تقصّد الموفد الشخصي للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف التشديد على موقف بلاده من الأزمة السياسية في لبنان يوم الجمعة 19 فبراير (شباط)، خلال اجتماعه مع السفير اللبناني في موسكو شوقي بونصار، الذي كان طلب لقاءه للاستفسار منه عما يحكى حول مبادرة روسية حيال لبنان.
ولم يكن تسريب ما دار في اللقاء صدفة أو شطارة من بعض الأوساط، بل كان مقصوداً أن يُنسب أيضاً إلى "مصادر دبلوماسية روسية"، وأن يتناول ليس فقط ما جرى تداوله عن لبنان، بل عن سوريا أيضاً.
المصادر هذه أفادت بأن البحث تناول "تطورات الأوضاع في لبنان وآفاق دفع التسوية السورية قدماً مع الأخذ بالاعتبار الجولة الـ15 من اجتماعات صيغة أستانا حول سوريا، التي انعقدت يومي 16 و17 من الشهر الحالي في سوتشي".
وتابعت، "أكد الجانب الروسي دعمه الثابت لسيادة لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، وضرورة حل كافة المسائل على جدول الأعمال الوطني من قبل اللبنانيين أنفسهم من دون أي تدخل خارجي. كذلك تطرق الطرفان إلى بعض المسائل العملية المتعلقة بمواصلة العمل على تعزيز علاقات الصداقة التقليدية بين روسيا ولبنان".
لكن بيت القصيد مما جرى تسريبه أن المصادر الدبلوماسية الروسية لفتت إلى أن بوغدانوف أكد للسفير اللبناني "دعم روسيا للرئيس سعد الحريري في تشكيل حكومة مهمة فاعلة، وأن لا يكون لأي طرف فيها ثلث معطل".
الانزعاج الروسي من ملاحظات شخصية وفئوية
ولم تكن المرة الأولى التي تضطر فيها موسكو إلى التوضيح بأنها تدعم عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة. فهي كانت تميل إلى توليه المنصب حتى عندما جرت تسمية السفير مصطفى أديب لتأليف الحكومة في 31 أغسطس (آب) الماضي، لاعتقادها أنه قادر بعلاقاته الخارجية على استجلاب الدعم المالي لإنقاذ لبنان من المأزق المالي الاقتصادي الخطير الذي هو فيه. وتدرّج الموقف الروسي بين إبلاغ الفرقاء المتصلين بموسكو بتشجيعهم على التعاون بين الأطراف كافة، ثم تأكيدها لهم قناعتها بأن الحريري أقدر على تولي المهمة، وصولاً إلى المجاهرة في ذلك أمام زوار العاصمة الروسية وفي اتصالات تجري بعيداً من الأضواء. فالحرص على إبلاغ السفير بونصار بالموقف يعني أن الأخير رفع تقريراً لوزارة الخارجية في بيروت نقل فيه ما سمعه من المسؤول الروسي، ولا بد من أن يطلع رئيس الجمهورية ميشال عون عليه من خلال وزير الخارجية شربل وهبة.
العارفون بالموقف الروسي يشيرون إلى خلفيات مباشرة لموقف الخارجية الروسية الأخير. فالمعروف أن بوغدانوف على اتصال مع عدد من القيادت السياسية اللبنانية من زاوية متابعتها لتفاصيل الجهود الهادفة إلى معالجة الأزمة السياسية، فضلاً عن لقاءات السفير في بيروت ألكسندر روداكوف. إلا أن بوغدانوف لمس وجود حملة عليه رداً على نصائحه لا سيما لـ"التيار الوطني الحر" بضرورة التعاون مع الحريري، في بعض وسائل الإعلام، وصفت موقفه بأنه "شخصي"... كما أن الجانب الروسي انزعج من ملاحظات فئوية أبداها بعض رموز "التيار الحر" حيال موقفه، بالتلميح إلى أنه يتواصل ويتعاون مع الحريري ومع رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، (وجه إليه دعوة لزيارة موسكو فضّل الأخير تأجيلها في انتظار التلقيح ضد كورونا)، وأنه لا يأخذ في الاعتبار موقف القوة المسيحية الأبرز في البلد، أي قيادة "التيار الحر" ورئيسه جبران باسيل. فالجانب الروسي لا يدخل في حسابات موقفه التنافس ذات الطابع الطائفي، بل يتعاطى مع البلد من زاوية اهتمامه بالاستقرار فيه. فموسكو على تنسيق مع باريس في شأن الدفع في اتجاه تأليف الحكومة وإطلاق مسار إنقاذي يبدأ بالإصلاحات بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، طالما أن الرئيس إيمانويل ماكرون (منذ اتصاله بالرئيس فلاديمير بوتين بعيد انطلاق المبادرة الفرنسية) تعهد بالسعي لدى الدول المانحة والمؤسسات المالية من أجل تأمين مساعدات مالية، لبنان بأمس الحاجة إليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والتأييد الروسي لوضع الحلول على السكة في لبنان، ذهب إلى حد قول بوغدانوف إن حصول فريق في الحكومة على الثلث المعطل سيعرقل عمل الحكومة المطلوب منها إنجازات كثيرة. وفي وقت راجت أنباء في لبنان عن أن موسكو سترسل موفداً في الأسبوع المقبل إلى بيروت في إطار مبادرة ما من أجل تشجيع الفرقاء على تسريع تأليف الحكومة، وعززت تلك الأخبار حديث بعض القياديين في "التيار الوطني الحر" بالاستناد إلى زيارة أحدهم النائب السابق أمل أبو زيد قبل أكثر من أسبوعين، فإن من التقوا بوغدانوف خرجوا بانطباع أن هذا الأمر غير وارد في موسكو، التي تكتفي بإجراء الاتصالات وتمرير رسائلها عبر اتصالاتها واللقاءات مع ممثلي بعض الفرقاء الذين يزورون موسكو.
القلق على الأمن في لبنان وتأثيره على سوريا
أما الخلفيات غير المباشرة للموقف الروسي المجاهر بالحث على تشكيل الحكومة، فيعود إلى مخاوف موسكو من إطالة أمد الفراغ الحكومي، لأنه يحمل مخاطر المس بالاستقرار الذي تحرص عليه. فموسكو تنظر إلى الوضع اللبناني انطلاقاً من نظرتها إلى الوضع الإقليمي، لا سيما في سوريا، وتحرص على ألا يضطرب الوضع الأمني في لبنان جراء الانهيار الاقتصادي الذي يغرق فيه البلد، وأن تنجم منه حالة فوضى، في وقت يحتضن لبنان أكثر من مليون نازح سوري سيتأثرون بها، بالتالي قد ينعكس ذلك على الوضع في سوريا حيث لديها قوات منتشرة هناك. والاهتمام الروسي بالاستقرار اللبناني ينسحب أيضاً على مسألة الحدود اللبنانية الإسرائيلية، إذ تحرص في العمق على تجنب أي مواجهة بين "حزب الله" وإسرائيل، لئلا تنعكس أيضاً على سوريا وبالتالي على قواتها فيها.
تعتقد موسكو أن وجود الحريري كزعيم سني معتدل على رأس الحكومة، يشكل صمام أمان في منطقة مشتعلة تتداخل فيها العوامل الجيو سياسية للصراعات مع التناقضات المذهبية، في ظل التمدد الإيراني، في وقت تسعى هي إلى الحل السياسي للأزمة السورية وتمارس نفوذها على دمشق من أجل ترجيح كفة الحلول على التصعيد العسكري. كما أن موسكو تحرص على مراعاة مصالح السنة في سوريا وفي المنطقة نظراً إلى وجود ملايين المسلمين السنة كمواطنين في الاتحاد الروسي.
نظرة موسكو إلى سوريا وإيران
وإذا كان هذا الحرص الروسي معروفاً لمتابعي سياسة موسكو في الإقليم، فإن لدى المحللين للتطورات الأخيرة المتعلقة بسوريا قراءة تدعو إلى عدم إهمال المستجدات الدولية والإقليمية في بلاد الشام، في فهم أبعاد موقف القيادة الروسية من الأزمة اللبنانية. وثمة جانب في موقف موسكو له علاقة بالحذر الروسي من السياسة الإيرانية في سوريا وبالتالي في لبنان.
فعلى الرغم من تحالف المصالح بين روسيا وإيران، والتفاهم على عديد من القضايا الإقليمية، لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لاكتشاف التباينات في هذه المصالح في المقابل، لا سيما في سوريا، سواء في التنافس على النفوذ في دائرة القرار داخل النظام والجيش والتشكيلات المسلحة، وفي الامتيازات الاقتصادية والأمنية وفي اختلاف التحالفات في الميدان العسكري، فضلاً عن غض النظر الروسي عن مواصلة إسرائيل قصفها لعشرات المواقع التابعة لـ"الحرس الثوري الإيراني" والميليشيات التابعة له على الأراضي السورية... واعتراض القيادة العسكرية الروسية على تركيز إيران قواعد وصواريخ في مناطق مختلفة لا سيما في الجنوب على تخوم الحدود بين سوريا والجولان.
وزاد إفشال المحاولات الروسية الأخيرة لإحداث تقدم في خطوات الحل السياسي، لا سيما خلال محادثات لجنة صياغة الدستور في جنيف أواخر شهر يناير (كانون الثاني) الماضي. وتفيد المعطيات أن الدبلوماسية الروسية تنسب هذا الفشل إلى تعنت نظام بشار الأسد وإلى دور التشدد الإيراني وتأثيره على الأسد في ذلك. والمسؤولون الروس، يتبرمون من عرقلة إيران لتقدم الحل السياسي.
رهن الحكومة بالمفاوضات على النووي يؤخرها
وتشير هذه القراءة للموقف الروسي إلى أنه إذا كان الجانب الإيراني يرهن تسهيل معالجات الأزمات في عدد من دول الإقليم بقبول الإدارة الأميركية الجديدة بالتفاوض معه على رفع العقوبات، مقابل العودة إلى الالتزام بالاتفاق على النووي، فإن موسكو لا ترى فائدة من ذلك سواء في سوريا أو في لبنان، لأن الأمور ستأخذ وقتاً. فوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أبلغ نظيره الروسي سيرغي لافروف حين زار موسكو في 26 يناير، أن طهران مع اعتماد سياسة الخطوة خطوة مع واشنطن في التفاوض على العودة إلى الاتفاق النووي والتزاماته، بحيث مقابل كل خطوة إيجابية تخطوها الإدارة الأميركية في العودة إلى نصوص الاتفاق، وفي إزالة العقوبات المفروضة على إيران، تقدم الأخيرة على خطوة مقابلة في العودة عن إجراءاتها بتخصيب اليورانيوم فوق الدرجة التي ينص عليها الاتفاق. إلا أن موسكو أكدت في حينها أن على طهران ألا تخرج بدورها عن نصوص الاتفاق وتذهب بعيداً في ذلك، وأن تبرهن على التزامها.
وموسكو ليست بعيدة من القناعة القائلة إن إيران تصعد عن طريق الميليشيات الموالية لها في وجه واشنطن، في كل من العراق واليمن وسوريا وفلسطين، وتسمح للحوثيين بقصف مواقع في السعودية من أجل تسريع إقبال إدارة الرئيس جو بايدن على التفاوض معها. وعلى الرغم من توافق وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكين مع وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا في 18 فبراير على العودة إلى المسار الدبلوماسي مع إيران في إطار اجتماعات مجموعة 5+1 مع إيران، على أن تعود طهران للامتثال التام للالتزامات ببنود الاتفاق النووي، فإن موسكو تعتقد أن واشنطن غير مستعجلة بقدر حاجة طهران إلى رفع العقوبات، خصوصاً أن الإدارة الأميركية تنوي مع الدول الأوروبية توسيع المحادثات لتشمل برنامج الصواريخ الباليستية وتدخلات طهران في المنطقة.
وعليه فإن خشية موسكو من أن يشمل التشدد الإيراني لبنان ويؤدي إلى عرقلة تأليف الحكومة، دفعها إلى إثارة المسألة مع ظريف خلال زيارته قبل زهاء شهر، فكان جواب الأخير لاحقاً أن طهران ليست مع تأخير الحكومة اللبنانية وتتفق مع موسكو على أن لا حاجة لحصول أي فريق على الثلث المعطل وأن يتسبب ذلك في تأخير تشكيل الحكومة. إلا أن السؤال يبقى مطروحاً حول حقيقة الموقف الإيراني لأن ظريف كرر عدم ارتياح طهران للمبادرة الفرنسية في لبنان بقوله، لماذا جاء الفرنسيون إلى لبنان وماذا يفعلون هناك؟