دخل البحث عن حبة دواء في يوميات المواطن اللبناني. ففي الأشهر الماضية، شهدت الصيدليات نقصاً كبيراً في عرض الأدوية الأساسية، في مقابل زيادة الطلب عليها. وتسبب ذلك بـ"أزمة دواء".
ولم يعد يخفى على أحد أن سياسة الدعم، فتحت شهية المهربين لجمع الأدوية وتهريبها إلى خارج لبنان. وأمام هذا الواقع، تنظم مجموعات شبابية مبادرات التكافل الاجتماعي لتأمين هذه السلعة الأساسية للمواطن الفقير.
الشركات لا تلبي الطلبات
يشترك المواطن والصيدلي في الشكوى من نقص الدواء، وتحديداً لدى المرضى الذين يحتاجون إلى أدوية الأمراض المزمنة. ويؤكد الصيدلي علاء حمزة (طرابلس) أن "التوتر يسود العلاقة بين الصيدلي والمواطن، وقد تأثرت إلى حد كبير بفعل نقص أنواع الأدوية حتى البنادول"، مضيفاً أن الصيادلة لم يعد في إمكانهم تأمين طلبات سائر الزبائن بسبب الشح بتسليم الدواء. ويعزو السبب إلى تأخير مصرف لبنان بصرف الاعتمادات لمصلحة الشركات المستوردة، إضافة إلى السبب الرئيسي "التهريب".
انسحبت أزمة الثقة من العلاقة مع الزبون، إلى العلاقة بين الصيدلي والشركة الموردة، إذ لم يتراجع توريد الأدوية، بينما تراجع التسليم بنسبة تراوحت ما بين 15 و30 في المئة من حجم الطلبيات. هكذا، لجأت الشركات إلى "التقنين" للحفاظ على البضائع إلى حين صرف الاعتمادات، ولأن هناك مجموعات تتولى مهمة جمع الأدوية من السوق وتهريبها إلى الخارج.
ويلفت حمزة إلى أن "علبة البنادول تُباع في مصر بـ12 دولاراً، أما في لبنان فثمنها 3300 ليرة لبنانية بفعل الدعم"، أي أن ثمنها في لبنان هو ما دون ربع الدولار الواحد في سعر صرف السوق الموازية. ما يشجع على التهريب بعيداً من حصول اللبناني على حقه في العلاج أو حرمانه منه.
أمام سلسلة الأزمات المتزايدة، يحاول الصيادلة ترتيب الأوضاع من خلال البيع بالقطعة والظرف. ويشير حمزة إلى أن "البيع يتم في ضوء التسليم، لأن الطلب من المواطن البحث عن الدواء هو أمرٌ معيب، والسبب الأساسي هو فتح الحدود أمام التهريب".
إلى ذلك، بدأ قطاع الصيدلة يتخوف على أمن الصيدليات. ويروي حمزة تجربة حدثت معه عندما هدده أحد الزبائن من أجل الحصول على "علبة دواء قيمتها 103 آلاف ليرة"، سائلاً ما ذنب الصيدلي إذا كان ثمن الدواء مرتفعاً من المصدر الأساس؟ ويقول "ليس من مهمات الطبيب حمل سلاح في الصيدلية لأنها ليست من ضمن وظيفته، ولكن غياب الدولة يزيد الإحساس بانعدام الأمان المجتمعي.
"من بيتك دوا لغيرك"
دفعت أزمة الدواء بعض الناشطين إلى المبادرة والتحرك، وتعتبر مبادرة "من بيتك دوا لغيرك" واحدة من تلك الخطوات التي تُجسد التكافل الاجتماعي في شمال لبنان. ينطلق الناشط ضياء يوزباشي من تجربته الشخصية في إحدى الصيدليات، فقد عايش شكوى الناس من عدم القدرة على تأمين أدوية الأمراض المزمنة، كالسكري والضغط. بدأ المبادرة عندما تعرف إلى رجل سبعيني وحيد، تنقل بين الجمعيات الإغاثية التي لم تتمكن من تأمين الدواء له، وعجز الرجل عن تأمين حاجته من الدواء لأن كلفة الدواء 320 ألف ليرة. ويقول الشاب يوزباشي إن "هناك مرضى عاجزون عن شراء علبة الدواء المسيل للدماء لقاء 3500 ليرة لبنانية".
بدأ يوزباشي مهمته من خلال إنشاء صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي من "دوا بيتك ساعد غيرك"، وتعتمد الفكرة على جمع الأدوية من المتبرعين الذين يحفزهم من أجل وهب الدواء المتبقي عندهم إلى المحتاجين"، لافتاً إلى أن هناك أناساً يشترون الدواء، ومن ثم لا يكملون العلاج أو يغيرونه. ويوضح يوزباشي أن المواطن يمكنه أن يضحي بنوعية الطعام أو كمياته، ولكن الدواء أمرٌ أساسي وتتوقف عليه حياة الفرد.
يتطلع يوزباشي إلى توسيع نطاق المبادرة، معبراً عن تفاؤله بسبب تفاعل أهل الخير معه، واستفادة العديد من أهالي طرابلس وعكار من الأدوية التي يتم جمعها من المتبرعين ووهبها لمستحقيها من خلال التواصل المباشر أو من خلال صفحة "فيسبوك".
الدواء متوافر ولكن
يعتقد مستشار وزير الصحة لشؤون الدواء رياض فضل الله أن "التلميح أو التصريح بإمكانية رفع الدعم عن هذه السلعة الضرورية كلياً هو جزئياً هو السبب في اضطراب السوق"، لافتاً إلى أن "هناك تقاذفاً لكرة اللهب ضمن مجلس الوزراء وليس وزارة الصحة، لأنه لا يمكن حمل مسؤولية رفع الدعم عن الدواء، لأن ضريبة 7 سنتات على واتساب أشعلت البلد، فما بالك إذا ما أصبح ثمن علبة البنادول أربعة أضعاف ما هو عليه الآن؟". ويقول، "ذلك قد يسقط الدولة".
ينفي فضل الله ارتفاع سعر الدواء في لبنان، لأنه مع وصول الوزير في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن أصدر القرار 119/1 الذي خفض أسعار 830 دواءً، ووفر 160 مليون دولار على الفاتورة الدوائية للمواطن اللبناني.
الخوف المبرر
تزايدت عملية شراء الأدوية بنسبة تراوح ما بين 12 في المئة للأدوية المحلية الصنع، وصولاً إلى 50 في المئة بالنسبة إلى بعض الأدوية المستوردة والماركات. ويعود السبب في ذلك إلى ما يسميه فضل الله "الخوف المبرر عند الناس" لأن هناك إنعدام ثقة في الاستقرار واستمرار الدواء، وتوجه المواطن الذي يمتلك المال إلى تخزين الدواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يُقر فضل الله بوجود التهريب الذي يستهلك جزءاً من المواد المستوردة، داعياً الجمارك والأجهزة الأمنية إلى مكافحة هذه الأعمال غير المشروعة التي تتولاها المافيات، والحؤول دون إخراج الأدوية المدعومة من لبنان، أو تلك التي تؤمنها وزارة الصحة مجاناً. ويكشف فضل الله أن هناك "حزمة من 30 دواءً هي الأدوية للأمراض المستعصية التي يتم تهريبها إلى الخارج".
الدواء المحلي مفيد
يتحدث فضل الله عن وجه إيجابي للأزمة من خلال تنشيط التصنيع المحلي، مؤكداً أن المصانع اللبنانية تمكنت من سد النقص في السوق المحلية، وتقديم الأدوية البدائل.
ويدعو مستشار وزير الصحة إلى تغيير الذهنية اللبنانية التي لا تقبل إلا "الدواء البراند"، وترفض "الجينيريك" المماثل، وبسعر أرخص، موضحاً "عندما يكون هناك براند لا مشكلة في الإصرار عليه، ولكن مع انقطاعه يجب اللجوء إلى البديل لعدم البقاء من دون دواء".
يطمئن فضل الله إلى استمرار توافر "أدوية الأمراض المستعصية"، مؤكداً أن الوكيل توقف عن استيرادها لأسباب تجارية، لذلك فتحت الوزارة الباب للاستيراد، وأعطت أذونات على وجه السرعة. ويتحدث عن أزمة عالمية في سوق الدواء لأن الشركات المصنعة خففت من إنتاجها، وخففت توريدها إلى لبنان بسبب الضغط على الأصناف المتصلة بجائحة كورونا.
ويخلص فضل الله إلى أنه "لم يمت بعد أحد في لبنان بسبب إنقطاع الدواء"، وأمام المخاوف على سلامة المواطن وصحته، هناك سعي لإقرار "البطاقة الدوائية" التي تخوّل المواطن الحصول على حصته الشهرية من الدواء، مرجحاً انخفاض مبيعات الدواء 50 في المئة عندما يُعاد النظر في سياسة دعم الدواء، لأن من خزّن الأدوية سيتجه إلى بيعها أو استهلاكها قبل انتهاء الصلاحية.