نعرف أن تحويل السينمائي التشيكي ميلوش فورمان لمسرحية الكاتب بيتر شيفر البديعة "أماديوس" إلى فيلم في ثمانينيات القرن العشرين كان من النجاح إلى درجة أنه كان مناسبة، أولاً لعودة الاهتمام العالمي العام بموسيقى موتسارت عشية الاحتفالات العالمية بالمئوية الثانية لرحيل الموسيقي "المعجزة"، وثانياً لعودة الثقة بأن الفن السينمائي قادر على اقتباس مسرحية ما بشكل رائع، وثالثاً لاكتشاف الموسيقي أنطونيو سالييري الذي كان طيّ النسيان طوال سنوات وعقود، ولكن اكتشافاً سلبياً بوصفه رمزاً للحسد، كواحدة من الخطايا السبع. وهكذا تضافر يومها محبو موتسارت وهواة السينما ليجدوا أنفسهم متجمعين من حول عمل إبداعي. غير أن ما لم يهتم به كثر يومها، كان في مكان آخر تماماً: كان في معرفة الأصل الذي منه اقتبس بيتر شيفر مسرحيته. ولعل كثراً اعتقدوا أنه انطلق من سيرة حياة موتسارت أو شيء من هذا القبيل. لكن هذا غير دقيق. فالحقيقة أن مسرحية "أماديوس" هي اقتباس مطوّل وناجح إلى حد كبير لمسرحية قصيرة من فصلين كتبها شاعر الروس الكبير ألكسندر بوشكين عام 1826 حين كان مقيماً في قريته الروسية الصغيرة ميخائيلسكوي عازماً على إنجاز مشروع كتاب – مسرحي يعوّل عليه كثيراً لأسباب فكرية أكثر مما لأسباب جمالية.
بين جيلين وموسيقيين
وكانت مسرحيته التي عنونها "موتسارت وسالييري" الخطوة الثانية في المشروع الذي كان يجب أن يتألف من سبع مسرحيات قصيرة يصوّر الكاتب في كل واحدة منها واحدة من الخطايا السبع. أما الخطيئة التي تصورها هذه المسرحية فكانت الحسد. وبالتحديد الحسد الذي كان يتآكل فؤاد الموسيقي الإيطالي المقيم في فيينا في ذلك الحين ويشغل فيها منصب موسيقي البلاط، أنطونيو سالييري، وهو يراقب بأم عينيه صعود موتسارت الشاب وانتشار أعماله لتنال حظوة لدى القيصر النمساوي كما لدى جمهور فيينا في انطلاقة نحو أوروبا بموسيقى مجددة بدت عجائبية ومدهشة ومؤسّسة. وانطلاقاً من هنا، وإذ كان رحيل الموسيقي الشاب حدثاً طازجاً أيام بوشكين راحت تتناقله الصحف وسط نوع من إجماع على أنه إنما كان نتيجة لمؤامرة دبرها سالييري لقتل موتسارت بسم دسّه له بنفسه في خمر قدمه له، وجد بوشكين موضوعه جاهزاً للكتابة جاعلاً إياه يتوزع على ذينك الفصلين اللذين يحملان "اعترافات" سالييري بأنه هو الفاعل.
ثم غاب مشروع الخطايا
في البداية صمّم بوشكين مسرحيته بحماسة لتكون ثاني المجموعة، غير أنه لم يستكمل العمل مبقياً على المخطط قعيد رفوف مكتبته الريفية يكاد الغبار يتآكله. ثم لاحقاً، ومن دون أن ينجز المشروع ككل، اكتفى بأربع مسرحيات قصيرة من النوع ذاته ليصدرها مجموعة في كتاب عنونه "تراجيديات صغيرة"، وقد أهمل تماماً بقية الخطايا. ولا بد أن نشير هنا إلى واقع أن بوشكين لم يزعم أبداً أنه كان يتبع حقيقة الأمر حين بنى مسرحيته كلها على ما افترضه من اعتراف سالييري بما فعل. فتاريخياً، لم يعترف سالييري بأيّ شيء، ولم يُتهم بشيء. كل ما في الأمر أن الشاعر الروسي تخيّل الفاجعة من خلال "خبريات" صحافية يضعها بعض المؤرخين في خانة "حملة عنصرية استشرت في تلك الأيام ضد الإيطاليين المقيمين في فيينا، وكان سالييري منهم" ولم تبارح صفحات الصحف. بالتالي فإن العمل بقي عند حدوده الفنية كعمل متخيّل يمكن من خلاله تتبع سيرة ما مفترضة لموتسارت، وربما تحاول أن تجد تفسيراً لنهايته المفجعة يربط موته ليس فقط بالوباء الذي استشرى حينها وكان تاريخياً، واحداً من ضحاياه، ولكن تفسر في الوقت نفسه، علاقته بأبيه هو الذي كان خلال ذلك يلحن أوبراه الرائعة "دون جيوفاني" جاعلاً من أبيه صاحب شخصية الفارس الشبح العائد بعد الموت. وإلى هذا كله بدا نص المسرحية ملائماً أيضاً لتفسير ظروف كتابة موتسارت لآخر عمل كبير له وهو "جنّاز الموتى"، الذي نعرف تاريخياً أنه مُوّل من قبل الماسونيين الذين كان موتسارت منتمياً إليهم، لكن نص بوشكين يلمح إلى أن سالييري كان هو ذلك الشخص الغامض الذي أوصاه على كتابته كوسيلة لإنهاء حياته.
في ذلك كله إذاً، اختلط التاريخ بالفن بشكل جعل الفن أكثر قدرة من التاريخ على الإقناع، حيث نلاحظ أن بوشكين انطلق من فرضيات قابلة للتفسير بأفضل مما يفعل التاريخ الحقيقي الذي بقي مليئاً بالألغاز. ومن الواضح أن هذا بالتحديد ما أغرى مسرحيّ نهايات القرن العشرين بيتر شيفر، بالاستناد إلى "الحقائق" التي عبّر عنها بوشكين، ليكتب مسرحيته التي أتت أكثر إفصاحاً من مسرحية سلفه الروسي، وأوسع خيالاً منه بكثير.
بين الإنسان والفنان
فالمسرحية تنطلق كما ألمحنا من سالييري الموسيقي الذي كان راسخ المكانة في بلاط فيينا وعالم سالزبورغ. إنه هنا اليوم، أمامنا، حزين وقد ألمّ به جنون لا شفاء منه. يطالعنا أول ما يطالعنا في المأوى الذي أحيل إليه أنه أصيب بانهيار عصبي فظيع. والسبب؟ موتسارت. من هنا ها هو يروي لنا الحكاية بنفسه. والحكاية هي طبعاً حكاية موتسارت، ذلك الفتى الذي كان "لا في العير ولا في النفير"، والذي بدأ يصعد إلى عالم الموسيقى بشكل مفاجئ. وهذا الصعود يروى لنا هنا على لسان سالييري وقد فقد عقله تقريباً. غير أن المهم هو أن سالييري هذا تتنازعه أمامنا، بشكل دائم، مجموعة من العواطف والمواقف. صحيح أنه يشعر بالمرارة ويحقد على زميله الأصغر سناً، لكنه يفعل هذا كإنسان، أما كفنان فإنه يكشف بين الحين والآخر، وربما من حيث لا يدري ولا يقصد، عن مدى إعجابه العنيد والقوي بابتكارات موتسارت الموسيقية. وربما يكون سالييري من أول وأكبر المعجبين بموتسارت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع مع الذات
ولكن أفلا تكمن مشكلته الأساسية هنا؟ ألا تكمن في هذا الإعجاب الكبير نفسه، ولنوضح: إن سالييري، ومنذ ظهور موتسارت في الساحة الموسيقية رصد، في شكل من المبالاة ممزوجة مع قدر ضئيل من القلق، ذلك الظهور... لكن تقدم موتسارت كان من السرعة والقوة بحيث أن قلق سالييري راح يتفاقم، خصوصاً حين راح يراقب ردود الفعل الشعبية والرسمية على إبداعات ذلك العبقري الصغير. أمام هذا ما كان يمكن لقلقه إلا أن يزداد حدة وعناداً. فإذا أضفنا إلى هذا أن إبداعات موتسارت بدلاً من أن تحرك سالييري وتدفعه إلى إعطاء الأفضل، أحبطته تماماً. لكن هذا كله ظل في حدود المعقول، حتى وإن عمّ الإعجاب بموتسارت كل الناس وراحوا ينصرفون عن سالييري وبقية المجايلين. هنا لا شك بأنه كان من حق سالييري أن يشعر بأن فيينا وسالزبورغ تخونانه. إنه أمر يصعب قبوله، لكنه يظل ممكناً من دون أن يتحول إلى حالة مرضية. فما الذي أوصل سالييري إلى هذه الحالة؟
تمايز عن بوشكين
بكل بساطة تفيدنا القراءة المعمقة والمتنبهة لمجريات المسرحية الحديثة، ولما يرويه لنا سالييري، أن مشكلة هذا الأخير الحقيقية والمرضية التي أودت به إلى الجنون، بدأت حين راح يرصد أنه هو نفسه بات خائناً لنفسه، انضم من حيث لا يدري إلى خانة المعجبين بموتسارت من دون قيد أو شرط. صار بدوره رافضاً لموسيقى سالييري لمصلحة موسيقى موتسارت. والمرء يمكنه أن يتحمل أية خيانات يتعرض لها، باستثناء خيانة الذات... أي خيانته لذاته كما نعرف. ومن هنا، عند هذه النقطة بالذات تحمل مسرحية "أماديوس"، في افتراق عن منطق مسرحية بوشكين، منطقها الخاص وتتحول من عمل عن موتسارت حتى وإن بقي في سياقه العام وشكله الأساس عملاً عن موتسارت، إلى مسرحية عن سالييري. وفي اعتقادنا أن سر هذا العمل ونجاحه والتفاعل معه تكمن ها هنا بالتحديد، بغض النظر عن روعة الفيلم الذي اقتبسه فورمان وأسند فيه الأدوار الرئيسة إلى ممثلين مدهشين: موراي أبراهام في دور سالييري، وتوم هالسي في دور موتسارت.