ما الحب؟ يجيب دانتي: "الطبيعة عندما تكون محبة تتخذ الحب رباً لها، وتتخذ من القلب بيتاً". أرّق سؤال الحب ملايين البشر وفتن القلوب، مثلما عذّب أرواح الشعراء، من عهد أوفيد وسافو ودانتي وابن حزم إلى حافظ الشيرازي ومجنون ليلى وشكسبير وغوته وبوشكين.
خصّص دانتي أليغييري (1265 ـ 1321) كتابه "حياة جديدة" للإجابة عن سؤال الحب، لكن هذا الكتاب احتجب وراء الشهرة الطاغية لكتابه "الكوميديا الإلهية".
في أحدث ترجمة له إلى اللغة العربية، والصادرة عن دار المعارف في القاهرة، مع احتفال العالم بمرور سبعمئة عام على وفاة دانتي، يشير المترجم حسين محمود، إلى العلاقة المهمة بين الكتابين. فكتاب "حياة جديدة" يقع في أقل من 140 صفحة من القطع المتوسط، مع المقدمة والهوامش والصور، ويعد من بواكير مؤلفات دانتي، وبمثابة "التمهيد" لكتابه "الكوميديا الإلهية" أحد الكتب الخالدة في تاريخ الإنسانية.
في كلا العملين تحضر ملهمته "بياتريتشه"، خصوصاً في "حياة جديدة"، لكن حسين محمود، أستاذ اللغة الإيطالية وآدابها، في جامعة بدر في القاهرة، يتحفظ على تعامل البعض مع الكتاب بوصفه قصة حب، أو سيرة الشاعر الملهم بالملهمة. ويرى أن "بياتريتشه" كانت فقط بمثابة محفز أو دافع لإطلاق خيال وروح الشاعر في أرض الحب، أشواقه وعذاباته. فالكتاب لا يتوقف طويلاً حول تفاصيل واقعية عنها، بل يقدم للقارئ سمات شعرية ودينية، وكذلك سمات نفسية للمؤلف حدّدت علاقته بتلك الملهمة التي يشكك البعض في وجودها أساساً.
وعلى رغم أن الكتاب سبق نشره في غير ترجمة عربية قبل بضع سنوات تحت عنوان "الحياة الجديدة"، إلا أن حسين محمود أصرّ على العنونة بالتنكير، لأن العنوان الإيطالي نفسه Vita nuova، والمسألة هنا مرتبطة بمنظور كتابة وتلقي نصوص الكتاب.
شرارة بياتريتشه
يرى دانتي أن لقاءه العابر بمحبوبته، بمثابة "المفتاح" الذي قاده إلى "حياة جديدة". "بياتريتشه" كانت فحسب الشرارة التي أوقدت روح الشاعر، ونقلت تجربته الشعرية إلى آفاق عظيمة، و"حيوات جديدة". وهذا ينقلنا إلى مفارقة أخرى يشير إليها المترجم؛ لأن لقاء الملهمة حدث بينما كانت في أوائل التاسعة من عمرها، وكان هو في نهاية عامه التاسع، واقعياً استمر هذا الحب العذري حتى وفاة المحبوبة شابة في الثامنة عشرة، لكنه ظل ملتهباً وحياً في نفس الشاعر طيلة حياته، محفزاً ومحرضاً على الكتابة.
إذن اعتبار "حياة جديدة" مجرد قصة حب عاشها الشاعر في مراهقته، هو تصور سطحي لا يذهب عميقاً في فهم كيف تشكلت ذات الشاعر، وكيف صنع عالمه الشعري، وكيف أبدع تأملاته في الحب شعراً ونثراً.
صنعة الشعر
ثمة ملمح مهم حرص المترجم على إبرازه بجلاء، يتعلق بصنعة الشعر، وهو ما يتضح في تعقيبات دانتي نفسه على النصوص والأفكار، وكأنه يدخلنا إلى "مطبخه" كما فعل شعراء مثل بورخيس في كتابه الفاتن "صنعة الشعر". وربما كان دانتي من أوائل الشعراء العظام الذين ضمنوا نصوصهم، تعليقات عليها، وأقاموا حواراً مع النص. يقول: "أنتم يا من تمرون بشارع الحب، توقفوا وانظروا: هل ترون أحداً يتألم بمثل ألمي؛ إليكم أتضرع أن تنصتوا لي وتتحملوني".
وفي نهاية النص يعلق شارحاً: "تتكون هذه السوناتا من جزءين رئيسيين؛ في الأول منها أردتُ أن أدعو المؤمنين بالحب بهذه الكلمات التي قالها النبي إرميا وتقول: "أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي"، ورجوتهم أن يتحملوني وهم ينصتون لي".
عندما يشرح الشاعر صنعته، هو لا يريد أن يفسر للمتلقي، ولا أن يوجه مساره داخل متاهة النص، بل يسعى وراء الوعي الحقيقي بكينونة الذات الشاعرة. فمن عتبة "بياتريتشه" دخل دانتي مملكة الشعراء العظام، وأرانا أصابعه وهي تكتب، وقلبه كيف يرتجف.
ابن حزم والتأليف العربي
عبر 42 مقطعاً ونصاً شعرياً ونثرياً، كانت الصدارة للحب وتجلياته وتأملاته، وهو ما دفع المترجم للكلام عن تأثر دانتي بابن حزم الأندلسي صاحب "طوق الحمامة" الذي يعد من أجمل تأملات الحب في الثقافة العربية على مر العصور.
أشار المترجم إلى بحث نشره الإيطالي أندريا تشيللي بعنوان "أهو حب متوسطي بين قرطبة وفلورنسا؟ طوق الحمامة لابن حزم وحياة جديدة لدانتي أليغييري"، وبحث آخر باللغة الإيطالية أيضاً ألقَتْه الباحثة المصرية مروة فوزي في مؤتمر في جامعة بدر بالقاهرة بعنوان "دانتي ضد ابن حزم: نوعان من الحب في المواجهة"، خصوصاً أن موضوع الكتابين الأول هو مفهوم الحب.
لكن المترجم يوسع قوس التبادل الثقافي، إلى تأثر دانتي في حبه العذري، أو بحسب التسمية "الحب البلاطي" ـ إشارة إلى بلاط النبلاء، بشعراء التروبادور أو المدرسة الصقلية، وهؤلاء لم يكونوا بعيدين من التأثر بالشعر الأندلسي والحب العذري عند شعراء العصر العباسي. فعندما نقرأ لدانتي كأننا نقرأ للمتنبي قوله: "لِعَينَيكِ ما يَلقى الفُؤادُ وَما لَقي، وَلِلحُبِّ ما لَم يُبقِ مِنّي وَما بَقي، وَما كُنتُ مِمَّن يَدخُلُ العِشقُ قَلبَهُ، وَلَكِنَّ مَن يُبصِر جُفونَكِ يَعشَقِ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يقتصر التأثر أو التشابه حول موضوع الحب العذري فحسب، بل يشمل طريقة الكتابة أيضاً. فكتاب "حياة جديدة" الذي وضع بين عامي 1292 و1293، من الصعب وصف الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، فهو نثر أساسه الشعر وشعر أساسه النثر. ومجمل الكتاب ـ كما أوضح المترجم ـ فيه سرد روائي واضح، يمكن أن يجير لصالح ذلك النوع من الملاحم القديمة التي كان همها الأول في الكتابة الشعرية سرد حكاية بعينها. وحتى "الكوميديا الإلهية" نفسها يمكن أن تعد سرداً روائياً، بخاصة إذا قرأناها مترجمة واختفى منها الإيقاع الشعري الذي يميزها في لغتها الأصلية. وربما جاء هذا التأليف متأثراً بطريقة التأليف العربية التي كانت تكتب النثر وتستشهد بالشعر فيه، مع عكس هذه الطريقة عند دانتي، لكي يصبح الهدف هو كتابة الشعر، والاستشهاد بالنثر فيه.
امتازت ترجمة حسين محمود بالسلاسة، والجرأة في صياغة بعض التعابير، إضافة إلى تضمين الكتاب مجموعة من لوحات غبراييل روسيتي، وهو رسام إنجليزي من أصل إيطالي، اهتم بدراسة دانتي، وترجم "حياة جديدة" إلى اللغة الإنجليزية. هذه اللوحات تذكرنا بكتب فريدة عرفتها الثقافة العربية، تعانقت فيها الكلمة والصورة، منها على سبيل المثال ترجمة ثروت عكاشة لكتاب "النبي" لجبران مصحوبة برسوم جبران نفسه. لكن للأسف اللوحات هنا نُشرت بالأبيض والأسود.أيضاً للتسهيل على القارئ قسّم المترجم مقاطع الكتاب بالأرقام العربية مصحوبة بعناوين جذابة مثل: قائمة بأجمل ستين امرأة، كيف توقظ بياتريتشه الحب؟، الرقم تسعة، حرب بين العقل والقلب.