بعد تأجيل مرات عديدة وصلت بارجتان حربيتان أميركيتان وبارجة روسية إلى ميناء بورتسودان، في زيارة تعد الأولى للبحرية الأميركية لميناء سوداني، أحد ثلاثة موانئ على البحر الأحمر، هي بورتسودان، وسواكن، وبشائر، بغرض بدء تعاون عسكري بين واشنطن وموسكو من جهة، والخرطوم من جهة أخرى. وتزامن ذلك مع تأكيد وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني، جبريل إبراهيم، حرص الدولة على معالجة قضايا الموانئ البحرية السودانية وتطويرها.
وفي غضون ذلك، لمحت الحكومة الانتقالية إلى إمكانية مراجعة الاتفاقية التي أبرمها النظام السابق مع تركيا في عام 2017، وأعلن عنها بهدف إعادة تأهيل ميناء سواكن الاستراتيجي التاريخي على البحر الأحمر.
تصدر عن هذا الحراك الدولي إشارات تدعو إلى النظر في دوافعه وآثاره على أمن البحر الأحمر. ويتأثر السودان من ضمن الدول المطلة على البحر الأحمر، وهي المملكة العربية السعودية ومصر والأردن واليمن وجيبوتي والصومال، بشكل مباشر بهذا الحراك على مستويات مختلفة تتعلق بعوامل داخلية ومستوى علاقاته الإقليمية والدولية. أما أهم هذه الدول التي تشكل حضوراً كبيراً فهي السعودية، كونها الدولة الأكبر التي تطل بسواحلها على البحر الأحمر.
قوى مناوئة
ازدادت في عهد نظام عمر البشير تهدیدات إقلیمیة ودولیة تتعرض لها منطقة البحر الأحمر، وفي مقدمها عمليات القرصنة، والإرهاب، وتهریب البشر والأسلحة، وتهديد الملاحة.
من ناحية أخرى، فإن علاقة دول حوض البحر الأحمر، كانت منسجمة مع بعضها وتحالفها مع الدول الكبرى ذات النفوذ، خصوصاً الولايات المتحدة. وقد طرأ على ذلك اضطراب البيئة الإقليمية، وتوترات لدى بعض الدول المطلة على البحر، ووجود النظام السابق لمدة ثلاثين عاماً. ذلك الوضع جعل القوى الإقليمية والدولية تضع حسابات دقيقة قبل أن تقدم على زعزعة الأمن أو التدخل في أي ذريعة. الثغرة الوحيدة التي نفذت منها بعض الدول هي السودان، فهو فضلاً عن عدم استطاعته تحقيق الأمن، فقد وجد في هذه الدول فرصة لتقوية موقفه الضعيف سياسياً. أما العوامل التي أثرت على دور السودان في البحر الأحمر فهي في ضعف موقفه السياسي، وعلاقاته الدولية، وتصنیفه دولة راعية للإرهاب، ومطالبة محكمة الجنايات الدولية بالرئيس البشير إثر اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في دارفور، ما وضع الدولة في خانة المهدد للأمن، ناهيك باستنجاده واستضافته قوى دولية وإقليمية مناوئة لدول المنطقة. ومثلما فقد السودان في ظل النظام السابق التعاطف الدولي، فقد عملت التداعيات السياسية والأمنية على فقده التعاطف الإقليمي ودول الجوار. وأبرز ما هدد مكانته هو خلافاته مع مصر إثر محاولة رؤوس النظام السابق اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في أدیس أبابا عام 1995 أثناء حضوره مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية في إثيوبيا، والخلافات مع إريتريا باحتواء السودان المعارضة الإريترية الإسلامية، والخلاف مع إثيوبيا.
تبلور الدوافع
تعددت الدوافع الخارجية المؤثرة على أمن البحر الأحمر، وتقاطعت في العقود الماضية مع تطورات الأزمة السودانية بالتوازي مع اختلاف طبيعة هذه الدوافع، في أنها تنطلق من استراتيجية عالمية في التعامل مع النظام الإقليمي، بالتالي يقع السودان في نطاق اهتمامها. وعلى الرغم من اختلاف الاهتمام الحالي عن ذي قبل في عهد النظام السابق ومن إدارة أميركية إلى أخرى، فإن الثابت هو التنافس الدولي حينما كان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ثم تحول إلى التنافس بين أميركا والصين.
نظرياً، نجد أن هذا التنافس قد صمم على أساس خلاف فكري بين التيار الليبرالي الغربي في حالة الولايات المتحدة، والأيديولوجيا الشيوعية في حالتي روسيا أو الصين، ولكن عملياً، فإن المصلحة المباشرة لهذه الدول تنحصر في النظرة الاقتصادية لمنطقة حوض البحر الأحمر والقرن الأفريقي كموقع استراتيجي وكمصدر للموارد والمواد الخام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإثر ذلك تبلورت دوافع الحراك الدولي وأهدافه تجاه البحر الأحمر في عوامل عديدة، وهي:
أولاً: ضرورة الاهتمام بالبحر الأحمر في ضوء التنافس الأميركي الروسي، والأميركي الصيني خصوصاً، مع تكثيف هذه الدول قواعدها العسكرية في منطقة القرن الأفريقي.
ثانياً: وجود أسباب عسكرية وأمنية تسهم في سلاسة التدخل كالاستنجاد بأميركا في فترة النزاع في الصومال، والنشاط الكثيف لمرتزقة فاغنر الروسية في عدد من النزاعات الأفريقية، ومشاركة الجيش الصيني في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
ثالثاً: وجود نقطة ارتكاز لهذا الوجود الدولي، وهو محاربة الإرهاب وحماية الملاحة الدولية من مخاطر القرصنة البحرية.
ويتضح أن هذه الدوافع ترتبط بمصالح القوى الدولية التقليدية في منطقة البحر الأحمر. فعلى الرغم من خفوت صوت التحالف والدور الأميركي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فإن العودة الأميركية الحالية لمعالجة التدخلات السلبية للدول الأخرى في المنطقة يتوقع أن تتم في إطار دولي وإقليمي في ضوء الاعتبار للتجارب السابقة.
متغيرات جديدة
يمكن أن تتجسد قضیة أمن البحر الأحمر في مستویات عديدة تتعلق بواقع الدول المطلة عليه، وديناميكية السياق الإقليمي كأحد محددات حركة القوى الإقليمية. وقد اتخذت الخلافات الخارجية في عهد البشير طابعاً عدائياً مع الكل، فضلاً عن المشاكل الداخلية مثل الحرب في جنوب السودان التي أدت إلى انفصاله، وحرب دارفور ومنطقة النيل الأزرق وجنوب كردفان. فإن تواصل النزاعات الداخلية بدوافع أخرى، إضافة إلى تلك التي استشرت في عهد البشير، وخصوصاً في شرق السودان بوتيرة أعلى من السابق، قد يزيد من زعزعة أمن البحر الأحمر من ناحية، وربما يغير من شبكة العلاقات الدولية والإقليمية.
وجاء تحرك تركيا في البحر الأحمر في ضوء ضعف وفراغ أمني. ففي عام 2011، بلغت قيمة المساعدات الإنسانية التي قدمتها تركيا إلى الصومال نحو مليار دولار، ثم أنشأت قاعدة تركسوم بموجب اتفاقية عسكرية أبرمت بين تركيا والصومال في عام 2012، تلتها تركيا بممارسة قوتها الناعمة في عدد من الاستثمارات مثل المطارات والمنشآت العسكرية والموانئ والمدارس والمستشفيات أشهرها مستشفى رجب طيب أردوغان في عام 2015. كما توصلت تركيا في عام 2017 مع جيبوتي إلى اتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية، هي ثاني قواعدها العسكرية في قارة أفريقيا. ومهدت لذلك بإنشاء منطقة اقتصادية في عام 2014. أما التدخل التركي في السودان، فقد تسبب فيه نظام البشير، إذ استندت سياسة تركيا إلى عوامل تاريخية وجيوسياسية، فاتخذت شكلاً متعدد الاتجاهات، وكانت تعتزم إقامة قاعدة بحرية في جزيرة سواكن على البحر الأحمر، بعد توقيع اتفاقية عام 2017 لتعمير وإدارة الجزيرة. وكانت تركيا قبل ذلك قد وقعت اتفاقيات اقتصادية وتجارية بغرض الاستثمار في السودان، ولكن بعد عام واحد اشتعلت ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وأطاحت البشير، وبدأت الحكومة الانتقالية إعادة النظر في الاتفاقية الموقعة على عجل مع الجانب التركي.
رغبة في الانعتاق
مع تأكيد وزير المالية السوداني أن مدينة سواكن تضم ثاني أكبر ميناء في البلاد لتصدير البترول والثروة الحيوانية، ولا تخلو من المشاكل ذات الطابع الإداري، وذكره ضرورة إيجاد شراكات استراتيجية خارجية لتطوير الموانئ السودانية بما لا يتضارب مع مصالح السودان والعاملين في الموانيء، يشير إلى الاتفاقيات التي أبرمها النظام السابق وخلقت مشكلة للعاملين في الميناء، وأدت إلى احتجاجات كثيفة. أما الحكومة الانتقالية ففي عزمها مراجعة الاتفاقية التي أبرمها النظام السابق مع تركيا بمنحها مهلة لإخلاء جزيرة سواكن، وإنهاء العمل بالاتفاقية الموقعة، ذكرت أن الاتفاقية كانت من أجل مصالح أيديولوجية، بالإضافة إلى أطماع توسعية.
فجزيرة سواكن كانت تحظى بإرث تاريخي عريق قبل أن يغزوها السلطان العثماني سليم الأول في القرن السادس عشر الميلادي، إذ ارتبطت فترة الغزو العثماني بمجازر وأعمال عنف وقتل وسط السودانيين. وحازت أهمية كبيرة في العهد العثماني، لكونها تمتاز بموقع استراتيجي وميناء شكل المرسى الرئيس للأسطول العثماني وقتها. كما ترى أن الفائدة التي سيركز عليها الجانب التركي بالإضافة إلى العائد المالي هي وضع الجزيرة لمراقبة بعض الدول الأخرى، خصوصاً في سعيها للعب دور إقليمي ودولي. وبالإضافة إلى ما تأمله الحكومة الانتقالية بالاستفادة من الميزات الاقتصادية لمدينة سواكن، فإن هناك الرغبة في الانعتاق من كل ما يمت إلى النظام السابق بصلة، والتحرر من محور تركيا والإسلاميين. غير أن هذه المراجعة ربما تعترضها مشاكل قانونية، إذ إن الانسحاب من الاتفاقيات له قواعد منظمة، تعتمد على ما تم الاتفاق عليه بين النظامين وعلى القانون الدولي للاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والخاصة بالاستثمار.