من المؤكد أن ليس ثمة في تاريخ الموسيقى عمل يحيط به من الألغاز والتناقضات ما يحيط بالعمل الأخير الذي كتبه الموسيقي المعجزة فولفاغانغ أماديوس موتسارت (1756 – 1791) وهو "القداس الجنائزي" الذي يعتبر إلى جانب عملين أو ثلاثة لباخ، أعظم ما أنتجته البشرية في مجال الموسيقى الدينية. والحقيقة أن الألغاز لا تتعلق بمضمون العمل أو شكله الفني، بل بظروف كتابته وهوية مموّليه وما شاكل ذلك. فمثلاً إذا صدقنا ما يرويه لنا الفيلم الرائع "أماديوس" الذي أخرجه ميلوش فورمان، مقتبساً من مسرحية بيتر شيفر المقتبسة بدورها من مسرحية لبوشكين، تُروى على لسان الموسيقي الإيطالي أنطونيو سالييري الذي عاصر موتسارت، سيكون سالييري هذا نفسه هو ممول العمل الذي أوصى الموسيقي الشاب بتأليفه لمجرد أن يرهقه في وقت كانت الأمراض وضروب الإنهاك تفتك به. وهذا الأمر "يعترف" به سالييري بنفسه، مضيفاً أنه حقق غايته لغيرته من موتسارت وذهوله أمام إبداعه الذي ألقى بظل كثيف على عمل سالييري نفسه.
حكايات أغرب من الخيال
بيد أن هذه واحدة فقط من الحكايات التي يمكن تداولها في ما خص ولادة "القداس" من دون تصديقها، بما في ذلك حكاية تبدو أقرب إلى المنطق حول توصية أتت من جماعة الماسونيين إلى موتسارت بكتابة القداس، وأخرى تتحدث عن الثري النمساوي فرانتز فون والسيغ الذي بعث بوصيف له مقنع ليوصي الموسيقي المفلس والمريض بتأليف ذلك العمل... والحال أن هاتين الحكايتين تبدوان الأقل غرابة وبعداً عن المنطق من بقية الحكايات. ومع ذلك، ليس ثمة ما يؤكدهما تاريخياً. فمن الناحية التاريخية، هناك أمر واحد مؤكد فقط وهو أنه في ليلة كئيبة من عام سابق لموت موتسارت، قُرع باب بيته ليجد أمامه شخصاً مرتدياً ومقنّعاً بالسواد، يسلّمه بصمت قصاصة ورق يعرض عليه فيها أن يكتب قداساً جنائزياً مقابل مبلغ كبير من المال. ذهل موتسارت إزاء العرض، هو الذي كان مفلساً وعلى شفير الهاوية صحياً ونفسياً، لكنه إذ وجد نفسه يتردد، فوجئ بزيارة ثانية لـ"الشبح الأسود" يعطيه عربوناً ويلحّ عليه لبدء العمل. ففعل!
خرافة دخول سالييري على الخط
حتى هنا، نجدنا أمام رواية يتفق عليها الجميع. ولكن بعد ذلك، هناك من الروايات عدد يوازي عدد الرواة حتى اليوم لا تزال الأسئلة وضروب الحيرة تكتنف جذور ذلك العمل الموسيقي الكبير. والمهم هنا على أية حال هو أن الحكاية المتعلقة بدخول سالييري على الخط ويرويها لنا هو بنفسه كجزء من اعترافات يدلي بها في مأوى للمجانين بعد موت موتسارت، تبدو الأبعد عن الواقع وإن كانت الأجمل والأكثر إثارة للأحاسيس في بعدها السينمائي، وكذلك الأكثر قدرة على رفد "القداس" ببعد إنساني بديع... للأسف إنه ينتهي بموت المبدع!
وسيكون من الأفضل هنا على أية حال أن نعود إلى العمل الموسيقي نفسه الذي كان لافتاً فيه أن الموسيقي الشاب كتبه، في وقت كان يعمل بكل جدية على وضع اللمسات الأولى لأوبرا "زواج فيغارو"، كما في وقت كان قد أنجز لتوه بعض أكثر أعماله الموسيقية مرحاً وتفاؤلاً، ومنها - على سبيل المثال - "الرباعي من مقام صول صغير من بيانو". صحيح أن هذا العمل الأخير يحتوي على مؤثرات أولية تتعلق بتعبير موتسارت عن قلقه التراجيدي، لكن بعض مقاطع العمل (لا سيما "الأندانتي" من مقام سي بيمول)، كان يكشف عن غنائية ستجد ذروتها في الخاتمة التي أتت لتواصل سحراً موسيقياً فاتناً، كان موتسارت قد بدأ يعبّر عنه منذ عام 1789. إذاً، بين خلفيات تأملية مشوبة بالقلق، وتعبير غنائي عن تفاؤل بالحياة، كانت أعمال موتسارت تتأرجح في ذلك الحين.
تلك الحيرة الخلّاقة
وهكذا أتى "النشيد الجنائزي" استكمالاً لحيرة تلك المرحلة... وهو على أي حال، كان من أخطر ما ألّفه موتسارت في تلك المرحلة الأخيرة من حياته، حتى إن كان لا بد من التذكير مرة أخرى بأن العمل كان من نوع التوصية، فتمكّن موتسارت من أن يحوّل عمل التوصية ذاك إلى عمل خاص جداً، هو - في شيء من الاختصار - تأمّل ذاتي حول الموت: لكنه كان تأمّلاً لا يخلو من مزيج من الإيمان والاحتجاج والتطلّع إلى الدعة والسلام مع الذات في نهاية الأمر، ويقول المتخصصون في أعمال موتسارت، إن هذا الأخير، حتى حين كتب ذلك "الجناز"، كان يعرف أنه، في نهاية الأمر، إنما يكتب لنفسه كاشفاً عن أسرار أفكاره وآرائه في الدين والحياة والوجود... والمؤسف طبعاً هو أن هذا العمل لم يكتمل أبداً على يدي موتسارت، إذ زاره الوباء وقضى عليه وهو يكتب جزءًا منه، شاء أن يعنونه بكلمتي "هومو روسي"... أما بالنسبة إلى "النشيد الجنائزي" المتضمن داخل العمل ككل ويشكّل الجزء الأساسي والأطول، فإنه مكتمل... ومكتمل بخاصة في قدرته على التعبير عن موقف مؤلفه من الموت، أكثر - طبعاً - مما في قدرته على التعبير عن انتمائه إلى الماسونيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين الدين والموت
ولعل أول ما يلفت النظر في هذا "النشيد الجنائزي" هو أن المؤلف يبدّل فيه أساساً من طبيعة استخدامه لآلات النفخ التي كان يستعملها بوفرة في أعماله السابقة. فهنا لا وجود لآلات الأوبوا ولا للنايات، إذ نجد موتسارت يستعيض عنها في لحظات مناجاة مناسبة في بعدَيْها الدرامي والتأملي ببوقات عريضة الصوت وكلارينات من مقام "فا" التأملي، ما يؤكد للنشيد طبيعته الدينية الخالصة. ولئن أتى هذا "النشيد" هنا كلاسيكياً وعتماً في تعبيره عن العلاقة بين الدين والموت، فإن موتسارت سرعان ما يطوّر كتابته الموسيقية ضمن إطار لغة هارمونية ذات "جرأة مفاجئة" بحسب تعبير الباحثين... وذلك عبر جمل موسيقية شديدة الحداثة وتكاد تكون "ذات طابع عدواني مباغت"، جمل تأتي بين لحظة وأخرى لتعكّر الصفاء والدعة التأملية، التي تطبع أولى نوطات العمل... وبعد ذلك إذ تتحول الموسيقى كلها إلى نوع من الشكوى التضرعية، يدخل "المارش" الجنائزي في شكل مباغت ليقطع سريان الشكوى مصحوباً بـ"الكانتوس فيرموس" الذي كان قد طالعنا في بداية العمل... وهذا كله يعطي المستمع شعوراً بأن "الموكب الجنائزي" يقترب، ويقترب حاملاً معه الموت، ثم يجمد في شكل فجائي وكأن السائرين في الموكب يريدون للجثمان أن يستريح عند مكان ما، قد تكون له معه ذكرى معينة... وهكذا إثر هذا الجمود، تبدأ الموسيقى بالاتسام بطابع شديد الألم والرقة في الوقت ذاته... غير أن هذا الطابع، وخلال اللحظات التالية، وفي شكل تدريجي، يبدأ بترك المكان لنوع من الاستسلام الصامت أمام حقيقة ما حدث: أي أمام حقيقة الموت. ولئن كان الباحثون قد اختلفوا دائماً حول "حصة" موتسارت من تأليف العمل وحصص لمساعدين له عملوا معه في آخر أيامه، ومنهم سيسماير الذي ستكون له اليد الطولى في تنسيقه وترتيبه بالشكل النهائي الذي نعرفه اليوم – من دون أن يكون له أي ذكر في فيلمة "أماديوس" -، فإنهم اتفقوا دائماً على أن هذا القسم من العمل كان مكتملاً تماماً يوم رحيل موتسارت.
البعد الذاتي
ومن الواضح من هذا القسم أنه يعبّر عن تأملات عميقة كان موتسارت قد بدأ ينظر بها إلى الموت: الموت في صورة عامة، وموت الآخرين، ثم موته هو شخصياً. تأملات تعبّر، في الحقيقة، عن خوفه أمام خطر كان بدأ يشي لديه بقرب النهاية. ولعل هذا الطابع الذاتي الصادق، هو أفضل وأجمل سمات هذا العمل الذي يصنّف عادة بين نتاجات موتسارت الكبرى إلى جانب أوبراته العظيمة وسيمفونياته، ولكن بخاصة إلى جانب تلك الأعمال الدينية التي لم يفُت الباحثون أن يقولوا دائماً إنها أعمال فلسفية أولاً وأخيراً.