في بدايات سنوات الستين من القرن العشرين، في زمن البرامج الإذاعية التي كانت تبث من على راديو القاهرة حين كان الراديو لا يزال ملكاً، والأزمنة بريئة وفي غاية السعادة والوعود، تعرف كثير من المستمعين العرب الذين كانوا يدمنون المسلسلات الإذاعية المصرية، على الموسيقى الكلاسيكية، وربما للمرة الأولى في حياتهم، من خلال الموسيقى التي اختيرت لمصاحبة مسلسل "ألف ليلة وليلة"، إذ أعلموا حينها أن تلك الموسيقى الرائعة، التي تعبق برائحة الشرق وحكاياته وتوابله، هي من تأليف موسيقي روسي من القرن السابق يدعى ريمسكي كورساكوف، وتحمل عنواناً ملائماً تماماً هو "شهرزاد"؛ وأعلموا أيضاً أن القطعة استشراقية تنتمي إلى ما يسمى "القصيدة السيمفونية"، بيد أن ما لم يقل لهم يومها هو أن للمؤلف نفسه "قصيدة سيمفونية" أخرى مستقاة بدورها من حنين شرقي عربي مؤكد هي "عنتر"، بين أعمال أخرى له تحفل بأبعاد "شرقية" أتت من طريق الأندلس هذه المرة، وأبرزها "نزوة إسبانية".
ولسنا ندري ما إذا كان كثير من المستمعين العرب قد اهتموا بتتبع إنتاج هذا الموسيقي، فـ"غوغل" لم تكن قد اخترعت بعد، ولكننا نفترض أن العارفين بوجود "البرنامج الثاني" في الإذاعة المصرية تمكنوا من متابعة بعض المعلومات عن ذلك الموسيقي الفذ، والإصغاء إلى بعض أعماله فأطربتهم، فنياً ووطنياً.
لا يعرف الشرق
ولكن في المقابل لا شك أن كثيرين قد صدموا يومها من خلال المتابعة بأن هذا الموسيقي، حين كتب عمليه الكبيرين هذين، لم يكن يعرف أصلاً أنه إنما يؤلف أعمالاً تمت إلى التاريخ العربي، والإسلامي، بأية صلة من الصلات، لكنهم مع ذلك، فرحوا بـ"عنتر" فرحهم بـ"شهرزاد"، وطربوا بموسيقى تخصص للشاعر العربي الأسود والبطل المغوار، وخاصة أن تلك الموسيقى أتت عملاً كبيراً آخر من العيار والأسلوب نفسه. ثم، لاحقاً، تتابعت الأنباء، إذ عرف أن موسيقى "عنتر" هذه إنما كانت ألهمت مؤلفاً فرنسياً، لبناني الأصل، عاش في باريس أواخر القرن التاسع عشر، وهو شكري غانم، مسرحية بلغة موليير عن "عنتر"، استخدمت، فيعرضها الأول موسيقى ريمسكي كورساكوف. وبصرف النظر عن هذه المعلومة الأخيرة، التي أتينا بها في سياق الحديث، لا أكثر، يبقى أن العملين الكبيرين "شهرزاد" و"عنتر" بدوا من أهم الأعمال الموسيقية الإستشراقية وأجملها، وانتشرا انتشاراً كبيراً ليتبين لاحقاً أن مؤلفهما لم يزر الشرق أصلاً، ولم يتأثر بأية موسيقى شرقية عرفها. كل ما في الأمر أنه سار، في تأليفه على نهج استخلصه من اطلاعه على شتى الفنون الشرقية، كما أنه عرف عن قرب شغف معاصره ومواطنه بيتر تشايكوفسكي تجاه ما تصور هذا الأخير أنها موسيقى عربية، كانت تركية في الواقع، فضمها داخل إطار بعض أعماله، ومنها "بحيرة البجع" التي تحتوي بين ما تحتوي على مقطوعة عربية اللون والمذاق شديدة الجمال، وكل هذا إنما دنونا منه هنا لنتوقف عند ذلك العمل الآخر لريمسكي كورساكوف، الذي من الواضح أنه يمت بصلة وثيقة، إلى "شهرزاد" ألتي كانت قد أصبحت جزءاً من الموسيقى التي بات المستمعون العرب يعرفونها جيداً.
تعديلات متتالية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لحن ريمسكي كورساكوف "عنتر" في عام 1866، معتبراً إياها سيمفونية تتألف من أربع حركات، وهو عاد إلى الاشتغال عليها مرتين بعد ذلك، الأولى عام 1875، والثانية عام 1891، أما تقديمها للمرة الأولى فكان في عام 1869، أي قبل التعديلين الأخيرين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التعديل الأول إنما كان بعد أن زار الموسيقي الفرنسي هكتور بيرليوز روسيا ليقدم تحت قيادته بعض أعماله، ومنها طبعاً "السيمفونية الغرائبية" التي كانت سمعتها طبقت الآفاق، وكان ريمسكي كورساكوف لا يخفي إعجابه الفائق بها، ومن هنا حين استمع إليها بقيادة مؤلفها قرر، من فوره، إجراء تلك التعديلات الأولى وتحويلها من سيمفونية إلى قصيدة سيمفونية على غرار عمل بيرليوز. ومهما يكن من أمر لا بد من توضيح أمر بالغ الأهمية هنا، وهو أن الملحن الروسي لم يبنِ عمله البديع هذا انطلاقاً من حكاية عنترة بن شداد، أو من معلقته التي جعلته أحد الكبار في تاريخ الشعر العربي، بل انطلاقاً من قصة روسية قصيرة للكاتب سنكوفسكي عنوانها "حكاية عربية" اطلع عليها ريمسكي كورساكوف من خلال زميليه مودست موسورسكي وسيزار كوي، العضوين مثله في جماعة "الخمسة" التي كانت تشتغل على عصرنة الموسيقى الروسية وتكثيف نظرتها إلى العالم، والنهل من تأثيرات وموضوعات من تراث الشعوب الأخرى.
تشابه أسماء
والحكاية العربية هذه لم تكن تمت بأية صلة لحكاية "عنتر" الحقيقي، عدا عن كون الشاعر باسمه العربي بطلها، فالحكاية هنا تتحدث عن شاعر بطل يعيش وحيداً في الصحراء رافضاً التعاطي مع بشر استبعدوه نابذين إياه بسبب لونه وغرابة أطواره، فعاش يقتات من الصيد متجولاً من مكان في الصحراء إلى آخر، وذات يوم يحدث له أن ينقذ غزالة من طير كبير أراد افتراسها، وهو إذ أغفى تعباً من تلك المعركة الشاقة التي خاضها، حلم بأنه نائم في قصر ملكة لتدمر تدعى غول نازار، وأن الملكة ذات حسن لا يضاهى، لكنه سيدرك في الوقت نفسه أن الملكة إنما هي الغزالة التي أنقذها، وها هي الآن كمكافأة له على صنيعه وشجاعته تقدم لعنتر إمكانية أن تحقق له ثلاث أمنيات تتعلق بمسرات الحياة الثلاث: الثأر، والقوة، والحب. ويتقبل "عنتر" هذه الهبة المثلثة سائلاً الملكة أن تنتزع منه الحياة إن هو أخفق في التفاعل مع أي من الأمنيات، وهو يبدأ بالوقوع في غرام الملكة نفسها، لكنه يغرق في حب الملكة إلى درجة ينسى معها الأمنيتين الأخريين، وهكذا تقبله الملكة قبلة تنتزع منه الروح.
بعد الحكاية تفسير الأمنيات
هذه الحكاية كلها ترويها موسيقى ريمسكي كورساكوف في الحركة الأولى، أما في الحركات الثلاث التالية من "القصيدة السيمفونية"، فإنه يتابع التعبير عن كل واحدة من الأمنيات الثلاث التي كانت الملكة قد وعدته بتحقيقها، وخلال تلك المتابعة يحذو الموسيقي حذو زميله الفرنسي بيرليوز في الاشتغال دائماً، وفي كل الحركات مهما اختلفت معانيها وتفاصيلها على موضوعة أساسية (لازمة) يعود إليها هي نفسها كتعبير عن ارتباط الأمنيات في تنوعها وتتاليها، بعنتر نفسه، وهي موضوعة تعزف منذ الحركة الأولى حتى الأخيرة من طريق آلات "الفيولا" الثلاث التي تلعب دوراً أساسياً في بعث رومانسية اللحن كلما ابتعدت، وذلك للتذكير بأننا هنا أمام عمل يغوص في استشراقيته إلى أقصى حدود الرومانسية.
شرق وغرب... رجولة وأنوثة
وإلى هذا أشار النقاد حين اكتملت "عنتر" في تعديلها الأخير، إلى أن ريمسكي كورساكوف قد جمع في هذا العمل بشكل ما، عالمين قسمهما إلى "غربي"، أي روسي، و"شرقي"، أي عربي، بالنسبة إلى الأول جعله ذكورياً يتسم بشيء من العنف البطولي وربطه بعنتر ومأثرته في صراعه ضد الطير، بينما جعل الثاني أنثوياً، رابطاً إياه بالملكة التدمرية، ورغد وعذوبة العيش في قصرها واقتراحها الحب والأمنيتين الأخريين على عنتر مكافأة له على إنقاذها.
ويتتابع وجود هذين العالمين من خلال التوزيع الميلودي والأوركسترالي خلال تتابع الحركات نفسها والتوازن الدقيق الذي فرضه الموسيقي على التوزيع في كل حركة من الحركات، ولعل هذا ما جعل الموسيقي يفسر تحويله "السيمفونية" إلى "قصيدة سيمفونية"، وأحياناً إلى "متتابعة" بقوله إنه اتبع هنا مسار التركيب الشعري الذي يحتفل بنوع من التكرار الذي يصعب ربطه بالعمل السيمفوني الذي يتطلب عادة تصعيداً بين حركة وأخرى.
قد يكون هذا الكلام مقنعاً، وقد لا يكون، لكن المهم هنا هو أن نيكولاي ريمسكي كورساكوف قدم عملاً غنياً وممتعاً يضاف إلى الأعمال الكبيرة الأخرى التي زاوج بين عمله عليها وبين عمله في التدريس الموسيقي، ما جعل منه أحد المؤثرين الكبار في الحياة الموسيقية الروسية عند نهايات القرن العشرين.