طُلب من جيما، في اليوم الأول لعملها الجديد كعاملة منزلية تقيم في بيت مخدوميها، أن تخلع كمامة الوجه التي كانت تضعها. "انزعيها كي يتسنى لي رؤيتك كما ينبغي"، قال لها مخدومها، قبل أن يغرق في نوبة سعال. والمخدوم المذكور، هو صاحب البيت الذي تعمل وتقيم فيه جيما. أما هي قد نفذت تعليماته مخافة الاستغناء عنها وفقدان وظيفتها. إذ إن الأسابيع الثمانية التي خبرتها من دون وظيفة دوام كامل، كانت قد زعزعت وضعها المالي، فما عاد بإمكانها المغامرة باحتمال فقدان فرصة العمل الراهنة والنادرة، التي حازت عليها.
هكذا، ومن دون كمامة، باشرت جيما القادمة من الفلبين، عملها الذي يقتضي منها تنظيف منزل مؤلف من ست طبقات، من الأعلى إلى الأسفل. وقد لاحظت الفتاة أن أفراد العائلة اليونانية التي توظفها كانوا يسعلون على مسافة قريبة منها، من دون اكتراث بجائحة كورونا وما تفرضه من تدابير وممارسات احترازية. بيد أنها نظراً لحرج وضعها تغاضت عن ذلك، فأشاحت بوجهها وتابعت العمل.
وفي ذلك المساء، على الرغم من سريان تدابير الإغلاق (الحجر الصحي) وظهور أعراض المرض في أوساط العائلة، استقبل مخدومها ثلاثة أشخاص على العشاء. وقامت جيما بخدمتهم من دون تلكؤ، محاولة إثبات نفسها كعاملة نشيطة. لكنها ظلت منتبهة للمخاطر التي تحيط بها وبالمدعوين للعشاء. وبعد ثلاثة أيام أحست جيما بالضعف. إلا أنها لم تتوقف عن العمل وتابعت خدمتها على مدى 16 ساعة يومياً، وفق توجيهات مخدومها. وفي اليوم التالي كادت أن تعجز عن مغادرة السرير. وعن هذا تروي، مستعيدة ما حصل "كان جسدي ثقيلاً. وأصبت بالحمى والسعال الحاد. شعرت بالإنهاك وبعدم القدرة على التنفس بطريقة طبيعية".
لم يظهر مخدومها أي تعاطف. أعطيت جيما دواء وطُلب منها الاستمرار في العمل. عن تلك التجربة تروي قائلة: "لم أحظ بأي فرصة للراحة. قالوا لي عليك أن تكوني سعيدة لأن لديك عملاً. جعلوني أعمل من الـ 8 صباحاً حتى الـ 11 ليلاً. عانيت من وجع رأس شديد. أردت أن أنهار. لكن كان علي القيام بكل عمل البيت".
وفي صباح اليوم التالي شهدت حالة جيما الصحية مزيداً من التقهقر. لكن إجبارها على العمل استمر. راحت تتنقل في أنحاء البيت مستخدمة كل قواها لتنفيذ الأعمال، على الرغم من الحمى التي اعترت جسدها. كما أنها بذلت ما في وسعها لكبح السعال الحاد، محاولة إبقائه داخل رئتيها. وللتخفيف عنها جرى إعفاؤها من العمل فترة بعد الظهر، وسُمح لها الذهاب إلى بيتها. لكن خلال مغادرتها رأت مخدومها يستقبل عاملة منزلية فلبينية أخرى. وعلى هذا النحو استُغني عن جيما، واستُبدلت بأخرى.
غادرت جيما إلى منزلها محبطة، مريضة، ومن دون عمل. كما أظهر فحصها الطبي أنها مصابة بفيروس كورونا، ويعني أنها لن تستطيع العمل على مدى أسبوعين مقبلين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمثل جيما واحدة من عاملات البيوت كثر ذقن الأمرين للحصول على عمل في غمرة الجائحة. إذ جعلت مخاطر انتشار الفيروس العديد من أصحاب البيوت يعلقون رغبتهم في استقبال عاملات تنظيف وترتيب للإقامة في منازلهم والاعتناء بها. وهذا أمر قاد، من دون شك، إلى انكماش حاد في فرص العمل في مجال الخدمة المنزلية.
تستمر العاملات غير الحاملات لوثائق قانونية، والراغبات في وظائف الخدمة المنزلية، بالبحث عن العمل في بريطانيا، وهن غير مشمولات باستحقاقات مكافأة الدعم ولا بأي نوع من المساعدات الحكومية. كما تعد كثيرات منهن مُعيلات أساسيات لعائلاتهن التي تنتظر منهن الدعم في البلدان التي جئن منها. إلا أن قطاع عملهن الرازح سلفاً تحت وطأة مخاطر استغلال كثيرة، والذي تضاءلت فرصه على نحو حاد خلال الجائحة، جعلهن اليوم أكثر عرضة للاستغلال من قبل المشغلين، أو للانخراط في أنساق عمل لا يحظين فيها بالحماية من فيروس كورونا.
قد تصير العواقب مهلكة. إذ يورد تقرير لـ"اتحاد كانلونغان فيليبينو" Kanlungan Filipino Consortium، الذي يتولى دعم العمال المنزليين المهاجرين في لندن، أن أربعة أفراد من أعضائه ماتوا جراء كوفيد-19، وذلك فقط خلال الأسبوعين الأولين من فبراير (شباط).
كما تقول الجمعيات الخيرية العاملة في هذا الحقل إن الحالة الراهنة جعلت القطاع يشتد سوءاً. إذ إن المملكة المتحدة راهناً تمنح العمال القادمين من الخارج للعمل في الخدمة المنزلية تأشيرة صلاحيتها ستة أشهر، وتسمح لحاملها إذا رغب في تبديل موظِفه خلال تلك المدة. بيد أن حاملي التأشيرة المذكورة لا يحق لهم تمديد تأشيرتهم، أو التقدم للحصول على تأشيرة جديدة حتى يظلوا في بريطانيا، ما يعني أنهم، بعد انتهاء صلاحية تأشيرتهم ذات الأشهر الستة، يصبحون من دون أوراق قانونية.
وتُصدر السلطات البريطانية في كل سنة نحو 17 ألف تأشيرة. لكن نتيجة للقوانين الصارمة المرتبطة بها، فإن كثيرين من عمال الخدمة المنزلية الذين دخلوا بها بريطانيا، يفقدون وضعية إقامتهم القانونية، الأمر الذي يجعلهم سلفاً أكثر عرضة للاستغلال. أكثرية هؤلاء العمال المنزليين، هم من الفلبين.
يقوم ناشطون بدعوة الحكومة البريطانية إلى إعادة اعتماد التأشيرة المخصصة للعمالة المنزلية الآتية من الخارج، التي كانت معتمدة قبل سنة 2012 ، وتسمح لعمال الخدمة المنزلية المهاجرين بتجديد إقاماتهم، وتمنحهم سبيلاً للاستقرار. وقد جرى في هذا السياق رفع التماس برلماني يحدد المطالب، وتوقيعه أكثر من 12 ألف مرة.
العاملة المنزلية ماريسا بيغونيا، العضو المؤسِس في جمعية "صوت العمال المنزليين" الداعمة للعمال، تنبه إلى أن السبب الذي يجبر زملاءها على العمل مع موظفين يستهترون بتدابير مكافحة فيروس كورونا هو"عدم تمتعهم (العمال) بالحقوق".
"أولئك العمال وضعهم حرج، ولا أحد يعرف بالحقيقة ماذا يحصل معهم. أصحاب العمل لا يحترمون القوانين. وهم يقومون بتوظيف النساء اللواتي لا يملكن أوراقاً قانونية لأنهم يدركون أن لا شيء يحميهنّ. وهم يعرفون أن الحكومة لن تفعل شيئاً لمساعدتهنّ".
"علينا أن ننهي هذا الوضع بأقصى سرعة ممكنة. علينا إعادة الاعتبار لحقوق العاملات المنزليات. التأشيرة هي حياتهنّ، فإذا جرى حرمانهنّ منها فإن الأمر يعني حرمانهنّ من حياتهنّ. ومن خلال السماح لهنّ بالعيش والعمل هنا قانونياً، فسوف يصبحن من دافعي الضرائب وسوف يشترين بوليصات التأمين الوطنية. وهنّ لا يريدن أن يكوننّ عبئاً".
أما أفريل شارب، من جمعية كالايان Kalayaan، فترى أن الطريقة الوحيدة لضمان حماية العمال المنزليين المهاجرين تتمثل بالعودة الى اعتماد التأشيرة الأساسية (قبل سنة 2012) التي منحتهم "حقوقاً أساسية" يواجهون بها سوء تصرف أصحاب العمل، من دون المخاطرة بوظائفهم وعيشهم وصحتهم، أو بوضعية إقامتهم في المملكة المتحدة.
"لم تكن مسألة استعادة وإصلاح حقوق العمال المنزليين المهاجرين أكثر وضوحاً مما هي عليه اليوم. إذ من دون الحقوق، ليس أمام هذه الشريحة العاملة أي طريقة لمواجهة أي مظهر من سوء المعاملة، ما يعني أن بوسع أصحاب العمل الاستهتار بالقواعد والقوانين واستغلال العمال وتعريضم لخطر الإصابة بكوفيد 19،" تقول شارب. "عندما يحصل العمال على حقوقهم، سيحظون بالحصانة وسوف يكون الجميع محميين تجاه الفيروس".
العاملة المنزلية كيلي، 42 سنة، شعرت بالمرارة عندما عرض عليها عمل في يوم عيد الميلاد. وقيل لها إن ذاك العمل سيتطلب خدمة اجتماع عائلي صغير يضم ستة أشخاص كحد أقصى. وعلى الرغم من معرفتها بأن الأمر تكتنفه المخاطر، قبلت السيدة الفيليبينية لأنها كانت في حاجة ماسة إليه.
مع وصولها إلى منزل مشغلها اكتشفت كيلي أنه كُذب عليها، إذ كان هناك نحو عشرين ضيفاً. ولجعل الأمور أسوأ، طُلب منها عدم ارتداء الكمامة.
وبعد مضي يومين بدأت كيلي بالسعال. "اعتقدت أنه سعال عادي. شربت ماء ساخناً وتناولت دواء. لكن بعد يومين أصابني وجع الرأس وصار جسدي يؤلمني واعترتني الحمى،" قالت. "استلقيت في السرير وبت عاجزة تقريباً عن الحركة. وعندما فتحت عيني كان الألم مبرحاً. ظننت أنني سأموت ولن يكون بوسعي رؤية عائلتي مرة أخرى".
العاملة المنزلية، التي جاءت إلى بريطانيا منذ ثلاث سنوات، تنتحب وهي تصف كيف نقلت عدوى فيروس كورونا إلى أربع نساء من الفلبين من أصل ست تقيم معهنّ في المنزل نفسه، وهنّ جميعاً مثل حالتها، لا يملكن أوراقاً قانونية.
حالة أخرى هي لوسي، البالغة من العمر 49 سنة، والتي جاءت إلى المملكة المتحدة منذ 12 سنة ولا تملك أوراقاً قانونية، أصيبت بكوفيد 19 في يناير (كانون الثاني) إثر عملها في خدمة حفلة زفاف. وهذه العاملة المنزلية كانت خسرت وظيفة دوام كامل كمدبرة تعيش في منزل مخدوميها حين بدأت الجائحة. وقبيل الاتفاق معها للعمل في الأمسية التي أصيبت فيها بالفيروس، قيل لها أيضاً إن ما سوف تتولى خدمته لا يتعدى كونه اجتماعاً صغيراً لأفراد من عائلة واحدة. وقد جاء الواقع مخالفاً تماماً.
تتذكر لوسي ما حصل معها، "دخلت إلى المنزل ولاحظت أنهم حولوا غرفة المعيشة الكبيرة في بيتهم إلى صالة زفاف". ثم تروي كيف بدأ المدعوون بالوصول والتزايد، إلى أن بلغوا قرابة الخمسين شخصاً، الأمر الذي بدا تجاوزاً فاضحاً لقواعد الحجر الصحي، وقد راح يأخذ مجراه داخل ذاك المنزل اللندني الفاخر.
وعلى الرغم من ذعرها الداخلي خلال تلك الأمسية، حافظت لوسي على ابتسامتها واستمرت في الخدمة، كما راحت تقدم بتهذيب للمدعوين المقبلات وكؤوس الشمبانيا. وقد أمرها صاحب الدعوة بأن لا ترتدي الكمامة كي لا تبدو "غريبة" المظهر. وشعرت لوسي إزاء ذلك أن لا خيار لها سوى القبول بهذا العمل، وأمِلت بألا يكون أحد في الغرفة مصاباً بكوفيد.
بعد أيام اعترت لوسي الحمى، وسرعان ما عرفت أنها مصابة بفيروس كورونا.
"لو أني أملك أوراقاً قانونية لما قبلت بذاك العمل بكل تأكيد،" تقول المواطنة الفلبينية التي ما زالت تتعافى من الفيروس. "لم أحظ في حياتي هنا بضمانات في العمل. وأنا أضطر للتنقل بين أعمال عدة في كل يوم، وأعلم مدى خطورة ذلك. بعض أرباب العمل متعقلون، لكن البقية لا يكترثون على الإطلاق".
وإضافة إلى تعرض عاملات المنازل للمخاطر جراء عدم مبالاة أصحاب العمل، وقيامهنّ بتغطية الخدمات في عدد من البيوت المختلفة، تقلصت حرية العديد منهنّ على نحو بالغ نتيجة تدابير الإغلاق والحجر الصحي.
"منذ مارس (آذار) حجزوني هنا في هذا المنزل،" تقول لين، وهي فلبينية أيضاً. لم تغادر هذه العاملة البالغة من العمر 38 سنة، منزل مخدوميها أكثر من مرتين منذ بداية الجائحة في مارس المنصرم، وهي في المرتين فعلت ذلك كي تقوم بمشية سريعة فيما مخدومها نائم. لين ممنوعة من الخروج من المنزل بسبب قواعد الحجر، لكن المُشغل يستضيف كل يوم زواراً.
"إنهم يتشددون معي كي ألتزم بالقواعد، فيما هم يستقبلون الزوار،" تقول. "إن كان بوسع أفراد عائلتهم وأصدقائهم المجيء والخروج، لماذا يحرمونني من هذا؟ لماذا أُمنع من الخروج في يوم عطلتي كي أتنشق الهواء وأرسل المال لعائلتي؟ حتى إنهم لا يسمحون لي بالمشي في الخارج".
إضافة إلى منعها من ممارسة رياضة المشي يومياً في الخارج، تمنع لين أيضاً من مغادرة المنزل لإرسال المال لعائلتها في الفيليبين. لذا فهي تعتمد على أصدقاء لها كي يأتوا ويأخذوا منها المال من منزل مخدومها، وذاك يتطلب منها النزول بالمصعد إلى مدخل البناء. لكن حتى هذا الأمر ممنوع عليها.
"إن كشفوني وأنا أفعل ذلك، لا اعرف ماذا سيقولون ولا أعرف العقاب الذي سأناله،" تقول بصوت مضطرب. "أفعل ذلك بسرعة فائقة كي لا يكشفوني. ممنوع عليّ تنشق الهواء النظيف. يمكنني فحسب النظر من الشباك. أشعر كأنني واقعة في مصيدة هنا".
الوزير في الداخلية البريطانية كيفن فوستر قال إن "من غير المسموح مطلقاً أن يقوم أفراد أنانيون باستغلال عاملات لا حول لهنّ ولا قوة وتعريضهنّ للخطر جراء انتهاكهم تدابير مكافحة كوفيد". وإن الحكومة تتوقع من الشرطة "القيام بإجراءات قاسية" بحق من يقترف تلك المخالفات إذا ما أبلغت بوقوعها.
وذكر فوستر أن وزارة الداخلية تلتزم بحماية العمال المنزليين المهاجرين من الاستغلال. بيد أن الوزير لم يُجب عن تساؤلات تتعلق بالعمال المنزليين المحرومين من الأوراق القانونية جراء القيود المفروضة على التأشيرات.
والواقع أن العديد من عاملات المنازل، اللائي يصبحن من دون أوراق قانونية بسبب الشروط الصارمة المفروضة على تأشيراتهنّ، لن يستسلمن بسهولة للبطالة في غمرة جائحة كورونا. فهنّ سوف يواصلن قبول العمل، وحين يستهتر مشغلوهنّ بقواعد الحجر ويعرضونهنّ للخطر، سوف يتغاضين عن ذلك ويطأطئن رؤوسهنّ، ولن يقلن شيئاً.
أسماء من أدلينَ بشهاداتهنّ في المقالة مستعارة
© The Independent