كشفت أبحاث أثرية أجريت حديثاً أن بريطانيا السلتية في العصور المظلمة شهدت تطويب مئات الأشخاص واعتبرتهم قديسين بعد وفاتهم. ومنذ زمن بعيد، أشارت أساطير وأسماء أمكنة عدة وتقاليد أخرى، إلى إمكانية حدوث تلك الأمور. وللمرة الأولى، أكدت الأبحاث الأثرية المهمة التي أجريت في الآونة الأخيرة صحة تلك الوقائع، بالأدلة العلمية.
كذلك تكشف الأبحاث أن معظم أولئك المطوبين كانوا أفراداً من نخب أرستقراطية، بل يمكن القول بثقة إن 3 من كل 4 أفراد من الطبقة الأرستقراطية في بريطانيا السلتية في العصور المظلمة (القرون الوسطى) Britain’s Dark Age Celtic، قد منحوا مرتبة القداسة.
واستطراداً، تفصح الأبحاث الأثرية الجديدة عن الأهمية الاستثنائية لـ"طائفة القديسين"، التي سادت على نطاق واسع في بريطانيا السلتية. وتضمنت الأبحاث الجديدة دراسة تحليلية لمئات الكتابات والنصوص المنقوشة، التي كُتب بعضها بحروف غامضة أشبه بالرموز، تعود لحقبة العصور المظلمة. وآنذاك، استُخدِمَتْ عملية منح مراتب القداسة في ترسيخ حضور الدين المسيحي بين عموم الشعب، وربما أيضاً في تبجيل واحترام أفراد النخبة الأرستقراطية.
وفي هذا الإطار، تشير الأبحاث إلى أن العامل الذي يقف وراء توسع "طائفة القديسين" في العصور المظلمة، تمثل بعدد متزايد من الجماعات الرهبانية الصغيرة، وانتشار الأديرة الكبيرة، التي كرست حضورها في غرب بريطانيا وشمالها في القرنين الخامس والسادس. إذ يبدو أن أفراد النخبة الأرستقراطية الحاكمة آنذاك، لم يؤسسوا الأديرة الجديدة وحسب، بل سكنوا فيها أيضاً مع بعض أبنائهم وبناتهم. فغدت تلك الأديرة رمزاً لـ"خشوع طبقة النخبة"، وكذلك ساعدت مرتبة القداسة التي راحت تُمنح إلى أفراد النخبة، في تعميم المسيحية والترويج لدعاتها النبلاء والملكيين.
وفي ذلك السياق، امتلك أولئك القديسين حضوراً نافعاً أيضاً في نواح عملانية عدة. إذ اعتُبروا بيقين شبه راسخ، أشخاصاً قادرين على التوسط عند الله من أجل مساعدة البشر العاديين في حل مشكلاتهم الاقتصادية والصحية والعائلية.
في السياق ذاته، تظهر الأبحاث أنه بهدف تلبية حاجة الشعب إلى شفاعة القديسين على الأرجح، فقد انتشرت أعداد كبيرة من تماثيل ونصب "مشاورة القديسين" عند نواصي الطرق، وفي مواقع عدة أخرى تسهل رؤيتها. وفي ذلك الإطار، يبرز أن عالم الآثار البروفيسور كين دارك، من جامعة ريدينغ University of Reading، قد فرغ أخيراً من دراسة وتحليل كتابات محفورة على 240 تمثالاً من حقبة العصور المظلمة. وحتى الآن، استمر المؤرخون في الاعتقاد بأن هذه الحجارة التي تضم كتابات، ليست سوى شواهد أضرحة عادية لأبطال محاربين، أو أفراد ذوي شأن و"علمانيين" (بمعنى أنهم ليسوا من الإكليروس) بالدرجة الأولى. إلا أن الأبحاث الجديدة تأتي لتكشف، على نحو شبه مؤكد، أن تلك الآثار شكلتْ نصباً وتماثيل عامة تحتفي بقديسين محليين (رهبان وكهنة مبجلين في الغالب)، وقد نُصب كل واحد منها بعد موت صاحبه مباشرة على الأرجح.
وفي سياق دراسته، عمل البروفيسور دارك على تحليل كتابات محفورة على حجارة 150 نصباً وتمثالاً في "ويلز"، و20 تمثالاً في جنوب اسكتلندا (وحول "سور هادريان")، و40 تمثالاً في "كورنوال"، و30 تمثالاً في أماكن أخرى من غرب إنجلترا. وقد ربط العالِم أيضاً تلك الكتابات ببعضها بعضاً.
وفي ذلك السياق، كشفت دراسة البروفيسور دارك أن بعض أولئك الأفراد المطوبين منحوا مرتبتهم (مرتبة القداسة بحسب ما يرى دارك) تكريماً لاستشهادهم، أو كونهم حكماء روحيين أو رجالاً مباركين، أو محبين مخلصين لقديسين مشهورين من القارة الأوروبية، أو حتى أن بقاياهم اعتُبرت ذخائر مقدسة. وتوصل دارك إلى أن ثلاثة على الأقل من أولئك الذين حازوا مرتبة القداسة انتموا إلى مقام ملكي، بيد أن الأكثرية منهم على الأرجح، كانوا إما رهباناً أو ذوي مرتبة أخرى في السلك الديني. وفي بعض الحالات جرى على نحو مباشر وصريح ذكر مرتبتهم الكنسية ضمن الكتابة المحفورة على تمثالهم.
واستطراداً في الموضوع، أدت الأبحاث الجديدة إلى زيادة عدد القديسين السلتيين المرجحين، بحوالى 30 في المئة، على الرغم من أن الغالبية العظمى من القديسين السلتيين الـ860 في العصور المظلمة (الذين وثقت أسماء معظمهم للمرة الأولى بعد مرور خمسة قرون على تلك الحقبة) لم يُعرفوا إلا من خلال أسماء الأمكنة التي ضمتهم، والأساطير وإهداءات الكنيسة في القرون الوسطى. وبناء على ذلك، يمكن القول إن الأبحاث الجديدة جمعت أدلة تاريخية أثرية مادية (كتابات)، للمرة الأولى، تتعلق بهذه الظاهرة. كذلك كشفت الأبحاث المذكورة عن أنه حتى الأطفال، في بريطانيا العصور المظلمة، كان يمكن اعتبارهم قديسين. ومن بين الـ240 قديساً مرجحاً، أدت الأبحاث الجديدة، إلى اكتشاف 16 امرأة قديسة، يرجح أن يكون بعضهن أزواج شخصيات كنسية مرموقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ذلك الإطار، سمحت المسيحية السلتية في بريطانيا أثناء القرون الوسطى، للكهنة (بمن فيهم الأساقفة) وربما الرهبان، بالزواج. لذا، فإن وجود عدد هائل من القديسين المحليين، وإمكان زواج الكهنة مثلاً، يعتبران ظاهرتين أساسيتين ميزتا المسيحية البريطانية السلتية، عن المسيحية المُطبقة في أماكن أخرى من القارة الأوروبية.
كذلك بينت الأبحاث خريطة توزيع التماثيل والنصب العائدة إلى 240 قديساً سلتياً محلياً مرجحاً، التي عاندت الزمن وبقيت سليمة. وكذلك حددت تلك الأبحاث تجمعات مكثفة للنصب في غرب "كورنوال" وأنحاء مختلفة من "ويلز" (خصوصاً "بيمبروكشاير"، منطقة "سوانسي"، و"أنغلسي"، و"سنودونيا"، ومنطقة "بريكون")، وجزيرة "لوندي" في قناة بريستول. وعلى نحو ملحوظ، يرتبط معظم المناطق التي تضم تجمعات مكثفة للتماثيل والنصب، بمنطق التوزيع الجغرافي لكثير من تماثيل القديسين الـ860 المعروفة سابقاً، التي جرى التعرف إليها مع أصحابها، بصورة حصرية بالدرجة الأولى، بفضل إهداءات الكنيسة وأسماء الأمكنة التي تضمها، ومن دون أن يوثق حضورها من الناحيتين التاريخية والأثرية. وعن ذلك الأمر، أشار البروفيسور دارك إلى أنه "عبر دراستنا الكتابات الموجودة على الأحجار، بتفصيل بالغ، بات أمامنا الآن إمكان الوصول إلى خلاصات جديدة حاسمة تتعلق بهوية أولئك الأفراد المكرمين". كذلك يُذكر أن دارك نشر دراسته الجديدة هذه أخيراً في "مجلة التاريخ الكنسي" Journal of Ecclesiastical History.
ووفق دراسة البروفيسور دارك، يتبين إنه على الرغم من أن معظم النصوص المحفورة والمكتشفة مكتوبة باللاتينية، إلا أن قرابة 20 في المئة منها محفورة بكتابة سلتية غامضة، منسية منذ زمن بعيد، وذات أصل إيرلندي، تدعى "أوغام" Ogham. وقد مثلت الـ"أوغام" إحدى الكتابات الأشد غرابة وتلغيزاً في تاريخ الكتابة. إذ إن أحرفها في الأساس تشكلت من مجموعة خطوط أفقية مختلفة الترتيب. والقيمة اللفظية أو الصوتية لكل حرفٍ اعتمدت بصورة حصرية على موضع ظهور (وعدد) الخطوط الأفقية المتشابهة بالنسبة إلى حافة إفرادية طويلة وعمودية، أو بالنسبة لأي عنصر آخر على الحجر، أو أي مسطح مختلف. مثلاً، خط أفقي واحد إلى يمين "محور" عمودي يمثل حرف B، فيما خطوط أفقية ثلاثة إلى يسار المحور العمودي تمثل حرب T. وأربعة خطوط أفقية (على جانبي المحور العمودي) تمثل حرف E، وهكذا دواليك.
وفي الجوهر، تشابه مفهوم تلك الكتابة مبدأ نظام اعتُمِد في الاتصالات لاحقاً، هو نظام "الإشارة" semaphore، إلا أن الـ"أوغام" جاءت محفورة على حجارة بدل بثها عبر الإشارات. ومثلت الـ"أوغام" نمطاً فريداً من أنماط الكتابة، إذ ربما طورت في الأساس بهدف حفر نصوص قصيرة على الخشب (لأن الكتابة المحفورة على الخشب تكون قراءتها أسهل إذا حفرت بخطوط مستقيمة عبر أنسجة وعروق اللوح الخشبي). وعلى الحجر أيضاً، تكون قراءة الكتابة المحفورة بخطوط مستقيمة أسهل من قراءة النصوص المكتوبة بأشكال منحنية أو معقدة. وبالنتيجة، من المرجح أن يكون هذا النمط من الكتابة قد تطور أولاً في جنوب إيرلندا بين أواخر القرن الرابع ومطلع القرن الخامس للميلاد، واستمر اعتماده (في النصوص المحفورة على الحجر) حتى القرن السابع (على الرغم من بقائه مستخدَماً في إيرلندا على نحو متقطع، في هوامش بعض المخطوطات، حتى القرن السابع عشر).
© The Independent