Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كفى الزعبي تكتب روايتين بالتوازي في "مدينة أبي"

سردية ديستوبية تفضح الأفكار المشوّهة وتقارب عالم مارغريت أتوود في "حكاية الجارية"

لوحة للرسام زهير حسيب (صفحة الرسام على فيسبوك)

روائي وراوٍ وبطل ورواية بين أيدينا وأخرى بين يديّ الراوي. قد يبدو الأمر مربكاً إلى حد ما، لكنه في قراءة رواية "مدينة أبي" (دار الآداب) للكاتبة الأردنية كفى الزعبي سيبدو واضحاً تماماً. ما يربط الابن "نبيل" بمدينة أبيه، هو إرث أبيه الثقافي والسياسي والقيمي. فهذا الشاب نشأ وعاش فتوته في الغرب "مدينة غاربيا" التي لا يهم القارئ إن كانت في فرنسا أو بريطانيا. ما يهمنا أنها دولة من تلك التي استعمرت بعض البلدان العربية، وتسببت في منعها من التقدم بعد ما سلبتها ثرواتها، وألحقتها بها.

هذا ما تؤكده الرواية بالتوازي مع المفاهيم والأفكار الداخلية السائدة في العقود الثلاثة الأخيرة في العالم العربي، وأبرزها يتكئ على موروث ديني لا يتوافق وأفكار الشخصيات الثلاث الأساسية "الابن والأب المتوفى مغترباً، والشاب الرافض الذي جرت تصفيته بسبب أفكاره"، بوصفهم يدركون معنى الحياة الحقيقي أو المعتدل أو السوّي، طالما استندوا في أفكارهم إلى العدل والحرية والمساواة، بعيداً من الاستبداد والهيمنة وتهميش الآخرين على أسس غير علمية، بل وغيبية مشوهة في الأساس.

نبيل الذي لم تتمكن ثقافته الغربية من خلع جذوره في مدينة المضارب، بفضل حياة أبيه السياسي الذي سُجن وعُذب في هذه المدينة، والأب الذي اضطر تحت التعذيب في السجون إلى الاستسلام، والرجل "المناضل" الذي واجه كل تلك الأفكار والمفاهيم التي سيطرت على المجتمع، استناداً إلى قيم تمّت قولبتها لتكتسب قداسة يصعب إنكارها أو تجاهلها.

التشوه القاسي

تجهد الرواية بكل قوتها وتركيزها لإدانة بنية اجتماعية وسياسية تمكنت من فرض ماهيتها المشوهة على أبناء المدينة. ولا تخفي الرواية ذلك التواطؤ الذي حدث ومهد لهذه السطوة المقنّعة بالدين، ما بين السلطة السياسية والجماعات الدينية التي وجدت المدينة ميداناً فارغاً لممارسة نشاطها الذي أوصلها إلى كل هذا التشوه القاسي، والذي يجري التعبير عنه بصور عدة، لكي تتحول إلى ما يشبه سجناً كبيراً، تطبق جدرانه على الشاب المستنير نبيل، ومن قبله الرجل الرافض الذي تمت تصفيته بما يشبه التواطؤ بين السلطة والقتلة المدافعين عن الدين كما يتوهمون.

تذكرنا هذه الرواية برواية مارغريت آتوود "حكاية الجارية"، حيث المدينتان في الروايتين محكومتان بسلطة دينية، وتجري معاقبة كل من يخالف أفكار الجماعات الدينية المسيطرة. والفارق الوحيد بينهما في تركيز آتوود على امتهان المرأة، بينما تبدو الزعبي أكثر شمولية، وهو ما نراه أقرب إلى الواقع تحت هيمنة الفكر المشوّه، الذي لا يحفل بالحياة البشرية والقيم الإنسانية، إلا بمقدار ما تبدو هذه الحياة عند أصحابها مجرد استسلام مطلق لأفكار غيبية مشوهة ، تجعل الناس كلهم مجرد عابري سبيل في رحلة الحياة، طالما كانت حياة أخرى في انتظارهم بعد رحيلهم عن الدنيا.

في مدينة كهذه يبدو من الطبيعي أن تنقلب المفاهيم والأفكار، وأن تتراجع القيم الإنسانية ليحل مكانها الشر بأشكاله كلها، المتوقع وغير المتوقع. فالعمّ يصرّ على مخالفة القوانين، ليستأثر بمنزل جد نبيل الذي هو ملك بالضرورة للأخوين "والد نبيل وعمه". ولكي يكتمل المشهد كله كان لا بد من التعريج على مكانة المرأة في هذه المدينة، سواء عزباء أم مطلقة أم زوجة وأماً. وما يحز في النفس هو التقاط الروائية القمع الذي تمارسه المرأة بحق المرأة، بسبب اعتيادها هامش الرجل بكل ما فيه من بطش ذكوري.

أما سناء المطلّقة فعليها أن تخسر حياتها لأكثر من سبب؛ أولها أنها أقامت علاقة حب مع نبيل، وثانيها أنها ممنوعة من الزواج والاحتفاظ بطفلها في آن واحد. وثالثها أن لقاءاتها المتكررة بنبيل تعمل على إيقاظ بيت الشعر الشهير"لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتى تراق على جوانبه الدمُ".

الكابوس المتكرر

تلجأ الروائية إلى حبكة الكابوس المتكرر، حيث الناس في المدينة بوجوه وملامح مستنسخة، ولا يتقبلون أي ملامح مختلفة، ويطاردون كل من يخالف القوانين السائدة. ثمة رجل في الكابوس يجمع بين ثلاث شخصيات في الرواية؛ نبيل والأب والرجل الذي تطلق عليه الكاتبة صفة المغدور. وهو الرجل الرافض تلك المفاهيم والأفكار، والذي دفع حياته ثمناً لرفضه غير الصامت. فالثلاثة يرفضون هذا التحول الذي يصيب المدينة كالوباء، ولديهم دائماً أمل في مكان ما، أو في شكل ما، كأغنية من أي جهة أتت!

إنه الأمل الذي كان يرافق الجارية عند مارغريت آتوود بالهرب من المدينة/ السجن/ المحكومة بتعاليم صارمة. وبمقدار ما ينعكس هذا الأمل على علاقة نبيل بسناء بين حين وآخر، فإنه يهوي فجأة إلى أعماق سحيقة. وتصاحب هذا البزوغ والغياب تقلبات في العلاقة بين سناء ونبيل، وفي آراء بعض المحيطين بالأخيرة، من دون إهمال السطوة المتطرّفة التي تحكم قبضتها على المدينة.

تنتهي علاقة نبيل بسناء بالطريقة التي تنتهي بها حياة المغدور، حيث يتم قتلها ليصبح نبيل وحيداً كما كان المغدور من قبل. وتستمر المدينة في بث شرورها والانزياح بعيداً في تطرفها، طالما كانت السلطة السياسية تسمح للجماعات بنشر أفكارها المشوهة، بحيث تتعين البنية الاجتماعية في الكابوس المتواصل للرجل المختلف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يبدو ما يحدث كله في المدينة، رواية كتبها نبيل خلال زياراته وإقامته فيها. لذلك لا نستغرب هذا الحوار بين نبيل وسناء بعد مقتلها "صوناً للشرف". وهو حوار يدور حول مستقبل نبيل وخططه للمستقبل، بحيث يؤكد لسناء أنه سيعود إلى المدينة لكي ينتقم. وعلى الرغم من أنه لا يعرف كيف يبدأ ومن أين، إلا أنه يصرّ على هذا الانتقام لسناء وللرجل المغدور ولأبيه ولطفل سناء، بينما تبدو "أم نبيل" الأجنبية التي تزوجها أبوه بعد هجرته المدينة درءاً للعار الذي ملأه حين اعتقد أنه خان رفاقه، تبدو غير معنية بالمدينة من قريب أو من بعيد. حتى أنها لا تحفل بحصة زوجها من منزل الجد ولا تريد سوى عودة ابنها ليقيم معها في مدينتها الغربية.

ما يلفت الانتباه في الرواية هو ما يشبه الفائض في اللغة، والإطالة التي لم تكن مبررة فنياً. وهي تأتي أحياناً على حساب التدفق الروائي التلقائي، والحكاية أو الحكايات المتنوعة، التي تصب جميعها في إناء واحد، هو سطوة الجماعات المتطرفة بأفكارها ومفاهيمها على المدينة، وسرقتها من هذا العالم وأهلها المفترض بهم أن يكونوا أحراراً وخلاقين.

وإذا تمكنت "أوفرد" الجارية من الفرار من مدينة الديستوبيا عند مارغريت آتوود، فإننا لا نعرف بعد مصير نبيل ومدى قدرته على مواجهة الديستوبيا عند كفى الزعبي. وربما نحتاج إلى جزء ثان للرواية، على الرغم من التصميم الذي يبديه نبيل على العودة والانتقام.

لقد دوّن سرديته وانتهى منها، وحان دوره ليكمل مشوار المغدور ووالده السجين السياسي. فالمدينة ليست محكومة لجماعات متطرفة معلقة في الهواء، إنما هي فريسة شرائح سياسية توظف هذه الجماعات تسهيلاً للسيطرة المطلقة، فهل ينجح نبيل في تغيير بوصلة المدينة، وإيقاظ أهلها من خدرهم؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة