القبلي من خلال التعيينات في الوظائف المهمة، إذ يندر أن يحظى شخص بوظيفة ما لم تكن تدعمه قبيلة معتبرة، لذلك نجد أن المثقفين ومعظم السياسيين محكومون بمصالح قبائلهم.
رابعاً: من العادات السياسية المعروفة في الانتخابات الرئاسية أن يستقبل المرشحون الأساسيون وفوداً تمثل القبائل، وأن ترشح كل قبيلة مجموعة من أطرها للعمل في طواقم حملات المرشحين.
وفي السنوات الأخيرة شاعت ظاهرة المهرجانات الثقافية القبلية التي كانت مناسبة لاحتجاج بعض القبائل على ضعف تمثيلها في مؤسسات الدولة.
ويقول الباحث في قضايا المجتمع، محمد الأمين حمودي، إن "القبلية السياسية تناقض دولة المواطنة، ومن أسباب ازدهار القبلية السياسية عجز الدولة أو تخليها عن وظائفها المتمثلة في توفير احتياجات المواطن من صحة، وتعليم، وتنمية اقتصادية، والقبلية السياسية تقوى كلما ضعفت الدولة، فالمريض الذي تعجز الدولة عن علاجه يلجأ إلى قبيلته لتوفر له الدواء، فيرتبط بها ويعطيها ولاءه، وعلى كل حال، فإن النظام القبلي مناقض لنظام الدولة، ونحمد الله أن القبائل الموريتانية غير مسلحة، إذ لو لم تكن مجردة من السلاح لكان مصيرنا أسوأ من مصير اليمن، فجزى الله الرئيس المؤسس المختار ولد داداه خيراً، فقد كانت مصادرته سلاح القبائل الموريتانية فكرة استراتيجية وإجراءً احترازياً ذكياً، وعلينا أن نعرف، أيضاً، أنها أداة للتضامن الاجتماعي، وحاضنة أخلاقية، لكن تسييسها يخالف منطق الدولة.
أما الإعلامي عبد الله ولد عبد القادر فيرى أن "العالم العربي، بما فيه موريتانيا، ما زال في عصر الدولة الشكلية، إذ توجد كل المؤسسات والآليات السياسية الضرورية لدولة العصر الصناعي، لكن مضمون تلك المؤسسات والآليات، هو مضمون شكلي تحكمه عقليات قبلية وطائفية".
وما يشجع القبلية السياسية في موريتانيا أن القرى والتجمعات الريفية التي تستقطب غالبية سكان البلاد تجمعات قبلية.
النقابات وهيئات المجتمع المدني
وإذا كانت القبلية هيمنت على الديمقراطية الموريتانية، وأفرغت الأحزاب السياسية من محتواها، فإن منظمات حقوق الإنسان والنقابات المهنية وغيرها من منظمات المجتمع المدني الموريتانية تسهم بصفة كبيرة في توعية المجتمع، وتمكين المواطنين من الحصول على حقوقهم، وقد شكل نجاحها الكبير دافعاً قوياً لكسب ثقة عديد من الأحزاب الموريتانية.