تحت اسمه المستعار "باسكال مرسييه" الذي اشتهر به الكاتب والفيلسوف السويسري بيتر بيري (1944) ينشر روايته "قطار الليل إلى لشبونة" (دار مسكيلياني). وهي رواية مستغرقة في أفكارها الفلسفية الأنطولوجية المتعلقة بالوجود والإبستمولوجيا المتجلية بالقيم في صورها الثلاث "الحق، والخير، والجمال". وقد تحولت الرواية الى فيلم سينمائي العام 2013 من إخراج بيل أوغست وبطولة جيريمي أيرونز وحقق نجاحاً كبيراً.
مؤلف الرواية حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة الزمن عام 1971، وركز كثير من أبحاثه الأكاديمية على فلسفة القيم، خاصة في الشقين الأخلاقي والجمالي في الفترة الأولى من حياته العملية، ثم شغلته الفلسفة التحليلية. أما اسمه المستعار فهو مركب من اسمي فيلسوفين فرنسيين هما بليز باسكال ولويس سيباستيان مرسييه، وله أربعة أعمال روائية صدر أولها عام 1995، والثاني 1998، و"قطار الليل إلى لشبونة" 2004، وآخرها في عام 2007.
وبذلت المترجمة التونسية سحر ستالة مجهوداً كبيراً في نقل النص إلى العربية بسبب طبيعة ما يحمله من أفكار فلسفية عميقة، وقد استخدمت في ترجمتها عديداً من الألفاظ غير المعتادة أو المستخدمة في المشرق العربي، مثل كلمة متربص، كبديل للمتدرب، وصحافية متربصة، أي تحت التدريب، وكلمة ركح بمعنى خشبة المسرح، المصدح للدلالة على مكبر الصوت، والسرنمة للتعبير عن السير أثناء النوم، بالإضافة إلى الأشهر السنوات كما هي مستخدمة في تونس والجزائر (جانفي، فيفري، أفريل، ماي، جوان، جويلية...).
بناء الراوية
يتكون بناء الرواية من أربعة أقسام في 572 صفحة، القسم الأول بعنوان "الرحيل"، والثاني "اللقاء"، والثالث "المحاولة"، والرابع "العودة"، أما حبكتها فتكمن في رحلة البحث من أجل المعرفة، وهي واحدة من الحبكات الروائية المتكررة. فالعالم ريموند غريغوريس بعد أكثر من خمسين عاماً من العمل المنضبط، يقرر ترك عالمه القديم والاستقالة من عمله كمدرس والسفر إلى لشبونة دون سابق إنذار، كي يبحث عن "أماديو دي برادو"؛ البرتغالي صاحب الكتاب النادر "صائغ الكلمات" الذي وقع صدفة في يد ريموند. وفي رحلة البحث تلك يحاول البطل أن يكتشف ذاته الداخلية كما فعل أماديو في مذكراته. أما الأسلوب السردي، فتميز ببطئه لكثرة الوصف داخل النص، وقد اعتمد باسكال خاصية التغريب التي لفت الانتباه إليها الناقد الشكلاني الروسي شكلوفسكي، وهي تقوم على الإطالة والإبطاء في وصف حدث ما. وهدف الاستعانة بهذه التقنية هو جعل القارئ يولي اهتماماً خاصاً بالمشهد الموصوف، ومنعه من إدراك الحدث بصورة آلية عادية.
وهذه التقنية مستخدمة بكثرة في هذه الرواية، ومنها الحالة النفسية التي أصابت "أدريانا"؛ أخت "أماديو" التي تعيش في الماضي بعد وفاته... "ضعفت ضربات يدها، وتباطأت أكثر فأكثر. ونضبت عاطفتها شيئاً فشيئاً. اتكأت أدريانا مرة أخرى على الجدار، وقد نال منها الإرهاق، ثم تراجعت إلى وسط الغرفة وجلست على كرسي. كان جبينها مرصعاً بحبات الرمل المتساقطة من حجارة الحائط، من وقت إلى آخر تنفصل حبة عن جبينها وتتدحرج على وجهها. عادت وحدقت في الجدار، فتبع غريغوريوس تلك النظرة القابعة هناك...".
هذا المشهد الوصفي في إطالته المتعمدة يكشف عن مدى عمق المشاعر التي تملكت "أدريانا"، وتوقف الزمن والحالة النفسية التي لحقتها جراء ذكرى أخيها المتوفى الذي كان سبباً في إنقاذ حياتها من الموت.
تأثير اللغة
ومن القضايا التي تنشغل بها الرواية بشكل رئيس "اللغة"، فبطلها عالم لغويات يجيد اللاتينية والعبرية، ويقع في فتنة اللغات الحية بعد أن يقع في يده كتاب أماديو "صائغ الكلمات"، فيتعلم اللغة البرتغالية، ويسعى لتعلم الفارسية. وكثير من الأفكار الفلسفية حول اللغة طرحها من قبل فلاسفة، منهم النمساوي التحليلي لودفيغ فتغنشتاين، وله دور كبير في إثارة هذا المبحث الفلسفي لجهة معرفة كيف تستخدم اللغة في الحياة العادية وكيف تؤثر في العالم، وما حدود هذا التأثير. وحضور فلسفة اللغة في الرواية بشكل لافت، ليس مستغرباً لأن باسكال الفيلسوف يتشارك مع فتغنشتاين في أن لغتهما الأم هي الألمانية.
خرج عديد من النظريات الفلسفية التي تحاول أن تكشف كيف تؤثر اللغة في العالم؛ من بينها نظرية جون أوستن الذي رفض ما أطلق عليه المغالطة الوصفية للغة، فاللغة بحسب نظريته "الأفعال الكلامية"، ذات تهدف إلى التأثير في العالم. ومن بعده تعددت النظريات التي تسعى إلى الكشف عن هذا التأثير الذي تحدثه اللغة عبر ما يعرف بنظرية الاستلزام التخاطبي التي أسس لها غرايس والأفعال التداولية لجاكوب ل. ماي.
وحول هذه الفكرة المتمثلة في تأثير اللغة تدور أحداث الرواية، فما يغير حياة البطل من النقيض إلى النقيض هو فتاة ظنها ستنتحر من فوق الجسر، فجرى نحوها، وتحدثا، فعرف أن لغتها الأصلية هي البرتغالية. وفي اليوم ذاته يعثر على كتاب "صائغ الكلمات" الذي يحاول كاتبه ابتكار لغة جديدة، لتنطلق بعد ذلك رحلته إلى لشبونة متسائلاً: "كيف للكلمات أن يكون لها هذا التأثير الكبير، أليس هذا شبيهاً بالسحر؟"، إلى أن يصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن العالم الذي نعيشه مصنوع من الكلمات، وأن الكلمات هي التي تخلق العالم... "إذاً، فالعبارة أو الكلمة هي نور الإنسان. وهكذا، فإن الأشياء لا توجد حقاً إلا عندما تصاغ في كلمات".
خبايا الذات
رحلة ريموند غريغوريس من مدينة بيرن وتجواله عبر تتبع سيرة كاتب "صائغ الكلمات"، ما هي إلا رحلة لمعرفة الإنسان لنفسه التي تبدو غريبة عنه، وتلك النظرة تظهر منذ الاستشهادات الأولى التي يصدر بها باسكال مرسييه روايته فيقتبس من ميشال دي مونتين قوله "لقد خلقنا جميعاً من قطع غير متجانسة، ومن نسيج في غاية التشوه والاختلاف، لكل قطعة منه، ولكل حلقة هويتها الخاصة، إننا مختلفون عن ذواتنا أكثر من اختلافنا عن الآخرين". ويقتبس من كتاب "اللا طمأنينة" لفرناندو بيسوا قولاً مشابهاً: "كل فرد في حد ذاته متعدد وغزيز. كل فرد ذوات مضاعفة...".
تطرح الرواية عديداً من الأسئلة حول تعدد الذات الإنسانية... "إذا كان صحيحاً أننا لا نعيش إلا بجزء صغير مما يعتمل في دواخلنا فما مصير بقية الأجزاء إذاً؟". حتى إن رحلة القطار في الرواية هي لاستكشاف الذات والبحث داخل النفس البشرية ومحاولة استكشافها بكل ما فيها من تناقضات عصية على التفسير والفهم.
تناقش الرواية من زاويا فلسفية عديداً من القيم، مثل الإخلاص والكرامة، وتسلط الضوء أيضاً حول الديكتاتوريات من خلال الحديث عن النظام الشمولي الذي عاشته البرتغال، وجرت الثورة عليه عام 1974. فأماديو يقع في إشكالية أخلاقية بين مهنته كطبيب تحتم عليه أن يعالج الجميع دون تفرقة، أو أن ينتصر لحسه الثوري، وذلك حين يقع ذلك الضابط الذي يلقب بجزار لشبونة، والمعروف بقسوته في تعذيب المعتقلين أمام عيادته الطبية، فيحتار بين تركه يموت لأن في موته راحة للمعتقلين وشفاء لما في صدور أهالي من قُتل أبناؤهم على يديه، خاصة أنه إن تركه يموت لن يحاسب أمام القانون، لكن الطبيب يختار أن ينتصر لمهنته وينقذه من الموت المحقق، ما يجعل كثيراً من أهالي لشبونة يعاملونه باحتقار شديد بعد أن كان مقدراً بينهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي رواية "قطار الليل إلى لشبونة" يجد الطبيب المهان، العلاج في الكتابة. ويحاول من خلال الكتابة أن يكتشف ذاته، وأن يقاوم عوامل الفناء التي تعتريه... "لماذا لم أبدأ الكتابة مبكراً؟ نحن لا نكون مبصرين حقاً إلا عندما نكتب، ولا نملك أي فكرة حول ماهيتنا دون أن نتحدث عن الشخص الذي لم نكتبه".
في رواية باسكال مرسييه عديد من المعادلات الموضوعية الأدبية والترميزات الفلسفية، ولا تغيب عنها مناقشة الهوية الثقافية الغربية المرتبطة بالإغريق والرومان، وهي تناقش الدين بجرأة باتت عادية في المجتمع الغربي في ما يتعلق بالديانة المسيحية، فالعمل مملوء بالأحداث والتفاصيل، وقد أجادت المترجمة نقلها إلى العربية.