في وقت يواجه لبنان مخاطر استنزاف مستمر لاحتياطياته النقدية بالعملات الأجنبية، يبرز شبح العتمة من بند استيراد الفيول المكلِف لمؤسسة كهرباء لبنان.
فانقطاع التغذية بالكهرباء، واقع رافق اللبنانيين في الحرب والسلم، وفي الازدهار والانهيار، وإنما مع تراجع الاحتياطي النقدي في ظل أزمة السيولة الحادة التي يعاني منها لبنان، أصبح استيراد الفيول لمعامل الإنتاج حملاً ثقيلاً، وانقطاعه يعني إغراق لبنان في العتمة وتعطل كل الخدمات الأساسية المرتبطة بها، كالاتصالات والمستشفيات الحكومية وغيرها من الخدمات التي تؤمنها الدولة.
الفيول المغشوش
أزمة الكهرباء تفاقمت بعد فضيحة الفيول المغشوش، التي كشفت أن الشحنات التي تسلمها لبنان من شركة "سوناطراك" الجزائرية، والتي تربطه معها عقود من سنوات عدة، لا تتلاءم مع المعايير اللبنانية.
الملف فجّر العقد بين لبنان و"سوناطراك" التي توقفت عن توريد الفيول إلى لبنان، ما زاد من ساعات التقنين ليبقى العقد مع الكويت، (وهي الشركة الأخرى التي تعاقد معها لبنان فقط)، سارياً حتى نهاية العام الماضي، وسارعت الوزارة لاستبدال العقود طويلة الأجل بعمليات شراء فورية تعرف في السوق النفطية باسم Spot Cargo أي شراء شحنة الفيول فوراً واستلامها خلال 15 يوماً من العرض الأفضل المتاح، تقنية تؤمن وفراً مالياً للبنان، إنما تنطوي على مخاطر عدم استدامة الإمدادات.
انفجار المرفأ
انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، زاد من الضغوط المالية واللوجستية على لبنان، لتبادر دولة العراق إلى فتح باب المساعدة عبر إرسال مليون و800 ألف ليتر مازوت، تم الاتفاق مع الحكومة العراقية لإعطائها للجيش اللبناني لتستتبع بمسعى من المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي زار العراق في 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لبحث استيراد الفيول مع المسؤولين العراقيين، على الرغم من العقبات الجغرافية واللوجستية، إلا أن التعاقد مع العراق قد يخفف من الضغوط المالية على لبنان.
وبالفعل نجحت مساعي اللواء إبراهيم في مساعدة لبنان، حيث وافق مجلس الوزراء العراقي على مشروع الاتفاقية لتزويد لبنان بالمنتوجات النفطية وفق بنود تشجيعية تراعي الوضع المالي اللبناني المتعثر، وتؤكد وقوف العراق الشقيق إلى جانب لبنان في محنته الحالية.
وبموجب الاتفاقية، سيزود العراق لبنان بمليون برميل من الفيول للكهرباء، و500 ألف برميل من النفط الخام، يمكن استبدالها بكميات من الفيول أو المنتجات النفطية، على أن تقدم الحكومة العراقية 25 في المئة من قيمة الصفقة دعماً للبنان، وفترة سماح لتسديد بقية الأموال المستحقة لمدة ستة أشهر، أو بمقابل خدمات يتم الاتفاق على تفاصيلها في مباحثات بين البلدين، بما في ذلك معالجة واستشفاء المواطنين العراقيين في المستشفيات اللبنانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفاصيل العقد النفطي بين العراق ولبنان
وكشف وزير الطاقة اللبناني ريمون غجر لـ"اندبندنت عربية"، أن حجم الصفقة الحالية بين لبنان والعراق يبلغ مليون طن من الفيول الثقيل بواقع 500 ألف طن "Grade A" للمعامل الحرارية و500 ألف طن "Grade B" للمحركات العكسية، بالإضافة إلى 500 ألف طن من "gas oil" الذي يستعمل للتربينات، أما قيمة الصفقة فتقدر بحسب الأسعار الحالية للسوق بنحو 200 مليون دولار.
وبيّن الوزير غجر أن لبنان كان قد طلب ضعف هذه الكمية، إلا أن الجانب العراقي وافق فقط على النصف بعد محادثات عدة في هذه الشأن، وطبعاً انطلاقاً من نية العراق مساعدة لبنان.
وعن بنود الاتفاق، تابع الوزير غجر، إنها أفضل الممكن، فلبنان يعاني أولاً من شح في السيولة الأجنبية، ما يجعل سداد مستحقات الواردات النفطية عبئاً ثقيلاً على ميزانية مصرف لبنان المستنزفة، فالعراق عرض حسماً بواقع 25 في المئة على السعر النهائي عند شحن البضائع، ما يعني (إذا أخذنا على سبيل المثال أسعار النفط حالياً) وفراً للخزينة اللبنانية بواقع 50 مليون دولار، كما أن السداد سيؤجل إلى ما بعد ستة أشهر من استلام المواد النفطية.
شراء خدمات
أضاف غجر أن الجانب العراقي عرض أيضاً على الدولة اللبنانية أن تفتح حساباً مصرفياً لصالحه في مصرف لبنان، حيث سيتم سداد الثمن المتبقي للبضائع على أن تستعمله الدولة العراقية في لبنان لشراء خدمات أو استشارات، ما يعني أن العملة الأجنبية لن تُحول إلى الخارج في إجراء يحافظ على ما تبقى من الاحتياطي النقدي في مصرف لبنان.
أما لوجستياً، وفي ما خص بند استبدال النفط الخام بمشتقات نفطية أخرى، شرح الوزير غجر، أن الاستبدال تجارة قائمة في السوق النفطية، وليست غريبة أو نادرة، فهو يتم مع دول أو من خلال مصفاة أو عبر مرفأ مخصص لديه فائض في مخزونات المنتجات النفطية، لأن تصدير النفط سيكون عبر البواخر.
والكمية التي وافقت عليها الحكومة العراقية، تابع غجر، إذا استعملت بالكامل تكفي حاجة لبنان مدة شهرين، إلا أنها ستكون داعمة لعمليات الشراء القائمة حالياً لتسهم في تعزيز ساعات التغذية، وليتم توزيع كميات المشتقات النفطية العراقية للاستهلاك تدريجياً على مدى 12 شهراً، وأكد غجر أن لبنان يتطلع في المرحلة المقبلة لتوسيع التعاون مع العراق.
إدارة ملف الكهرباء لتفادي العتمة
وعلى الرغم من أن "سوناطراك" كانت قد أخطرت الجانب اللبناني بعدم رغبتها في تجديد العقد الذي انتهى مع نهاية 2020، إلا أن بعض الكميات المتعاقد عليها لم تُسلم، وهي عالقة حتى انتهاء التحقيق في ملف الفيول المغشوش المستمر.
ولعدم السقوط في العتمة، بيّن الوزير غجر أن الوزارة تعمل على ثلاثة مسارات بالتوازي للحفاظ على استدامة المخزونات الإستراتيجية النفطية، ولبنان لديه اليوم مخزون إستراتيجي للفيول المخصص لاستعمال كهرباء يكفي لمدة شهرين من التغذية بحسب الجداول المعمول بها حالياً.
المسار الأول "Spot Cargo"
بيّن الوزير غجر أن وزارة الطاقة بدأت منذ ستة أشهر بعمليات شراء النفط بشكل مستقل ومباشرة من السوق، عبر ما يعرف بتقنية "Spot Cargo" ليتحقق وفر مالي كبير، إذ تراجع الـ"بريميوم" الذي تضع الشركات فوق سعر البضائع من 27 دولاراً إلى متوسط 17 دولاراً، وبالفعل تم الشراء الفوري للفيول الثقيل من النوعين "Grade A" و"Grade B"، وكشف غجر، أن هذه التقنية استطاعت أن تؤمن وفراً بنصف مليون دولار في كل شحنة، إلا أنها غير مضمونة وتهدد استدامة التوريد والمخزونات، لذلك عملت الوزارة أيضاً على مسار ثان.
المناقصات
دأبت وزارة الطاقة، بحسب الوزير ريمون غجر في المرحلة الماضية على العمل مع إدارة المناقصات لوضع دفتر شروط مطابق للمواصفات اللبنانية يتم من خلاله توقيع عقود طويلة الأجل مع شركات نفطية، وحصر دفتر الشروط الشركات الراغبة بالدخول في المناقصة بالعالمية فقط، لتفادي أي مشكلات مستقبلاً مع شركات صغيرة محلية.
وبالفعل، انتهى العمل بدفتر الشروط الجديد الذي أحيل إلى مجلس الوزراء بانتظار الموافقة عليه، لإطلاق مناقصة عادة ما تمتد لفترة ما بين ثلاثة وحتى خمسة أشهر، لإعطاء الوقت الكافي للشركات الراغبة في الاشتراك بمراجعة حساباتها وتقديم الأوراق المطلوبة مع العرض.
توسيع التعاون النفطي
وأكد الوزير غجر، أن لبنان سيسعى لتوسيع التعاون النفطي مع العراق، وأن الاتفاقية الحالية التي وصلت إلى مجلس الوزراء تنتظر الموافقة عليها للبدء بنص العقد، ثم توقيعه في مسار عادة ما يتطلب نحو شهرين.
وعن القيمة التي خصصت في موازنة 2021 لسداد كلفة استيراد الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان خلال العام 2021، يؤكد غجر، أنه في ظل المسارات الثلاثة، إذا لم تسجل أسعار النفط العالمية ارتفاعات قياسية، ستبقى كافية لسد الحاجات للعام 2021 .