من المؤكد أن الصدفة لم تلعب أي دور في اختيار معظم الكتب الموسوعية المتحدثة عن تاريخ الفكر السياسي، كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" لـ"المعلم الأول" الإغريقي أرسطو، باعتباره مساهمته الرئيسة في تاريخ الفكر السياسي، بدلاً من اختيار كتاب آخر له هو "السياسة" تحديداً، الذي يبدو منذ عنوانه الواضح أوفى بالغرض. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر تعسفاً بالنظر إلى أن "الموضوع" الذي يعد به عنوان هذا الكتاب الموجه إلى نيقوماخوس، "الأخلاق" وليس "السياسة"، غير أن للكتب الأمهات في هذا السياق منطقها ومبررها الذي لا يتعين التغاضي عنه. وليس ذلك فقط، على الأقل بالنسبة إلى "تاريخ الفلسفة السياسية" لليو شتراوس وآخرين، أو "الفكر السياسي عند اليونان والرومان" لكريستوفر روي وآخرين وهما من الموسوعات المعتمدة في هذا المجال، ليس فقط لأسباب أخلاقية تريد أن تضفي على السياسة طابعاً أخلاقياً، بل تحديداً لسبب أكثر عمقاً؛ لأن السياسة والأخلاق هما شيء واحد بالنسبة إلى أرسطو بالنظر إلى أن منبعهما واحد، وهو اكتساب الفضيلة والوصول إلى السعادة. فإذا كان أرسطو يرى أن "الإنسان حيوان ناطق" فإنه لا يتوانى عن إخبارنا في الوقت نفسه أن البحث عن السعادة والفضيلة هو ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات.
وصية سياسية - أخلاقية
المسألة إذاً في غاية البساطة، كما يكتب أرسطو في هذا النص الذي يجمع الباحثون على أنه كتبه في مرحلة متأخرة من عمره كنص موجه إلى ابنه نيقوماخوس، حتى وإن كانت قلة من الباحثين تفضل القول أنه كتبه إلى أبيه الذي يحمل الاسم نفسه من دون أي دليل منطقي على هذا.
كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" هو بالتالي "وصية فكرية أخلاقية سياسية" وجهها الفيلسوف الإغريقي إلى ابنه البكر ملخصاً فيها آراءه الأخلاقية والاجتماعية، السياسية، في تمايز عن كتابه السياسي الآخر "السياسة" الذي يبدو في هذا السياق تقنياً أكثر منه سياسياً رغم عنوانه. والحقيقة أن "الأخلاق" ينتمي إلى القسم من مؤلفات أرسطو الذي يوصف عادة بأنه "عملي وإنتاجي"، وهو قسم يضم مؤلفاته التي تُحدد بوصفها سياسية من جهة وأخلاقية من جهة، علماً أن هذا التمييز بينها ليس تمييزاً حقيقياً، بل توصيفاً لفرعين لهما أصل واحد يدعوه أرسطو نفسه "العلم المدني"؛ أي بالتحديد بالسياسة في علاقتها بالإنسان وليس هنا فقط بالدولة كمؤسسة لتنظيم العلاقات بين الأفراد. ومرد ذلك أن "الحياة الفاضلة التي هي موضوع الأخلاق مرتبطة بسلامة النظام السياسي". وبالتالي، فإن الفضيلة هي النقطة الأهم، وبخاصة لأن الفضيلة يحدث لها وبشكل متواصل أن تصطدم بالسعادة، ما يفترض أن ثمة صراعاً دائماً بينهما.
والسؤال الأساس هنا هو: كيف أصل إلى السعادة التي هي في نظر أرسطو الغاية القصوى للحياة البشرية، من دون أن أجد الفضيلة تسد الدروب عليّ؟ باللجوء إلى السياسة أي إلى مسايرة التنظيم الاجتماعي وليس فقط اتباعاً للسنن القانونية خوفاً من الدولة وضوابطها، بل بالتناغم مع تصور أخلاقي لا بد منه.
وحدة حال
هكذا، ضمن هذا الإطار ترتبط السياسة بالأخلاق ارتباطاً حتمياً لا غنى عنه. وفي هذا الإطار يقول لنا أرسطو، مثلاً في "الكتاب العاشر" من "الأخلاق إلى نيقوماخوس": "لما كان الخير هو غاية كل شيء وكل فعل، كانت الأخلاق كما حال كل مبحث، فحصاً على خير ما، هو الخير الخاص بالإنسان من حيث هو إنسان". فما هذا الخير؟ يجيب أرسطو، "في البحث عن طبيعة هذا الخير ينبغي أن نميز بين الأفعال ونتائج الأفعال، وكلاهما من الغايات التي تسعى الكائنات العاقلة إلى تحصيلها. إلا أن الضرب الثاني من الغايات هو الأفضل، لأن الفعل من النتيجة هو بمنزلة الوسيلة من الغاية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويواصل أرسطو التحليل هنا إلى ما كان عبّر عنه في مفتتح الكتاب من أن السعادة هي الغاية القصوى لوجود الكائن البشري باعتبارها الخير الأسمى، لا سيما بالنسبة إلى أولئك الذين لا يفصلون بين الفضيلة والسعادة، بحيث أن "الفاضل عندهم هو السعيد". لكن هذا التأكيد لا يمنع هؤلاء، أي أصحاب هذا القول، من أن يختلفوا في ماهية السعادة؛ فثمة من العامة من يرون أن السعادة هي اللذة والثروة والجاه؛ بينما يرى الخاصة، "وعلى رأسهم أفلاطون وأصحابه أن الأشياء جميعاً ليست خيراً في ذاتها بل هي تستمد ماهيتها الخيّرة من مبدأ أسمى للخير قائم في ذاته وهو مبدأ أساس لكل خير آخر". ومن الواضح هنا أن أرسطو يتمايز هنا تماماً عن أستاذه أفلاطون في تحديد للخير أهو في السماء أم في هذه الحياة الدنيا. ولعل هذا التمايز يظهر بأفضل ما يمكن في لوحة رافائيل "مدرسة أثينا" حيث نرى الفيلسوفين يتوسطان مركز اللوحة يسيران معاً لكن أفلاطون يشير بيده نحو السماء، فيما يشير أرسطو بيده نحو الأرض!
سيرة الإنسان الفاضل
انطلاقاً من هنا إذاً، تصبح نقطة المنطلق في المساعي الخلقية عند أرسطو، حياة الفضيلة الفعلية كما تتجلى في سيرة الإنسان الفاضل، لا المبادئ النظرية المجردة. وهذا المنطلق هو الذي يحدد كون "الأخلاق إلى نيقوماخوس" كتاباً في الأخلاق، وفي السياسة والاقتصاد في وقت واحد، استعاد فيه الفيلسوف جملة الأفكار التي كانت مطروحة لديه في كتابين آخرين له هما "الأخلاق إلى يوديم" الذي قد يمكن اعتبار "الأخلاق إلى نيقوماخوس" تطويراً له على ضوء تجارب الحياة العملية التي مكنت من القول، إن الكتاب الذي نحن بصدده هنا قد يكون وصية أرسطو السياسية الأخيرة، وقد تمازجت بوصيته الأخلاقية؛ و"كتاب الأخلاق الكبرى" الذي ثمة كثير من الشكوك تحيط بصحته، ويرى البعض أنه مجرد تجميع لشذرات غير متآلفة دُونت من قبل تلاميذ أرسطو في مدرسته الخاصة "الليكيوم"، التي أقامها كبديل عن مدرسة أفلاطون المعروفة بـ"الأكاديمية".
للجمع بين الدين العقل
مهما يكن، من الواضح أن كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" قد انتشر في أوساط النخب بأكثر مما فعل كتاب "السياسة"، حيث إن معظم الشراح والباحثين الذين اهتموا، لا سيما في العصور الوسطى، بالفلسفة الأرسطية، اعتمدوه مرجعاً أساسياً في مجال بحوثهم السياسية، لا سيما منهم الفلاسفة العرب "المشاؤون" من أمثال "الكندي، والفارابي وابن سينا، ومن ثم ابن رشد"، الذين وجدوا لسبب أو آخر في هذا الكتاب بالتحديد ما يسهل اشتغالهم على ما اعتبره الفارابي سعياً لـ"الجمع بين الحكيمين" كما يفيدنا عنوان نص شهير له أراد فيه من خلال التقريب بين أفلاطون وأرسطو، أن يبرر مساعيه ومساعي غيره من الفلاسفة المسلمين لتبرير الجمع بين الدين والعقل، من منطلق الجمع بين السياسة والأخلاق.
جزء من الثنائي الأعظم
ولد أرسطو عام 384 قبل الميلاد في ستاجيرا، شمالي شبه الجزيرة الخلقيدية، وكان في السابعة عشرة حين انتقل إلى أثينا لينتسب إلى أكاديمية أفلاطون حيث عاش وتعلم طوال عشرين سنة انتهت بموت معلمه ومبارحته هو المدينة إلى أتاميا بدعوة من حاكمها هرمياس ليتولى تأديب حفيده الإسكندر ابن فيليب المقدوني. عاد إلى أثينا بعد وصول الإسكندر إلى الملك في مقدونيا، ليؤسس مدرسته الخاصة التي عرف مرتادوها بـ"المشائين" لأنهم كانوا يتبادلون الدروس والأفكار وهم يتمشون في ممرات حديقتها. وفي عام 323 ق.م وكان في الحادية والستين من عمره اندلعت في أثينا ثورة اضطرته إلى الفرار لجوار مسقط رأسه حيث ما لبث في العام التالي أن فارق الحياة ليحل ثيوفراسط مكانه في إدارة المدرسة. غير أن رحيل أرسطو لم يعن بالطبع موت أفكاره وإن كانت قد غابت لعدة قرون قبل أن تُكتشف من جديد وتفسر وتترجم من قبل المشارقة الكلدانيين والنسطوريين وصولاً إلى العرب الذين أعادوه إلى الواجهة، بالتناحر مع استعادته من قبل آباء الكنيسة ليصبح منذ ذلك الحين جزءاً أساسياً من الثنائي (أفلاطون– أرسطو) الذي لا يزال يعتبر أعظم ثنائي في تاريخ الفلسفة حتى اليوم.