كلنا سمعنا بعبارة "الحلم الأميركي" في فيلم، أو في كتاب، أو خطاب، فالولايات المتحدة الأميركية و"الحلم الأميركي" صنوان لا يفترقان، بل وفي الإحصاءات العالمية، فإن معظم الأفراد والعائلات في العالم الثالث يحلمون بالهجرة إلى الولايات المتحدة من أجل تحقيق "الحلم الأميركي"، الذي لم تكف الميديا الأميركية بكل أشكالها عن الترويج له كمثال يجب أن يتبعه العالم أجمع، وهذا الترويج يتم عن وعي وإصرار منذ تسعينيات القرن الـ19، حين سعى المبشرون ورجال الأعمال الأميركيون ووسائل الإعلام إلى نشر هذا الحلم في المجتمعات والثقافات الأخرى.
إذاً ما هو "الحلم الأميركي"؟
في كتابها "نشر الحلم الأميركي: التوسع الاقتصادي والثقافي الأميركي 1890-1945"، حددت عالمة الاجتماع إميلي إس روزنبرغ خمسة مكونات للحلم الأميركي، وقد باتت هذه المكونات مقياساً متبعاً في العالم، وهي "أولاً: الاعتقاد أن الدول الأخرى يجب أن تكرر مسيرة التنمية الأميركية، والإيمان باقتصاد السوق الحر، ودعم اتفاقيات التجارة الحرة والاستثمار الأجنبي المباشر، وتعزيز التدفق الحر للمعلومات والثقافة، وقبول الحماية الحكومية للمؤسسات الخاصة".
ومن الواضح أن هذه المكونات تبين أن "الحلم الأميركي" يقوم على الحرية الخاصة والمبادرة الشخصية بغض النظر عن مكان ولادة هذا الشخص أو الطبقة التي ولد فيها، ليتمكن من تحقيق نسخته الخاصة من النجاح في مجتمع يكون فيه التنقل التصاعدي ممكناً للجميع، من خلال التضحية والمخاطرة والعمل الجاد وليس عن طريق الصدفة، وغالباً ما ينظر إلى ملكية المنازل والتعليم على أنهما طريقان أساسيان لتحقيق الحلم الأميركي، وكذلك هو نفسه وسيلة لتنمية المجتمعات البشرية الأخرى ودفع الحكومات والأنظمة السياسية إلى اتباعه وسيلة للارتقاء والتقدم.
أسس وسلبيات
أما جذور "الحلم الأميركي" فيمكن العثور على مبادئها في إعلان الاستقلال، الذي ينص على أن "جميع الناس خلقوا متساوين، وأن خالقهم منحهم حقوقاً معينة غير قابلة للتصرف، ومن بينها الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة".
إذاً يمكن اختصار "الحلم الأميركي" بالمعنى الفكري، بأنه وعد بالحرية والمساواة في الفرص، وحرية التطلع إلى ما هو أكبر وأفضل وإمكانية تحقيقه، وحرية تجميع الثروة، وحرية العيش وفقاً لقيم الفرد، حتى لو لم يتم قبول هذه القيم على نطاق واسع، ومع تطور هذا المفهوم أصبحت ملكية المنازل والعقارات وتأسيس الشركات والمؤسسات الخاصة، مثالاً على تحقيق الحلم الأميركي، لأنه رمز للنجاح المالي والاستقلال.
ورأى الكاتب في فترة ما بعد الحرب الأهلية الأميركية هوراشيو ألجير أن "الحلم الأميركي" يقوم على فكرة أن ظروف ولادة شخص ما، أي إذا ولد مواطناً أميركياً أو مهاجراً، لا تحدد مستقبله ومصيره في الولايات المتحدة الأميركية التي هي أمة من المهاجرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هذا الحلم لم يتحقق في حياة عديد من الأميركيين الفعليين وأولئك الذين يأملون في أن يصبحوا أميركيين. إن النقد القائل إن الواقع لا يرقى إلى مستوى الحلم الأميركي هو على الأقل قديم قدم الفكرة نفسها، ومع زيادة عدم المساواة في الدخل بشكل كبير منذ سبعينيات القرن الـ20، بدأ "الحلم الأميركي" يبدو أقل قابلية للتحقيق بالنسبة لأولئك الذين ليسوا أثرياء بالفعل أو الذين لم يولدوا في الثراء، ووفقاً لبيانات دخل الأسرة في تعداد الولايات المتحدة ابتعد تحقيق الحلم بالنسبة لمئات آلاف الأسر خلال الأزمة الاقتصادية في عام 2008، والتي أدت إلى سقوط عدد كبير من الأسر في فخ الفقر بسبب الرهونات العقارية للبنوك، التي وضعت اليد على منازل ومؤسسات الذين توقفوا عن رد قروضهم التي حصلوا عليها في مرحلة الطفرة المالية والاقتصادية.
البلدان المهزومة في الحرب الثانية
على الرغم من أن "الحلم الأميركي" بقي حلماً لم يتحقق بالنسبة لمهاجرين كثيرين أو لمن حاولوا الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فإن "المثال الأميركي" انتشر في العالم، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية في مرحلة أولى، وبعد انتهاء الحرب الباردة بانفراط عقد الاتحاد السوفياتي في مرحلة ثانية، فمطاعم الـ"ماكدونالدز"، وسراويل الـ"جينز"، والقهوة الأميركية سريعة التحضير، والأفلام الـ"هوليوودية"، والتلفزيون الموصول بـ"الستالايت" والكمبيوتر والهاتف المحمولين، وثورة الاتصالات الحديثة نسبياً، كلها تضخ، وبشكل ضخم وواسع، أفكار "الثقافة الأميركية" حول العالم، والتي تلقى تجاوباً من بعض دول العالم التي تنتهج السبل الأميركية للتطور والتقدم، وتلقى اعتراضاً من أخرى التي ترى الثقافة الأميركة مادية واستهلاكية وتدور حول المادة لا النفس البشرية، وهذا التناقض في الرأيين موجود في المجتمع الأميركي نفسه.
لكن البلدان المهزومة في الحرب الثانية لم تتمكن من العودة إلى الحياة إلا بالخطط الاقتصادية الأميركية، ففي ألمانيا الغربية بحسب عالم الاجتماع راينر بومرين "كان الهدف الأكثر وضوحاً بناء حياة أفضل، مطابق إلى حد ما للحلم الأميركي، الذي صار حلماً ألمانياً"، أما في إيطاليا فترى عالمة الاجتماع كاساماغناغي أن الأفلام وقصص المجلات عن الحياة الأميركية قدمت للنساء بعد عام 1945، تصوراً عن "الحلم الأميركي"، ومثلت مدينة نيويورك بشكل خاص صورة عن المدينة الفاضلة، حيث يمكن أن يصبح كل نوع من الأحلام والرغبة حقيقة، ووجدت النسوة الإيطاليات نموذجاً لتحررهن من مكانة الدرجة الثانية في مجتمعهن الذكوري.
وفي اليابان حدث الأمر نفسه، فبعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين واستسلام اليابان، خرج الإمبراطور ليخاطب شعبه، بعد أن كان من المحرم على الشعب أن يراه أو أن يسمع صوته، وكانت هذه لحظة تغيير الثقافة والعقائد اليابانية التقليدية من أعلى الهرم إلى أسفله، فالتحق اليابان بركب التطور الصناعي والاقتصادي على الطريقة الأميركية، ونجحت بانقلابها هذا حتى باتت من أهم الدول الصناعية في العالم.
"الحلمان" الروسي والصيني ومصادرهما
منذ سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفياتي عام 1991، وقبل هذا السقوط المدوي أيضاً، كان "الحلم الأميركي" يدغدغ آمال الروس بحسب الأدبيات والتقارير التي ظهرت عقب هذا الانهيار، حتى إن "بيريسترويكا" غورباتشوف المتهمة بوضع إسفين انهيار الاتحاد، احتوت بعض أفكارها على مضامين "الحلم الأميركي" حول الحرية والملكية الفردية، ثم جاهر أول رئيس ما بعد الشيوعية بوريس يلتسين باتباعه "الطريقة الأميركية" في إعادة بناء روسيا، وتعاون مع اقتصاديي السوق الحرة بجامعة هارفرد، جيفري ساكس وروبرت أليسون، لإعطاء روسيا العلاج بالصدمة الاقتصادية في التسعينيات، وجعلت وسائل الإعلام الروسية المستقلة حديثاً أميركا مثالية، وأيدت العلاج بالصدمة للاقتصاد.
في عام 2008، أعرب الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف عن أسفه لحقيقة أن 77 في المئة من سكان روسيا البالغ عددهم 142 مليون نسمة يعيشون "محصورين" في مبانٍ سكنية، وفي عام 2010، أعلنت إدارته عن خطة لتوسيع نطاق ملكية المنازل، أطلق عليها اسم "الحلم الروسي". ولطالما أمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يشعر بالقلق من انخفاض معدل المواليد في بلاده، أن تلهم ملكية المنازل الروس "بإنجاب المزيد من الأطفال".
أما في الصين فإن "الحلم الصيني" عبارة عن مجموعة من المثل العليا يتم استخدامها من قبل الصحافيين والمسؤولين الحكوميين والنشطاء لوصف تطلعات تحسين الذات الفردية في المجتمع الصيني "الصين تحتاج حلمها الخاص"، هذا الشعار الذي بدأ الزعيم الصيني الجديد شي جين بينغ في الترويج له من مطالع عام 2013، ما أدى إلى نشره على نطاق واسع في وسائل الإعلام الصينية.
في المقارنة التي قام بها محللون اقتصاديون واجتماعيون صينيون وأميركيون لمفهوم الحلم الصيني، وجدوا أنه يشبه إلى حد بعيد فكرة "الحلم الأميركي". إنه يشدد على ريادة الأعمال، ويمجد جيلاً من الرجال والنساء العصاميين في الصين بعد الإصلاح، مثل المهاجرين الريفيين الذين انتقلوا إلى المراكز الحضرية وحققوا تحسناً كبيراً في مستويات معيشتهم وحياتهم الاجتماعية، ويخطط الحزب الشيوعي الصيني إلى دفع الصين، مع تعزيز الابتكار والتكنولوجيا إلى المرتبة الأولى عالمياً على كل الصعد، هذا مع العلم بأن الصين هي في المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد السكان الذين يمتلكون منازلهم الخاصة.
ويرى الرئيس الصيني أن "علينا بذل الجهود الحثيثة، وأن نتقدم بإرادة لا تعرف الهوان من أجل دفع قضيتنا العظيمة، قضية بناء الاشتراكية بخصائص صينية، إلى الأمام، وأن نكافح من أجل تحقيق الحلم الصيني بالتجديد العظيم للأمة الصينية، ومن أجل الوصول إلى نهاية الطريق الصينية، علينا نشر الروح الصينية التي تجمع بين روح الأمة التي تمثل الوطنية قلبها من جانب، وروح العصر التي أساسها الإصلاح والابتكار"، وهذه تقريباً الأفكار نفسها التي يعلن عنها إعلان الاستقلال الأميركي.