سيحتاج الأمر إلى ما يشبه الأعجوبة، أو الجهد الخارجي الخارق، كي يخرج لبنان من الفراغ الحكومي القاتل الذي يغرق فيه منذ أكثر من 6 أشهر، بعدما تفاقم الخلاف بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري الذي كشف عن جزء من مداولاته مع عون حول الصيغة الحكومية، رداً على اتهام الأخير له بالكذب في شأن مطالبته بالحصص الوزارية. وخلف ذلك ردود فعل متبادلة نقلت المواجهة الكلامية بين الجانبين إلى مستوى أكثر حدة. وهذا ما دفع وسائل إعلام محلية إلى تشبيه شراسة الاشتباك بين الرئاستين بحرب الإلغاء التي خاضها عون ضد "القوات اللبنانية" في عام 1989 بالدبابات والمدفعية من أجل السيطرة على المناطق الشرقية. ففريق عون يريد إنهاء تكليف الحريري برئاسة الحكومة بأي شكل، لكن موسكو تدخلت في الساعات الأخيرة لتأييد حكومة "المهمة" (التعبير الفرنسي) برئاسته.
الحريري اختار أن يؤجل الرد على اتهامات عون له، وتصريحات نواب "التيار الوطني الحر" ضده في الأشهر الماضية، بأنه يؤخر تأليف الحكومة، وأنه يعتدي على صلاحيات رئيس الجمهورية في الشراكة في عملية التأليف، وعلى حقوق المسيحيين بأن يختار هو معظم وزرائهم، إلى خطابه في 14 فبراير (شباط) في الذكرى السادسة عشرة لاغتيال والده الراحل رفيق الحريري. أشار زعيم تيار "المستقبل" إلى "كمية الكذب والافتراء والخرافات التي رُميت منذ أن اختارني النواب لتشكيل الحكومة"، فأعلن عن وقائع من 16 جلسة تفاوضية بينه وبين عون، دحض من خلالها ما تروجه الرئاسة من تسريبات لتبرير الحملة عليه أمام الرأي العام المسيحي، ولتبديد الاتهامات له بأنه وراء تأخير ولادة الحكومة أمام الرأي العام اللبناني.
تصعيد الضغط لتبديل موقف عون
وصف بعض المواكبين لجهود تسريع ولادة الحكومة ما طرحه الحريري بأنه "تصعيد للضغط السياسي على عون لعله يليّن أو يبدل موقفه ويخفض سقف مطالبه الحكومية"، فيتخلى عن فكرة حصول فريقه على الثلث المعطل في الحكومة الذي يتيح له ولصهره رئيس "التيار الحر"، النائب جبران باسيل، التحكم بعملها.
مناسبة 14 شباط ورئاسة الحكومة
ولاختيار الحريري هذه المناسبة مغزى، خصوصاً أن إحياءها هذه السنة اقتصر على كلمة متلفزة تفادياً لتجمعات شعبية ومهرجان جماهيري تحول دونهما جائحة كورونا، إذ درجت العادة على استنهاض جمهور تيار "المستقبل" حول شعار ما أو معركة سياسية ما في مثل هذا التاريخ. وجاءت المناسبة هذه السنة مع تصعيد من قبل عون ومحيطه ضد الحريري، بهدف إحراجه لإخراجه ودفعه للاعتذار عن التأليف من أجل تكليف شخصية أخرى مطواعة أكثر، في وقت يأخذ جمهور الحريري عليه تساهله حيال عون و"التيار الحر" في السنوات الأربع الماضية، ويطالبه بالتشدد حيال استضعاف رئاسة الحكومة، وعاد بعض هذا الجمهور للالتفاف حول زعيم "المستقبل"، ويدعم تمسكه بمواقفه إزاء ضغوط عون وحلفائه.
1 في المئة من الوقائع
فند الحريري التهم وعناصر الحملة الإعلامية التي تستهدفه من محيط عون و"التيار الحر"، فدحض تهمة الاعتداء على حقوق المسيحيين وصلاحيات الرئيس برواية وقائع من مطالبته لعون باقتراح أسماء وزراء واختياره 4 من لائحة سلمه إياها، وذكر بأن رفيق الحريري كان أول من أعلن "وقف العد" (أعداد المسيحيين والمسلمين الذين باتوا أكثر ديموغرافياً) تأكيداً على المناصفة بين الطائفتين حسب الدستور. وسأل الحريري محيط رئيس الجمهورية: "أين كنتم أنتم من حقوق المسيحيين حين بقيت الرئاسة شاغرة نحو 3 سنين؟"، في إشارة منه إلى أن تأييده عون للرئاسة عام 2016 أنهى الفراغ الرئاسي.
فاجأ الحريري عون الذي كان قال إنه "يكذب" في تعليقه على معلومات بأنه تسلم لائحة من الرئاسة لمرشحين للوزارة اختار منها أسماء، بأن روى كيف تسلم اللائحة منه، ثم رفعها أمام كاميرات التلفزة. أغاظت هذه الحركة محيط عون لأنها كانت رداً صاعقاً على اتهامه بالكذب... فبدا أن غيره هو من يكذب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في شأن الثلث المعطل الذي ينفي عون المطالبة به، لكنه بإصراره على تسمية عدد من الوزراء يحصل عليه تلقائياً في حكومة الـ18 وزيراً، شرح الحريري أسباب رفضه لهذا المطلب الذي وصفه بأنه "مستحيل" أن يقبل به، بالقول: "الثلث المعطل يعني بأفضل الأحوال أن كل قرار مهم تأخذه الحكومة، يجب أن نعود إلى صاحب الثلث، ونفاوضه، ونقايضه. وفي أسوأ الأحوال، صاحب الثلث قادر على أن يمنع النصاب عن الجلسات، لنفاوضه، ونقايضه... أو حتى أن يقيل الحكومة باستقالة وزرائه". ولذلك اعتبر إعطاء الثلث المعطل لأي فريق "مستحيلاً". كما روى الحريري تفاصيل ما قاله لعون في آخر جلسة بينهما (قبل يومين من خطابه)، بأن قال "أنا منفتح لأبحث بالأمر وأجد حلاً"، حيث أبلغه استعداده للبحث في تغيير بعض أسماء التشكيلة الحكومية التي كان قد سلمه إياها في 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، والتي يرفض عون التوقيع عليها.
أحد مستشاري الحريري قال لـ"اندبندنت عربية"، إن ما أفصح عنه الرئيس المكلف في خطابه حول المداولات بينه وبين عون هو "واحد أو 2 في المئة"، وإذا اضطره الأمر قد يفصح عن مزيد من وقائع جلسات التفاوض الحكومية في حال استمرت العرقلة.
ردود "التيار الحر" تتجنب رواية الحريري
شرح الحريري في خطابه المطول ما استنتجه في زياراته إلى كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا ومصر، وخصوصاً فرنسا، عن أنه في لقاءاته "وفي كل اتصالاتي ، هناك جهوزية وحماس، لمساعدة لبنان، لوقف الانهيار، لإعادة إعمار بيروت"، وكل ذلك يحتاج إلى قيام حكومة اختصاصيين غير حزبيين تحقق الإصلاحات وفق مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "وغير ذلك، لا أحد مستعد، ولا أحد سيساعد، والانهيار سيكمل حتى الانفجار الكبير".
ومع أنه ترك الباب مفتوحاً لإمكان التفاهم مع عون، فإن الردود على الحريري انهالت من نواب "التيار الحر"، فور إنهائه كلمته، من دون أن تتناول التفاصيل التي ذكرها، فاكتفى بيان للرئاسة بالقول إن الحريري تضمن "مغالطات وأقوالاً غير صحيحة لسنا في وارد الرد عليها"، لكن المستشار الرئاسي الوزير السابق سليم جريصاتي قال كلاماً شخصياً ضد الحريري حين وصف خطابه بأنه "تميز بخفة لا متناهية"، رافضاً كلامه عن "وقف العد"، معتبراً ضمانة المناصفة موجودة بالدستور "وليس لأحد أن يمنن على النصارى بأنه ضمانتهم". واستدرج جريصاتي رداً من إعلام تيار "المستقبل" وصفه بأنه "المفتن السياسي منذ أيام الوصاية السورية، الآتي من كنف الوصاية إلى كنف الوشاية".
نواب "التيار" ركزوا بدلاً من التطرق إلى ما رواه الحريري، على اتهامه بأنه يريد المقايضة على تشكيل الحكومة بوقف التدقيق الجنائي في أموال مصرف لبنان المركزي، مع أنه تناول هذا الموضوع في خطابه، مؤيداً طلب التدقيق هذا بإنفاق أموال الدولة منذ 1989 (أي منذ رئاسة عون الحكومة الانتقالية). وحسب مستشار الحريري تجنب قياديو "التيار الحر" دحض الوقائع التي ذكرها، نظراً إلى أنه لا حجج لديهم أمام صحتها. وبدا أن هذه الردود جاءت مستعجلة، وأن إعدادها سبق انتهاء الحريري من كلمته.
وتفيد معلومات "اندبندنت عربية" بأن الحريري كان قد ناقش مسألة التدقيق الجنائي مع عون في جلساته معه حول تأليف الحكومة، وأنه شدد أكثر من مرة على تأييده هذه الخطوة، وسبق لفريقه أن اقترح تدقيقاً سنوياً بحسابات مؤسسات الدولة كافة، لكنه حذر عون من سعي فريق الرئيس و"التيار الحر" إلى توجيه التهم عبر توجيهات إلى القضاء، وعن طريق التدقيق الجنائي بأموال مصرف لبنان، وبطريقة كيدية، إلى كل من رئيس البرلمان نبيه بري، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وليد جنبلاط، بأنهما مسؤولان عن هدر المال العام. وأبلغه أنه سيبقى مع التدقيق في حسابات وأموال كل المؤسسات ومصرف لبنان في كل الأحوال.
ولا يستبعد متابعون للتأزم بين الرئيسين أن يتناول الحريري في حال سيرد مرة أخرى على الحملة ضده، وقائع نقاشه مع عون عن التدقيق الجنائي، وما أبلغه إياه الأخير في هذا الشأن.
الانتقال إلى تهمة جديدة
واصل نواب "التيار" الحملة على الحريري في اليوم التالي، بتحييد الأنظار عن الوقائع التي سردها في خطابه، وبترويج إعلامي مقابل المعلومات التي أفادت بأن باريس باتت تعتبر أن على جبران باسيل أن يتوقف عن تعطيل تأليف الحكومة عن طريق الشروط التي يطرحها عن طريق عون، والتي تُخرج الحكومة عن صفتها المستقلة وغير الحزبية، لكن محيط الحريري يعتبر أن هذه التكهنات هي من نوع "البهلوانيات الإعلامية"، وأن الهدف الفعلي لعون وتياره هو التخلص من الحريري المُصر هذه المرة على عدم الاعتذار.
تفهم بري
هل من وسيط يمكن أن يهدئ الموقف تمهيداً لمعالجة عقد تأليف الحكومة؟ في وقت تتجه الأنظار مرة أخرى إلى باريس المعنية أكثر من غيرها بإنجاح مبادرة رئيسها، فإن الأخيرة ما زالت على انتظارها أن يحدث تقدم ما بين الأفرقاء اللبنانيين حتى تبادر.
راهن البعض على إمكان تجديد مبادرة الرئيس بري التي كانت قد حدثت قبل أسبوعين، ولم يقبل بها عون، والقائمة على قاعدة اختيار وزراء "ليسوا معنا، وليسوا ضدنا". وفي حين ذكر بيان لحركة "أمل" أنها الصيغة الأفضل للخروج من الفراغ الحكومي، نقل سياسيون التقوا رئيس البرلمان عنه تشاؤمه بإمكان قبول عون و"التيار الحر" بحل وسط من هذا النوع، متسائلاً إلى أين يأخذ هذا الفريق البلد الذي لم يعد يحتمل تجاذباً كالذي يحدث. وبدا بري متفهماً لموقف الحريري والمعطيات التي عرضها، فالمعطيات لديه أن التعطيل يتحمل مسؤوليته فريق الرئاسة.
موسكو تتحرك لدعم الحريري
لكن الاهتمام الدولي شهد تحركاً روسياً لافتاً غداة خطاب الحريري، الذي تلقى اتصالاً في 15 فبراير من الممثل الشخصي للرئيس الروسي ، نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف. وأفادت الخارجية الروسية بأنه "جرى التشديد على ضرورة التشكيل السريع لحكومة مهمة برئاسة الحريري الحائز أغلبية الأصوات في البرلمان، وكذلك التكليف من رئيس لبنان ميشال عون". وأشار البيان إلى أن الجانبين تناولا "مساعدة الجانب الروسي للبنان في مكافحة مرض كورونا، بما في ذلك إرسال دفعة لقاحات إلى بيروت".
وعلمت "اندبندنت عربية" أن بوغدانوف أطلع الحريري على محادثات موسكو في شأن الوضع اللبناني مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي أبلغه أنه لا ضرورة لتعليق الحكومة على حصول فريق عون الثلث المعطل. كما أطلعه على اتصاله قبل أكثر من أسبوع مع النائب جبران باسيل، الذي أبلغه خلاله عدم جواز عرقلة الحكومة الجديدة عبر طلب الثلث المعطل. وتعتبر موسكو أن الحريري هو الأقدر على ترؤس حكومة اختصاصيين غير حزبيين يمكنها الحصول على مساعدات مالية من المجتمع الدولي. وقالت مصادر مطلعة على الموقف الروسي إن تشديد بيان الخارجية الروسية على أن الحريري حائز أكثرية البرلمان وعلى تكليف رئيس الجمهورية هدفه قطع الطريق على أفكار بعض محيط عون بالسعي لحمل الحريري على الاعتذار.
كما أجرى بوغدانوف اتصالاً برئيس "الحزب الاشتراكي"، وليد جنبلاط، وتناول البحث "ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، وأهمية مبادرة روسيا للمساعدة في هذا المجال وتواصلها مع الأطراف المؤثرة، بما يساعد في تخطي العراقيل المصطنعة التي تعطل الولادة الحكومية"، حسب بيان من "الاشتراكي". ووجه بوغدانوف دعوة لجنبلاط لزيارة موسكو.