على وقع ارتفاع سعر صرف الدولار وتخطيه العشرة آلاف ليرة لبنانية، استمرت التظاهرات الغاضبة في مختلف المناطق اللبنانية. النسخة الثانية من 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، انطلقت في "اثنين الغضب"، حيث عمد مواطنون إلى قطع الطرقات احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية والاجتماعية، مطالبين برحيل السلطة السياسية وباستقالة رئيس الجمهورية ميشال عون، وحملت بعض التظاهرات عناوين سياسية، منها المطالبة بنزع سلاح حزب الله وبالحياد.
هذه التظاهرات كان سبقها أخرى في مناطق تنتفض للمرة الأولى، وهي ذات غالبية شيعية، مما أوحى بأن هناك "غض نظر" من قبل الثنائي الشيعي، وقد عبّر بعض الشبان عن انتمائهم الحزبي خلال التظاهرات في رسالة واضحة بأكثر من اتجاه عن الإمساك بالشارع في مقابل أي تحرك يتزامن مع دعوات البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى مؤتمر دولي، فيما اعتبرها البعض رسالة ضغط في اتجاه رئيس الجمهورية لتسهيل تشكيل الحكومة، تجنباً لغضب الشارع الذي لا يمكن كبحه بعد القفزات العالية التي حققها الدولار. كل ذلك ومساعي تشكيل الحكومة على حالها بحجة عُقد داخلية مختلقة مرتبطة بالحصص والثلث المعطل، فيما السلطة في حال انعدام وزن.
مواكبة دولية للتظاهرات الشعبية
تتابع باريس باهتمام الحركة الاحتجاجية المتصاعدة في الشارع اللبناني، وتؤكد مصادر مطلعة على الموقف الفرنسي أن ما يحصل اليوم هو ما حذرت منه الدول الأوروبية والعربية الصديقة للبنان، كنتيجة طبيعية لغياب الحل والمعالجة، بدءاً من عدم القدرة على الاتفاق على تشكيل حكومة "مهمة" قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والضرورية.
الاتصالات ناشطة بين المراجع الفرنسية واللبنانية، ومنها العسكرية، تجنباً للأسوأ وتحضيراً لما قد ينتج من فوضى تعم مختلف المناطق، وفي هذا الإطار كشفت مصادر دبلوماسية لـ "اندبندنت عربية" عن أن فرنسا لعبت دوراً فاعلاً في إقناع شخصيات قضائية وقانونية كبيرة بعدم تقديم استقالتهم التي كانوا قرروا المضي بها على أثر قرار هيئة التمييز القضائية كف يد القاضي فادي صوان عن تحقيقات المرفأ، وقد كان هاجس فرنسا انعكاس هكذا خطوة على الجسم القضائي، والخضة التي كان يمكن أن تحدثها على الساحة اللبنانية، فضلاً عن عدم التمكن من إجراء تعيينات قضائية جديدة في ظل حكومة تصريف أعمال، مما يعني أن الشغور في السلطة القضائية كان مرجحاً أن يطول.
ويعبر أكثر من مصدر دبلوماسي وعربي عن قلق دولي من دخول لبنان مرحلة خطرة، وتتخوف المصادر من الوصول إلى مواجهات طائفية مفتعلة قد تعمل عليها بعض الجهات الداخلية لأهداف خاصة، ويمكن أن تعيد بلد الأرز إلى زمن الحرب.
الناس في واد والسلطة السياسية في واد
في موازاة الاهتمام الدولي تجنباً لاهتزاز الاستقرار في لبنان، بقيت السلطة السياسية على نكرانها ما يحصل، وأخفقت في معالجة الأزمة، بحيث لم تر من تظاهرات المواطنين سوى مؤامرة خارجية للانقلاب عليها، ففي الاجتماع الاقتصادي والمالي والأمني الذي ترأسه رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا، تحدث عون عن خطط معدة للإساءة إلى البلاد، وعن معلومات وصلته عن وجود جهات ومنصات خارجية تضرب النقد والمكانة المالية للدولة، ووصف ما يحصل في الشارع بأنه يتجاوز مجرد التعبير عن الرأي إلى عمل تخريبي، محذراً من الشائعات وإثارة الفتن والنيل من الدولة ورموزها، وردّ على المطالبين والعاملين على استقالته بالقول "أنا ماض في البرنامج الإصلاحي الذي جئت لتحقيقه مهما بلغت الضغوط، ولن أتراجع".
وفي السياق نفسه، أتى كلام رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي اعتبر أن منصات سياسية تتحكم بسعر صرف الدولار، وقال إن "هناك من يدفع البلد إلى الانفجار، ويجب قطع الطرق على التلاعب بمصير البلاد من المتآمرين"، علماً بأن دياب نفسه هدد قبل أيام بالاعتكاف متنصلاً من دوره في اتخاذ قرارات مصيرية، لأن التوافق السياسي مفقود كما قال.
الجيش يرفض المواجهة مع الناس
خلال الاجتماع الأمني والاقتصادي في قصر بعبدا، حمّل رئيس الجمهورية القوى الأمنية، مسؤولية الفوضى القائمة في الشارع، ودعا الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى القيام بواجباتها وتطبيق القوانين وفتح الطرقات، لا سيما أن تساهل عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي مع المتظاهرين كان لافتاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب المعلومات، فإن قائد الجيش عبر خلال الاجتماع أن العسكريين يعانون ويجوعون مثل الشعب، لا سيما بعد انخفاض قيمة راتبهم الشهري، لكن رئيس الجمهورية أصر على ضرورة فتح الطرقات.
وفي مؤشر واضح لحجم التمايز الحاصل بين قائد الجيش والسلطة السياسية، ولا سيما رئيس الجمهورية، تقصّد قائد الجيش توزيع الكلمة التي ألقاها أمام أركان القيادة وقادة الوحدات الكبرى والأفواج المستقلة في اجتماع جرى في وزارة الدفاع، بحضور أعضاء المجلس العسكري قبل ساعات من اجتماع بعبدا الأمني والاقتصادي، وتضمّنت كثيراً من الرسائل المعبرة عن اصطفاف قائد الجيش إلى جانب الشعب ضد السلطة السياسية، إذ سأل في كلمته المكتوبة المسؤولين "وين رايحين؟ ماذا تنتظرون؟ ماذا ستفعلون؟". وكشف قائد الجيش عن أنه حذر المسؤولين أكثر من مرة من خطورة الموقف وعودة الناس إلى الشارع وانفجار الوضع، لكن أحداً لم يسمعه، وفي ما يشبه إعلان استقلاليته عن السلطة السياسية رافضاً استغلال الجيش لأهداف خاصة، قال قائد الجيش "الحملات التي نتعرض لها هي لجعل الجيش مطواعاً، وهذا لن يحدث في عهدي".
وفي ما يشبه الوقوف إلى جانب المتظاهرين السلميين، أكد أن الجيش مع حرية التعبير السلمي التي يرعاها الدستور والمواثيق الدولية، لكن من دون التعدي على الأملاك العامة والخاصة، مشدداً على أن الجيش لن يسمح بالمساس بالاستقرار والسلم الأهلي.
لا حل إلا بحكومة اختصاصيين
ليس الحل أمنياً كما أراد إظهاره اجتماع بعبدا بين المصرفيين والأمنيين، يقول عضو كتلة "المستقبل" النائب محمد الحجار لـ "اندبندنت عربية". وبحسب رأيه، "السلطة السياسية فقدت البوصلة إما غباءً أو عناداً، فليس الحل في اجتماعات أمنية أو اقتصادية، ولا بإعادة تفعيل الحكومة الحالية كما يريد رئيس الجمهورية، بل الحل الوحيد في تشكيل حكومة جديدة ووفق الصيغة التي اقترحها الرئيس المكلف سعد الحريري، وبدلاً من ترؤس الاجتماعات غير المفيدة، كان الأجدى بالرئيس عون دعوة الرئيس المكلف إلى التباحث في شأن التشكيلة الحكومية، ووضع ملاحظاته على بعض الأسماء والحقائب وتوقيع مراسيم تشكيلها".
ولا يستبشر الحجار خيراً بكل الحلول المطروحة، مؤكداً أن "الأمور ذاهبة إلى الأسوأ طالما الأداء الحالي مستمر في قصر بعبدا من قبل رئيس الجمهورية، وطالما النائب جبران باسيل على عناده".
ولا يتبنى النائب في كتلة "المستقبل" مطلب استقالة عون، "لأن تيار المستقبل لن ينجرّ إلى محاولات خلق مشكلة سنية - مارونية كما يسعون، ولأن استقالة الرئيس هي مطلب تعجيزي لن يتحقق"، مذكراً بتجربة عون عندما كان رئيساً لحكومة انتقالية عام 1989، ولم يغادر القصر الجمهوري إلا بعدما دمرت بيروت.
التلاعب بالدولار يحصل من الخارج
في المقلب الآخر، يقف التيار الوطني الحر مدافعاً عن مواقف رئيس الجمهورية، ويعترف عضو "تكتل لبنان القوي" النائب أدي معلوف بأن الحل ليس في اجتماع أمني اقتصادي مالي، لكن التلاعب المفضوح الذي حصل في سعر الصرف خلال الأيام الماضية حتّم على رئيس الجمهورية التدخل. ويكشف معلوف عن أن اجتماع بعبدا فضح التلاعب الذي حصل من قبل منصات خارجية لأهداف سياسية، لا سيما أن ممثلي نقابة الصيارفة الذين شاركوا في الاجتماع نفوا علمهم بما حصل، مؤكدين أن "منصّاتهم تتوقف عن العمل ليلاً، فيما كان سعر الدولار يرتفع بُعيد العاشرة ليلاً أي بعد الإقفال". وينتقد معلوف أداء الحريري وتخطيه المادة الـ (53) من الدستور، التي تنص على التعاون في التشكيل بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، مستنداً إلى المسودة التي رفعها الحريري أمام الإعلام، والتي تضمنت أسماء مقترحة من قبل رئيس الجمهورية لأكثر من حقيبة ومن مختلف الطوائف.
ويتهم معلوف الحريري بأنه "بحث في التشكيلة الحكومية مع حزب الله والرئيس بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي جنبلاط، فيما يرفض التواصل مع الفريق المسيحي، محدداً لرئيس الجمهورية مهمة تسمية الوزراء المسيحيين، ويشترط المشاركة بتسميتهم أيضاً".