كشف البنك الدولي في تقرير حديث عن أن تحقيق مصر لفائض أولي في الموازنة ساعدها على تحمّل مستويات الدين العام، في إطار أزمة الديون التي تعاني منها معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع استمرار تداعيات فيروس كورونا المستجد. وقلل تحقيق فائض أولي في موازنة 2019 / 2020، من حاجة مصر للاقتراض على المدى القصير، وذلك على النقيض من اقتصادات عدة في المنطقة، بينها المغرب وتونس والبحرين وعمان، حيث أدت زيادة النفقات الصحية لمواجهة أزمة "كوفيد-19" إلى ارتفاع مستويات الدين والعجز في موازناتها خلال العام الماضي. وأوضح التقرير أن تأثير الجائحة في مستويات الدين المصري كان "جزئياً فقط"، إذ يمتد العام المالي من يوليو (تموز) إلى يونيو (حزيران).
وتسجل مصر حالياً فائضاً أوّلياً ضئيلاً في الموازنة. لكن من المتوقع أن يصل إلى 0.6 في المئة بنهاية العام المالي الحالي، في حين يستهدف مشروع الموازنة للعام المالي المقبل 2021 / 2022، تحقيق فائض أولي قدره 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ليعود الفائض إلى مستويات ما قبل الجائحة.
ويقدّر البنك الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للاقتصاد المصري بنسبة 3.6 في المئة خلال العام المالي 2019 / 2020، وهي النسبة الأعلى في المنطقة التي يبلغ متوسط النمو فيها سالب 3.8 في المئة، طبقاً للتقرير. ولم تحقق أي دولة أخرى في المنطقة نمواً إيجابياً باستثناء إيران وجيبوتي. ويتوقع أيضاً أن تحقق مصر نمواً في الناتج الحقيقي بنسبة 2.3 في المئة خلال العام المالي 2021 / 2022 على أن يرتدّ إلى 4.5 في المئة خلال العام المالي 2021 / 2022.
نظرة مستقبلية مستقرة
كانت وكالة "كابيتال إنتليجنس" للتصنيف الائتماني، قد توقعت أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر إلى مستوى 96.9 في المئة خلال العام المالي 2020 / 2021، مقارنة بمستوى 87.9 في المئة خلال العام المالي السابق، بسبب انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي وزيادة الاقتراض. وأكدت الوكالة، التصنيف السيادي لمصر على المدى طويل الأجل عند مستوى (B+) مع نظرة مستقبلية مستقرة.
وذكرت أنها أبقت على التصنيف طويل الأجل بالعملات الأجنبية والمحلية عند مستوى (B+). كما ثبّتت الوكالة التصنيف السيادي لمصر قصير الأجل بالعملات الأجنبية والمحلية عند مستوى (B) مع نظرة مستقبلية مستقرة. وأوضحت أن التصنيف يعكس المرونة النسبية للاقتصاد المصري، والمستوى المناسب لاحتياطي النقد الأجنبي، والدعم المستمر من صندوق النقد الدولي في مواجهة تداعيات جائحة كورونا.
وأشارت إلى أن التصنيف السيادي لمصر يعكس حجم الديون الخارجية المعتدل، واستعداد الحكومة لاستئناف الإصلاحات المالية. وتطرقت إلى ارتفاع الاحتياطي من النقد الأجنبي لمصر في النصف الأول من العام المالي 2021، لتصل إلى 40 مليار دولار في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2020، بما يعادل تغطية الواردات لمدة 6.7 أشهر، مقابل 38.2 مليار دولار بنهاية يونيو 2020.
وتوقعت أن يرتفع عجز الحساب الجاري في مصر إلى مستوى 4.4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي خلال العام المالي الحالي، مقارنة بمستوى 3.1 في المئة خلال العام المالي السابق. لكن في الوقت ذاته، من المتوقع أن ينخفض عجز الحساب الجاري إلى 2.7 في المئة خلال العام المالي المقبل 2021 / 2022، وذلك مع بدء انتعاش إيرادات السياحة وقناة السويس تدريجاً.
وعلى الرغم من تقديرات بارتفاع الدين الخارجي بشكل هامشي إلى 35.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام المالي 2020 / 2021، مقارنة بنحو 34.6 في المئة بنهاية العام المالي 2019 / 2020، إلا أنه يعتبر معتدلاً وعاملاً مسانداً رئيساً للتصنيف.
وأشارت الوكالة إلى جمع مصر 5.75 مليار دولار تقريباً من الأسواق الدولية خلال العام الماضي في ظل جائحة كورونا، عبر طرح سندات مقوّمة باليورو، والسندات الخضراء، بآجال استحقاق متوسطة وطويلة. وتوقعت أن يظل التصنيف السيادي لمصر من دون تغيير على مدى الأشهر الـ12 المقبلة، مع تقديرات بأن الإصلاحات والمساعدات الدولية ستسهم في زيادة تحسين الوضع المالي الداخلي والخارجي خلال هذه الفترة، مقابل نقاط الضعف الأساسية التي لا تزال مرتفعة نسبياً.
استمرار تحقيق فائض أولي بالموازنة
في الوقت ذاته ووفق تقرير البنك الدولي، فإن مستويات الدين في مصر ستواصل الانخفاض على الرغم من توقف خطة الحكومة لتقليص الدين مؤقتاً بسبب الجائحة، التي اضطرتها إلى توجيه المزيد من المخصصات لقطاعي الصحة والتعليم. وذكر التقرير أن التوقعات المتفائلة بشأن الفائض الأولي للموازنة المصرية سيساعدها على تحقيق المستهدفات بعيدة المدى للدين ويضع مستويات الدين المرتفعة للبلاد في مسار تنازلي.
وتستهدف خطة الحكومة المصرية لتخفيض الدين العام، التي جرى الإعلان عنها عام 2019 قبل بداية الجائحة، خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 80 في المئة بحلول 2022 بشكل رئيس من خلال التحول نحو الاقتراض طويل الأمد.
وبحسب بيانات حديثة لوزارة المالية المصرية، فقد وصلت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام المالي 2019 / 2020 إلى 86.1 في المئة، ولكن البنك الدولي يقول إنها تبلغ 87.5 في المئة، وهو ما يعكس بشكل جزئي تأثير الجائحة خلال الربع الأخير من العام المالي.
واعتبر البنك الدولي أن مصر من بين أقل الاقتصادات عرضة لخطر أزمة الديون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أن اقتصادات عدة في المنطقة دخلت الجائحة وهي تعاني بالفعل تراكماً عالياً للديون ونمواً ضعيفاً، إضافة إلى تراجع لمعايير الحوكمة، بخاصة في سياسة الشفافية.
أوضاع اقتصادية مستقرة
وفي الوقت الذي ينطبق بعض هذه المشكلات على مصر، كانت بين 3 دول فقط حققت نمواً في فترة ذروة تأثير الجائحة في الاقتصاد العالمي، كما أن زيادة الناتج الاقتصادي يظل الوسيلة الأكثر استدامة لتخفيض الدين.
إلا أن الإنفاق العام هو ما يجعل الأوضاع الاقتصادية مستقرة حتى الآن، إذ أشار البنك الدولي إلى بقاء مؤشر مديري المشتريات الذي يقيس نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مستوى الانكماش في شهر فبراير (شباط) الماضي للشهر الثالث على التوالي، وذلك بعدما ارتفع إلى فوق 50 نقطة، أي النسبة التي تفصل بين النمو والانكماش، ثلاث مرات فقط منذ انخفاضه في أبريل (نيسان) من العام 2020.
ولفت البنك الدولي إلى تأثير الجائحة في قطاعَي السياحة وصادرات الغزل والنسيج كأبرز تحديات الاقتصاد الكلي التي تواجه مصر ودول المنطقة المستوردة للنفط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أيضاً، من المتوقع أن تجني مصر وبقية دول المنطقة ثمار برامج التطعيم ضد فيروس "كوفيد-19" على المدى البعيد، إذ أورد التقرير أن نسبة التكلفة إلى المنافع وراء تطعيم 20 في المئة من عدد السكان في مصر تقدّر بنحو 78 إلى 1، مشيراً إلى أن حملات التحصين الفاعلة ستساعد في التغلب على الحاجات الصحية العاجلة في البلاد، إلى جانب تمهيد الطريق لمسيرة تعافٍ أكثر سرعة، فضلاً عن تعزيز أسس البنية التحتية للصحة العامة.
وقال البنك الدولي إن التعافي من تداعيات الجائحة في اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لن يصل إلى مستويات النشاط الاقتصادي في 2019، كما لن يصل إلى توقعات البنك الصادرة ما قبل الجائحة. ومن المرجّح أن يرتفع متوسط نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي في دول المنطقة إلى 54 في المئة بحلول نهاية العام الحالي، مقابل 46 في المئة خلال عام 2019. وذكر أن الإنفاق على الصحة والرعاية الاجتماعية سيحظى بالأولوية مع استمرار الجائحة.
إطلاق المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح
وفي الوقت الذي تشير التقارير إلى أن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأته القاهرة منذ عام 2016 كان السبب المباشر في تجاوز التداعيات السلبية التي خلّفها وباء كورونا، قالت الدكتورة جيهان صالح، المستشارة الاقتصادية لرئيس مجلس الوزراء المصري، خلال جلسة بعنوان "مؤشرات الاقتصاد المصري خلال عام من جائحة كورونا"، ضمن الدورة الثامنة من ملتقى الإسكندرية الاقتصادي والإداري، إن الفترة المقبلة ستشهد إعلان مجلس الوزراء إطلاق المرحلة الثانية من الإصلاح الاقتصادي، التي ستشهد تغييرات جذرية في المنظومة الاقتصادية لتحقيق الاستدامة في معدلات النمو وتحسُّن مستوى المعيشة، وذلك من خلال خلق فرص عمل عبر جذب الاستثمارات في بيئة مواتية.
وأوضحت أن المرحلة الثانية تتعلق بالجانب الهيكلي وتستهدف تحسين جودة الحياة والقضاء على البطالة عبر سياسات متّسقة لإيجاد فرص عمل وجذب الاستثمارات.
ويرى الدكتور حسني إبراهيم، خبير الاقتصاد الكلي أن الأوضاع في مصر تتّسم بالاستقرار والهدوء على الرغم من المخاطر التي طالت غالبية اقتصادات المنطقة، وهو ما يعود بشكل مباشر إلى اعتماد سياسات جديدة في برامج الإصلاح الاقتصادي الوطني.
وأوضح في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أن مصر لديها أكثر من مؤشر يؤكد أنها في طريقها للتعافي الكامل من تداعيات الجائحة، إذ عاد احتياطي النقد الأجنبي إلى مستويات ما قبل الجائحة، كما حافظ المركزي المصري على معدل تضخم معتدل في ظل ارتفاع معدلات التضخم في كل دول العالم، وأيضاً تمكّنت القاهرة من الوفاء بكل الالتزامات الخارجية سواء أقساط الديون أو فوائدها، ولم تتخلّف عن السداد حتى الآن.
ولفت إلى نجاح الحكومة المصرية في ضبط ميزان المدفوعات والسيطرة على الواردات بنسبة كبيرة، إذ انتهت ظاهرة "السفه الاستيرادي" بنسبة كبيرة، مع استمرار تدعيم استيراد السلع الاستراتيجية فقط، وهو ما عزز من توافر العملة الصعبة في خزائن البنك المركزي المصري.