ما الذي يحدد قيمة كاتب ما؟ موهبته الكتابية التي يتلقاها كنعمة؟ بالتأكيد، لكن أيضاً وخصوصاً سعة ثقافته ومهارته في استثمارها داخل نصوصه، ومدى تطلبه من نفسه أثناء فعل الكتابة. ولا شك في أن استيفاء التونسي هادي قدور هذه الشروط الثلاثة هو الذي مكنه، بروايات ثلاث لا أكثر، من فرض نفسه ليس فقط كأبرز الروائيين الفرنكوفونيين المعاصرين، بل أيضاً كأحد أهم رواة القرن العشرين.
وفعلاً، رصد قدور روايته الأولى "والتنبرغ" (2005) لقراءة الأحداث التي عصفت بعالمنا من عام 1914 وحتى سقوط جدار برلين عام 1991، مشيداً لهذه الغاية قصة جاسوسية آسرة تضارع في قيمتها قصص أحد كتابه المفضلين، جون لو كاريه. وفي روايته الثانية "آداب السلوك" (2010)، ارتكز على قصة حقيقية بين كولونيل وخادمة لتصوير وضع بريطانيا خلال الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين. وفي "المهيمنون" (2015)، التي تدور أحداثها في العشرينيات بين المغرب العربي وأوروبا وأميركا، خلط بمهارة فريدة أقدار عدد كبير من الشخصيات لمقاربة أحداث سياسية كبرى حددت مسار القرن العشرين بكامله.
لكن ثقافة قدور الواسعة، التي تظهر في هذه الروايات، لا تقتصر على ما حدث خلال القرن الماضي، كما يتجلى ذلك بقوة في روايته الجديدة، "ليلة الخطباء"، التي صدرت حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية، وتسقطنا أحداثها في روما خلال القرن الأول ميلادي. رواية رائعة شكلاً ومضموناً استقى قصتها من رسائل الكاتب والمحامي اللاتيني بلينيوس الأصغر، وتحديداً من تلك التي رصدها لقضية الفساد التي رفعها وربحها السيناتور والمحامي الروماني سينيسيو ضد حاكم ولاية بيتيكيا (الأندلس) بايبيوس ماسا.
التهديد بالموت
بطل الرواية ليس بلينيوس أو سينيسيو، بل الزوجان لوكريسيا وبوبليوس المعرضان للتهديد بالموت على يد القيصر الطاغية دوميسيان لمساعدة بوبليوس سينيسيو وبلينيوس في قضية الفساد ضد ماسا. لوكريسيا ابنة الجنرال الروماني الشهير أغريكولا، وبوبليوس ليس سوى السيناتور والمؤرخ اللاتيني الكبير تاسيتس. لكن "ليلة الخطباء" ليست سيرة روائية حول هاتين الشخصيتين التاريخيتين، وإن تضمنت ما يلزم من عناصر لسرد قصتهما، وسرديتها لا تمتد زمنياً على طول حياتهما، بل تتركز أحداثها في ليلة واحدة، من هنا عنوانها المستقى بدوره من أحد كتب بلينيوس الأصغر، "حوار الخطباء".
في مطلع تلك الليلة، تطلب لوكريسيا الجميلة من زوجها ملازمة المنزل وتتوجه مع حشد من خدمها لمقابلة القيصر دوميسيان وطلب الرحمة منه. ولا عجب في ذلك، فبوبليوس الذي زوجها والدها به وهي في سن الحادية عشرة معرض، بسبب تورطه في القضية المذكورة، للنفي في أفضل الأحوال، وعلى الأرجح للموت بواحدة من الطرق المرعبة التي كانت شائعة آنذاك. وثمة تهديد آخر يتوجب أن تأخذه في عين الاعتبار وتتعامل معه: عشيقة زوجها، فلافي، التي تنافسها على حبه ويمكن أن تتحول إلى منافسة سياسية قاتلة.
انطلاقاً من هذه الوحدة الزمنية (ليلة) والمكانية (فيلا لوكريسيا وبوبليوس وقصر دوميسيان)، شيد قدور صرح روايته موزعاً فصولها على سلسلتين وفقاً لإيقاع غير منتظم، ثري وموثق. فمن جهة، لدينا الفصول المكرسة للوكريسيا التي ستبدي فناً عالياً في التفاوض لإنقاذ زوجها، ومن جهة أخرى، الفصول المكرسة لبوبليوس القارئ النهم والكاتب الذي لم يكن قد أصبح بعد المؤرخ اللامع. وثمة سلسلة فصول ثالثة مرصودة لشخصيات أخرى كثيرة تقع على هامش السردية الرئيسة وتحضر على شكل مونولوغات داخلية ندخل فيها إلى ذهن كل واحدة من هذه الشخصيات ونتعرف إلى تقاطع أو تضارب مصالحها، وإلى مختلف أنواع المؤامرات التي توقع الحياة اليومية في عهد قيصر طاغية على وشك السقوط و"يحب أن يفعل أشياء تقوده إلى كره نفسه، ومن عمق هذه الكراهية، إلى مضاعفة جرائمه وإذلاله" للآخرين.
ولخط هذا العمل الفريد، اختار قدور لغة معاصرة في رشاقتها ومناوراتها تتراوح جملها بين قصيرة عصبية وأخرى أطول، ذهنية طوعاً، تتبع في تعرجاتها حركة تفكير كل واحدة من الشخصيات المستحضرة. اختار أيضاً صيغة الحاضر الحيوية التي تسقط القارئ في زمن الأحداث المسرودة، مستعيناً براو يتمتع بصوت بارد ويحافظ على مسافة نقدية ضرورية مما يرويه، ويحرك شخصياته بمهارة فريدة، كما لو أنها بيادق، متأملاً في طبيعتها ومفسراً خياراتها ومحركاتها. وفي هذا السياق، يتوقف بالتفصيل عند وظيفة كل شخصية أو مجموعة أو مكان "البواب، الواشي، العشيقة الرسمية، محافظ المدينة، قائد المئة، الجوقة، الفضاءات المرصودة للاجتماعات العامة، والأجنحة المختلفة داخل قصر القيصر أو في الفيلا الرومانية التقليدية..."، مثرياً نثره الأخاذ بعبارات لاتينية تحتاج غالباً إلى أكثر من كلمة فرنسية لترجمتها، عبارات "قانونية، عسكرية، سياسية"، أو تتعلق برتب رجال ونساء، وتقول عالماً مألوفاً لنا، وفي الوقت نفسه مختلف بشكل راديكالي عن عالمنا، عالماً كل شيء فيه مقنن، وفي الوقت نفسه خاضع لأهواء فرد واحد.
فلسفة الرواقية
وفي عالم من هذا النوع، يأخذ مذهب الرواقية الذي كان منتشراً آنذاك في روما، ويدعو إلى مواجهة العذابات والشدائد باللامبالاة، كل معناه. إذ شكل المقاومة الوحيدة الممكنة لاستبداد دوميسيان، والمساحة الضيقة التي يصعب الحفاظ عليها، وتسمح للمرء بالحفاظ على حريته وكرامته. ولذلك، لم يكن هذا القيصر يحب الفلاسفة فطردهم من روما، يذكرنا قدور في معرض تحليله تلك الحقبة والشهادة على وقائعها وتوثيقها. سعي يجعل من مقارنته بتاسيتس الشاب ممكنة، لولا أنه لا يقطن وطناً آخر يدعى الأدب، ولولا أن افتتانه لا يذهب إلى جوهر هذا الوطن، أي الشعر الذي وضع فيه سبعة دواوين. افتتان يظهر في ما يقوله في الشاعر الروماني جوفينال "يريد أن يكون شاعراً، يحلم في وضع داخل كتاب كل ما يفعله البشر، كل عالمهم". يظهر أيضاً في سخريته من أورفيوس بقوله "لا نصنع شعراً جيداً من شكوى أرمل"، وفي اعتباره أن مصدر الشعر هو في الواقع ابن أبولون، أريستيه، الذي علم البشر تربية النحل واشتهى قدمي يوريديس في يوم عرسها إلى حد جعلها تفر منه وتقتل بقرصة ثعبان. يظهر خصوصاً في الفصل الذي رصده لبترون، الكاتب الروماني الكبير الذي تجرأ على كل شيء في كتابه الشهير "ساتيريكون": على عدم اتباع أي قاعدة شكلية، على حبك نصه وما يقوله فيه بطريقة تهزأ بالأنواع الأدبية، على مزج التافه بالجميل والثمين، على التحدث في موضوع الجنس بفجاجة لم تكن معهودة آنذاك، على استخدام عبارات غير فصيحة وأخرى من ابتكاره، على زرع البلبلة وفبركة سديم لا نهاية له، وبالنتيجة، ومثل قدور تماماً في روايته، على قول من خلال كل ذلك ما يمكن أن يحدث للعالم حين لا يعود هنالك قواعد أو قوانين فيه سوى الرغبات المتضاربة لطاغية.
وهذا ما يقودنا إلى قيمة "ليلة الخطباء" التي تكمن أولاً في مساءلتها مكانة الخطاب في المدينة الرومانية، وفي تأدية اللغة دور المحرك لسرديتها. فمن فيض أفكار لوكريسيا إلى المرافعات الاتهامية، ومن الخطب السياسية إلى طموحات تاسيتس الأدبية، ومن الحوارات أثناء الولائم إلى الأمسيات الأدبية، ومن الكلمات التي كان يتم تبادلها في السر إلى الاقتباسات اللاتينية التي توقع السردية، تتشكل تحت أنظارنا مكتبة لاتينية كاملة حول عالم على وشك الزوال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تكمن أيضاً قيمة الرواية في استخدام قدور الحاذق فيها ذلك الفصل المحدد من التاريخ لخط بورتريه دقيق لمحيط المثقفين والمفكرين الرومان عند نهاية القرن الأول الميلادي الذين اشتبه نظام دوميسيان بهم في انتقاد سلطته وإثارة أفكار انقلابية، ومعظمهم كانوا رواقيين. تكمن أخيراً ــ وليس آخراً ــ في المعرفة المدهشة التي يبديها في النصوص اللاتينية القديمة وفي استثماره إياها بطريقة تبين راهنيتها. وفي هذا السياق، تبهرنا قدرته ليس فقط على إعادة تشكيل أجزاء كاملة من الحضارة الرومانية (كما في الفصل الذي رصده لتصوير الحياة في حي سوبورا الشعبي الروماني)، بل أيضاً على إعادة إحيائها في سيكولوجيتها العميقة بغية كشف ما يمكن أن تقوله لنا اليوم، بعد ألفي سنة.
وبالنتيجة، "ليلة الخطباء" ليست مجرد جدارية تاريخية مدوخة، بل رواية معاصرة تحث على التأمل والتفكير أكثر من أي بحث تاريخي، وتبين كم يعاني الفرد للبقاء على قيد الحياة في ظل الاستبداد ووسط المخبرين والشائعات القاتلة، عبر تصويرها بدقة ذلك المناخ المرعب الذي يصبح الالتزام بالصمت فيه عملاً مشبوهاً، ويتعين على الفرد داخله البقاء في حالة جهوزية دائمة لتخمين نيات محاوريه، وإتقان الكلام من دون التفوه بكلمة، وامتلاك القدرة على التواري بين الحضور.
باختصار، رواية كتبها قدور خصوصاً ليطرح من خلالها سؤالاً مزدوجاً وحيداً وعابراً للزمن "ما الذي يمكننا أن نقوله ونفعله في ظل نظام استبدادي، وكيف يمكن للكلمة أن تكون الترياق أو السم، فتنقذنا أو تهلكنا؟".