تاريخياً، شهد العالم عدداً من الزعماء والطغاة والقادة السياسيين الأوروبيين الذين أحبوا السينما وأدركوا أهميتها في التجاذبات والصراعات ومدى فعاليتها للتأثير في الرأي العام. بعضهم عشقها عشقاً خالصاً بلا خلفيات، وبعضهم الآخر وظّفها سياسياً. لينين فهم مبكراً أن الفن السابع أمضى الأسلحة في مواجهة الأعداء. جملته الشهيرة "من بين كل الفنون السينما هي عندنا الأهم" لا يزال صداها ماثلاً في وجدان كل مَن يعرف السينما السوفياتية التي حمل رايتها أحد معلمي المونتاج سرغي أيزنشتاين في فيلمه "المدرعة بوتمكين" (1925) ومجّد فيه الثورة البلشفية. هتلر أيضاً أجاد التلاعب بالسينما وتحويلها أداة دعاية عبر أفلام ليني رييفنستال التي بات يعتبر بعضها تحفاً سينمائية مع مرور الزمن. وكذا بالنسبة لموسوليني الذي تأسس في عهده أول مهرجان سينمائي (البندقية) واستوديوهات تشينيتشيتا.
في المقابل، لم نكن نعرف الكثير عن حبّ "بطل الحرب" ونستون تشرشل للفن السابع قبل أن نشاهد فيلماً وثائقياً جديداً لجون فليت في عنوان "تشرشل وقطب السينما" (إنتاج هيئة الإذاعة البريطانية) الذي عرض في مهرجان بيروت للأفلام الفنية (إدارة غاليري أليس مغبغب) والذي يتطرق إلى علاقة تشرشل الطويلة والملتبسة بالشاشة الفضية. الفكرة في ذاتها مغرية وآخاذة، فكل اختراق لتفاصيل من سيرة شخصيات عامة ألقت بظلالها على التاريخ وكان لها دور بارز، كدور تشرشل في الحرب العالمية الثانية، يثير الفضول عند الجمهور العريض. الفيلم يكشف عشق تشرشل للسينما، لكنه لا يكتفي في أن يكون دعاية لهذا العشق، بل ينبش في جانب غير معروف، المتعلق بتوظيفه لهذا الفن الذي ولد في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، لمكاسب سياسية. ففي عام 1934، استعان ألكسندر كوردا، أحد أشهر المنتجين البريطانيين (يهودي من أصل مجري)، بتشرشل كاتباً للسيناريو ومستشاراً في تعاون استمر لسنوات وتطوّر أكثر وأكثر عندما عاد وأرسل تشرشل كوردا إلى هوليوود بصفة "مخرج جاسوس" أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كان رئيس وزراء بريطانيا. يُقال إن مهمّة كوردا كان توريط أميركا في الحرب، ويومها استحصل على نتائج عظيمة. الفيلم يوثّق إذاً لهذه التجربة الفريدة التي تجمع عالمي السياسة بالفن، من خلال ملفات ووثائق تعرض للمرة الأولى.
نشر تشرشل كتابه الأول وهو في الرابعة والعشرين. اشتهر بتعابيره وأقواله وبلاغته. كان سيداً في اللعب بالكلمات والألفاظ، لكن، مع الوقت، أدرك أن السينما سحبت البساط من تحت قدم الأدب. أصبحت الشاشة هي الفن الجماهيري الأول في أوروبا والعالم. لا بل أضحت وسيلة تواصل حقيقية تربط البشر بعضها بالبعض الآخر، حتى أنها، في نظره، استعانت من الكتب الكلام، عندما تحوّلت إلى ناطقة. متسلحاً بهذه النظرة، التقى في أحد الأيام، وعبر ابنه، كوردا الذي كان فر من وطنه المجر بعدما أعتُقل فيه لأسباب سياسية. كان كوردا جرب حظه في هوليوود، ولكن من دون أن يحقق فيها أي نتيجة. وجد صعوبة في أن يندمج داخل ما كان يُعرف بـ"نظام الاستوديوهات". ثم توجّه إلى فرنسا حيث اقتبس في عام 1931 أحد أجزاء ثلاثية مارسيل بانيول الشهيرة "ماريوس". بعدها استقر في بريطانيا، حيث أصبح أحد أقطاب السينما البريطانية في حينها.
السينما والخبرة العسكرية
الأمر الذي يثير الاستغراب في الموضوع هو استقطابه لتشرشل وتحوّل علاقتهما إلى ما يشبه الصداقة، صداقة استمرت سنوات. السياسي الفذ كان يكتب لكوردا سيناريوهات يستند فيها إلى خبرته في المجال العسكري. يتردد أن كوردا أعطاه 10 آلاف جنيهاً استرلينياً ليكتب له سيناريوهان، بعدما أدرك أن موهبته بصرية في المقام الأول. وهذا ما يتبدى جلياً في خطاباته. الوصف البصري حاضر بقوة فيها عندما يقول مثلاً: علينا أن نحارب على الشواطئ، علينا أن نحارب على الأرض، علينا أن نحارب في الحقول والشوارع، علينا أن نحارب في الهضب: يجب ألا نستسلم أبداً".
من سخرية القدر أن أي من تلك النصوص السينمائية التي كتبها لم تبصر النور ولم تنتقل إلى الشاشة. لكن هذا الإمعان في الكتابة للشاشة، جعل تشرشل يفهم أهمية الدعاية وكيفية استخدامها بصرياً في الحرب الناعمة. مذذاك، وضعها في خدمة الانتصار للديمقراطية. خلافاً لزعماء وقادة آخرين، يمكننا أن نرى في دعاية تشرشل مبادرة لطيفة، ذلك أن الهدف نفسه نبيل. ولكن، في الحقيقة، لا فرق كثيراً بين دعاية ودعاية. كلاهما بعيدان من الثقافة والفن اللذين يهدفان في طبيعتها إلى البحث عن الحقيقة.
حكاية تشرشل - كوردا لم تنتهِ عند هذا الحد. عاد الأخير إلى هوليوود لفترة وجيزة حيث صوّر "لايدي هاملتون" (1941)، فيلم ينطوي على رسالة سياسية واضحة، أُسندت فيه البطولة إلى نجمين بريطانيين كبيرين هما فيفيان لي ولورانس أوليفييه. اللافت أن تشرشل استعمل هذا الفيلم لإقناع روزفلت بضرورة خوض الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في أحد مشاهد "لايدي هاملتون"، تقول إحدى الشخصيات عن نابوليون: "يريد أن يكون سيد العالم. لا تستطيع أن تبرم اتفاق سلام مع الطغاة، عليك تدميرهم فحسب". كتب تشرشل هذه الجملة وهو يدرك تماماً صداها في نفوس الذين سيشاهدونه في العام 1941، أي خلال الحرب. كان يعي وقع كلمات كهذه في الجمهور، ودورها في حشد الحلفاء ضد الخطر الذي كان يأتي من ألمانيا النازية. معاً، خلقا صورة سينمائية لبريطانيا تساعد في استدراج الأميركيين لمساعدة بريطانيا. هل ما يطرحه الفيلم منطقي؟ بمعنى أن هل من الممكن أن يتم أخذ قرارات كبيرة مثل هذه بتأثير من فيلم أو كتاب أو أغنية. يحلو للفيلم اعتقاد ذلك، ولكن، في الواقع، الذي حسم قرار الأميركيين هو الهجوم على برل هاربر!
لا يهتم الفيلم كثيراً بكشف أسباب الصداقة التي ولدت بين الرجلين. ربما لأنه لا يملك كل الأجوبة. ولكن، مع ذلك، يسلّم للمشاهد بعض المعطيات التي يمكن البناء عليها للوصول إلى استنتاجات: مثلاً أن الشيء المشترك بينهما هو أن كلاهما كانا خارج المؤسسة. كودا كان لاجئاً، استطاع الهرب من المحرقة التي سقط ضحيتها أبناء جلده، أما تشرشل فهو الآخر كان يأتي من خارج النظام. كل منهما وجد شيئاً في الآخر، ربما انعكاس لصورته. وأهم من هذا كله، كان هناك الكثير من الاحترام المتبادل والإعجاب بينهما.
صحيح أن اسم تشرشل يتصدر العنوان، ولوهلة نعتقد أن الفيلم عنه فحسب، ولكن يبدو أن هذا لم يمنع الوثائقي من أن يمنح مساحة كبيرة لكوردا. في النهاية، هو من مؤسسي السينما البريطانية ولا يمكن نكران فضله عليها. الفيلم، مدعوم بعدد من المقابلات، يفتح صفحات منسية من التاريخ، ولكن لا يطمح إلى أي إنجاز فني. هدفه المعلومات وربط العناصر في ما بينها، للخروج بعمل متعدد الاهتمام، يعيد الاعتبار إلى السينما والصداقة التي تطل برأسها من تحت ركام السياسة والخراب.