بعد طول تأرجح، وقّع عبد العزيز الحلو، قائد "الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال"، مع عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي في 28 مارس (آذار) بجوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، على اتفاق "إعلان المبادئ" الذي أقرّ بالتعددية الإثنية والثقافية والدينية، وتأسيس حكم فيدرالي موحد في البلاد وتكوين جيش واحد في نهاية الفترة الانتقالية.
وقد تمثَّلت العقدة التي استمرت من دون حل إلى ما يقارب العام، في إصرار "الحركة الشعبية" على تحقيق مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، وفي حال عدم الوصول إلى ذلك، يحق لها المطالبة بمنح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان حق تقرير المصير.
طريق الاتفاق
وصل الطرفان إلى "إعلان المبادئ" وسط تشكيك بأن الاتفاق لن يكون بداية النهاية للنزاعات في السودان، التي تحولت من نزاعات على حقوق المواطنة إلى نزاعات حول السلطة والثروة، خصوصاً أن هذه البنود كان بإمكان جميع الحركات المسلحة الاحتكام إليها، وفقاً للوثيقة الدستورية التي تضمنت جزءًا مقدّراً منها. كما أن الطريق نحو الاتفاق النهائي مفروش بكثير من أشواك المفاوضات، وما إذا كانت ستتم بنفس الروح التي سادت في اتفاق "إعلان المبادئ" أو أن "الحركة الشعبية" لديها بنود أخرى.
يبدو التشديد على بند الاعتراف بأهمية الدين (الإسلام والمسيحية والديانات والمعتقدات الأخرى) في حياة الشعب السوداني، مع إيجاد ضمانات لعدم استغلال الدين لأغراض سياسية أو أيديولوجية، منطقياً لأن النظام السابق كرّس للحكم باسم الدين، وفقاً لأهداف الإسلام السياسي. ولكن مع زوال النظام والرجوع إلى طبيعة المجتمع السوداني المتسامح مع كل الأديان وبقية المعتقدات، فإن الخوف هنا يكون بافتراض "تسلّل الإسلاميين مرةً أخرى إلى السلطة".
أما البند الذي حوى فصل الهويات الثقافية والإثنية والدينية والجهوية عن الدولة، فهو يشير إلى تذويب هذه الهويات في الدولة، ولكنه يناقض بنداً آخر يلفت إلى "ضرورة احترام التنوع الإثني والديني، ويجب أن تعكس المؤسسات الأمنية التنوع والتعدد السوداني".
معالجة الأزمة
لا يعني انخراط الحكومة الانتقالية في توقيع اتفاقيات السلام مع الحركات المسلحة الرئيسة والمتفرعة منها، تأسيس أرضية مشتركة وبناء الثقة بينها كصاحبة سلطة، والحركات المتمردة على السلطة في ظل النظام السابق، بينما استمر تمردها لعامين بعد سقوطه. بل يتعيّن على الحكومة أن تحوّل تركيزها عن إطار ما تعدّه إنجازاً ثنائياً، ظلت تتباهى به لمجرد عقد اتفاقات المرحلة الأولى، إلى معالجة مبكرة للأزمة وإعادة ضبط العلاقة بينها وبين الحركات.
فعلى نحو متزايد، يشكّل إقليم دارفور، الذي ينتظر أن يأتي عبد الواحد محمد نور رئيس "حركة تحرير السودان" باسمه، تحدياً يتجاوز السودان، ويجب أن يُنظر إليه على أنه أولوية أمنية في منطقة غرب السودان ووسط أفريقيا. كما أن عدم الاستقرار المستمر فيه يشكّل تهديدات لدول الجوار من خلال الهجرة والإرهاب. وقد اجتذبت الحرب الأهلية التي اندلعت منذ 2003 مقاتلين من تشاد في نزعة استقطاب إثني، دعت إليه القبائل الأفريقية ضد القبائل العربية المدعومة من الحكومة آنذاك.
والأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى المجتمع الدولي، خصوصاً الأوروبي، هو تحرّك هذه القوات ومشاركتها في الحرب في ليبيا وتأثيرها في عدم الاستقرار هناك. ويمنح هذا الوضع أوان المفاوضات فرصة مثالية للحكومة الانتقالية لإظهار كيف يمكن أن تحلّ مشكلة عدم الاستقرار في دارفور والسيطرة على الحركات بعدم إثارة زعزعة أخرى في الإقليم ودول الجوار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الجانب الآخر، تختلط هذه الإصلاحات مع قدرة الحكومة على التماشي مع مطالب الحركات والأحزاب معاً، وفي ما إذا كانت المفاوضات، أيّاً كانت نتيجتها، وسيلة ناجعة للتأسيس للحكم الديمقراطي بعد خضوع للديكتاتورية طيلة 30 عاماً. مع أن الحكومة شدّدت على أن أولويات سياستها ستكون متجهة نحو الديمقراطية وبعيداً من الاسترضاء السياسي، فإنها لم تسعَ إلى تطوير مقاربة لتجديد صلتها بالأحزاب النافرة مثل "الحزب الشيوعي" و"الاتحادي الديمقراطي"، واكتفت بالكيانات المنضوية تحت الجبهة الثورية المتوائمة مع الحركات المسلحة.
دمج القوات
ومن قلب هذه التوقيعات، حدثت مساءلة للحكومة الانتقالية عن الوجود العسكري في الخرطوم وبعض المدن الرئيسة، وأنها تحاول حل مشكلات مناطق النزاع بنقل القوات إلى الخرطوم، ما أسهم في ظهور حالات من الانفلات الأمني.
ونتيجةً لذلك، ذكرت صحيفة "الصيحة" السودانية في عددها الخميس الأول من أبريل (نيسان)، أن اللجنة الفنية التابعة لمجلس الأمن والدفاع برئاسة رئيس أركان الجيش السوداني الفريق أول محمد عثمان الحسين، "قررت إفراغ العاصمة من الوجود المسلح، إضافة إلى منع عمليات التجنيد والاستيعاب السياسي الذي تنفذه الحركات المسلحة في مدن السودان".
جاء ذلك على خلفية "ارتفاع الأصوات التي انتقدت حالة السيولة الأمنية وكثافة الوجود العسكري في الخرطوم، إذ استعرض مجلس الأمن والدفاع الموقف الجنائي للجرائم التي ارتُكبت في الفترة الأخيرة وتراوحت ما بين القتل والنهب، واعتبار الظاهرة ثغرة في اتفاقية الترتيبات الأمنية تتعلق بآليات دمج القوات التابعة للحركات المسلحة وتسريحها، ما يؤدي إلى تعقيد الأوضاع الأمنية".
ومهما يكن من أمر، فإن لدى الحكومة الانتقالية فرصة لإعادة انخراط هذه القوات في مهمات إرساء الاستقرار في مناطق النزاعات وبقية المدن، ومنع التجاوزات المقلقة، ما دعاها إلى التوجيه بإفراغ العاصمة والمدن من الوجود العسكري التابع للحركات. وإن كان "إعلان المبادئ" قد نصّ على أن يكون للسودان جيش قومي مهني واحد يكون ولاؤه للوطن، فإن الوجود الحالي لقوات الحركات في الخرطوم المزمع دمجها في الجيش وتصريحات أفرادها، كلها لا تدلّ على ذلك، لجهة أنهم أتوا من مناطق مهمشة لينالوا حظاً أوفر، وتعبيرهم صراحةً بضرورة تعويضهم عما عانوه في مناطق النزاعات.
فالهدف هو الغنيمة والمكسب في غالبية التعبيرات الصريحة، بما يتنافى مع المرجو من العمل وفق عقيدة عسكرية موحدة أو جني ثمرات التنوع في المؤسسات العسكرية، بل يُتوقع أن يحدث العكس نتيجة للخلفية المحرِّكة لهذه المطالب وجذورها.
تقلبات المواقف
في إطار تحليل اتجاهات السياسة السودانية ومستقبل علاقتها بهذه الحركات المسلحة، تسود وجهتا نظر، لكل منهما مؤشراتها ومعطياتها الواقعية. وجهة النظر الأولى ترجّح توافق هذه الحركات مع الحكومة الانتقالية لبروز تحدٍّ اقتصادي في أن المناطق المسيطر عليها والمنتجة للذهب أو النفط، أصبحت تحت أنظار العالم، ويتوقّع أن تفرغ الحكومة الانتقالية من ترتيب بيت الحكم والانتقال إلى الخطوة التالية بفرض سيطرتها على هذه المناطق، خصوصاً مع فشل النظام السابق في اقتحامها.
وذلك بالنظر إلى تنامي التحدي الذي ربما يقود إلى تنازع هذه المناطق بين الحكومة والحركات الموقعة على اتفاقيات السلام، وخروج الأولى من ترتيبات القسمة. فيصبح استعداء الحكومة المرضي عنها عالمياً هو استعداء للمجتمع الدولي، وأي جهود مقبلة للوساطة ستكون محدودة الأثر. هذا الموقف قد يغدو أكثر وجاهة في حال نجح تنفيذ اتفاق السلام في ترجمة علاقة الحكومة مع حركتَي الحلو ونور بعد التوقيع على الاتفاق.
أما وجهة النظر الثانية، فهي أن العلاقة بين الحكومة الانتقالية والحركات ستحافظ على طابعها الحالي من دون تغييرات عميقة، وبدرجة أساسية ستواصل الخرطوم سياسات الوساطة الإقليمية ووساطة المنظمات الدولية لإيصال الغذاء إلى المناطق المتضررة. وتُعدّ هذه العلاقة محور ارتكاز للحكومة ومجال فاعليتها السياسية وصمام أمان لها ضد تقلبات مواقف هذه الحركات. ومع ذلك يلاحظ أن حكومة حمدوك مستعدة لتقديم المزيد من التنازلات، مما يجعل الحركات حريصة على هذا الوضع، إلى حين أيلولة الأمور إلى حكومة جديدة وحدوث تغيرات محتملة في استراتيجيتها تجاه الحركات، ما يُعدّ محفزاً لمواصلة هذا الوضع للظفر بفرص أكبر ووضع شروط مشاركة مضمونة تفتح لها آفاقاً جديدة للعب دور في سلّم السلطة.
إعادة نظر
تسلّط هذه التطورات الضوء على التحديات المتزايدة التي تواجه الحكومة الانتقالية، وعلى الرغم من أنه بإمكان هذه الحركات أن تكون شريكاً حيوياً للسلام وحليفاً رئيساً، إلا أنها دوماً ما تتأرجح بفضل الخلافات العميقة حول مجموعة واسعة من القضايا.
حاول النظام السابق استخدام الترغيب في السلطة والثروة عبر اتفاقات وقّعها مع غالبيتها، ولكنها سرعان ما كانت تعود من حيث أتت، ما يثبت أن الجهود الحالية التي تبذلها الحكومة الانتقالية ربما تكون غير مجدية إلى حدّ كبير، وما ربما يضطر الخرطوم إلى إعادة النظر في نهجها بوصولها إلى نتيجة أن مشكلات السودان لن تُحَلّ من خلال تشكيل حكومة جديدة مكونة في غالبيتها من الحركات المسلحة.
فالبلاد بحاجة إلى استراتيجية عملية توحّد الأحزاب وهذه الحركات في ممارسة سياسية، ليس من المفترض أن يكون إدخالهم مباشرة في السلطة كمكافأة على تنازلهم عن النزاع مع الحكومة. فالواقع يقول إن هذه الحركات كانت تحارب النظام السابق الذي ارتكب نوعاً من التهميش السياسي لها والاقتصادي لمناطقها، وبزوال النظام، فمن المفترض أن يحتكم الجميع للوثيقة الدستورية التي تكفل كل هذه الحقوق لها مع بقية المواطنين.
كما أن التعامل مع الأزمة بمنطق الحقوق المهضومة قبل الثورة وبعدها، من شأنه أن يجمّد بعض الانفعالات السياسية، لكنه لا يضمن عدم تفجر الأوضاع في أي وقت.
يمكن أن تمنح هذه التداعيات السياسية فرصة ذهبية للحكومة الانتقالية وشركائها، لحثها على تحويل مسارها من إدارة الأزمات إلى حلول فعلية تتمثَّل في:
أولاً، تعزيز مكانة الجيش القومي والحفاظ على موقعه قبل دمج قوات الحركات.
ثانياً، التركيز على تسريع الانتخابات والتحول الديمقراطي وعدم الركون إلى المناداة بتمديد الفترة الانتقالية، لتحقيق التغيير والإصلاح السياسي المؤجَّلين.
ثالثاً، تشجيع بعض الأحزاب السياسية على الخروج من قوقعة التهميش التي تسجن فيها نفسها منذ النظام السابق، والتحول إلى كيانات فاعلة لضمان ممارسة سياسية قائمة على المنافسة الشريفة وليس الاحتكار لبعض الأحزاب المنضوية تحت عباءة الجبهة الثورية، وحتى لا تعود إلى الوقوف عند جبهة معارضة جديدة.