يعرف معظم المهتمين بتاريخ الغناء العربي وتطوره قصة المطربين او المغنيين المصريين "ألمظ وعبده الحامولي"، وهما مغنيان شهيران ظهرا في عصر الخديوي إسماعيل أواخر القرن التاسع عشر، وتربعا على عرش الغناء، وتزوجا، وبعد الزواج منع الحامولي زوجته من الغناء. ثم رحلت ألمظ وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، ولحق الحامولي بها بعد خمس سنوات، ويقال إنه عندنا قام بالغناء بعد رحيلها كان يبكي ويجعل جمهوره يبكي معه.
هذا الثنائي الشهير تم إنتاج فيلم سينمائي عنه عام 1961 بعنوان "ألمظ وعبده الحامولي"، كتب قصته عبدالحميد جودة السحار، وحاوره صالح جودت، وقامت ببطولته وردة الجزائرية والمطرب المصري عادل مأمون، وأخرجه حلمي رفلة.
وفضلاً عن الفيلم تناثرت معلومات عن ألمظ وعبده الحامولي، في بعض الكتب، ومنها كتاب "القاهرة.. حكايات.. أمكنة.. أزمنة" لمكاوي سعيد، وكتاب "أجمل قصص الحب في الشرق والغرب" لرجاء النقاش، وكتاب "فيض الخاطر" لأحمد أمين.
وعلى الرغم من أن المتاح عن الثنائي الشهير قليل للغاية، فقد استطاع الكاتب والشاعر مصطفى سليم صياغة نص مسرحي متتبعاً الجذور الأولى لنشأتهما، ومشوارهما الفني والحياتي، وذلك في سياق درامي مبني بعناية، وفيه قدر من الخيال وعناصر التشويق، ما يجعله نسخة جديدة وشبه كاملة، لا تتناول سيرة مغنين شهيرين فحسب، بل تتطرق إلى سيرة عصر كامل حظي فيه الفن بتقدير واحترام السلطة الحاكمة، التي كانت تغدق على الفنانين وتقربهم إليها، حتى إن الخديوي إسماعيل كان يصطحب عبده الحامولي معه في رحلاته خارج البلاد، وإن لم يخلُ الأمر من مطاردة بعض الفنانات لإقامة علاقة خاصة معهن، وهو ما يفسر موقف الحامولي عندما منع ألمظ من الغناء لاستشعاره أن الخديوي كان يريدها لنفسه كإحدى المحظيات.
النص ميزته أيضاً الأغاني التي كتبها المؤلف مستلهماً روح الزمن الذي تدور فيه الأحداث، فضلاً عن وجود بعض الأغاني الشهيرة للمغنين، على قلتها، حيث لم يحفظ لنا الزمن الكثير منها.
ضرورة السرد
هذا النص ترجمه مسرحياً المخرج مازن الغرباوي، في عرضه الذي يقدمه على مسرح البالون في القاهرة، إنتاج البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية (مؤسسة رسمية)، وحمل عنوان "ألمظ وسي عبده"، و"سي" هنا اختزال عامي مصري لـ"السيد".
العرض يأتي ضمن سلسلة مسرحيات ينتجها هذا القطاع تتناول سيرة الفنانين المصريين المؤثرين في الموسيقى والغناء، حيث سبقه عرضان، الأول "سيرة حب" عن حياة الموسيقار الراحل بليغ حمدي، والآخر "سيد درويش" عن حياة فنان الشعب سيد درويش الذي أحدث نقلة كبيرة ومفصلية في الغناء المصري.
اعتمد المخرج على راوٍ يسرد سيرة المغنين، ليتراوح العرض بين الحكي والتمثيل والغناء والاستعراض، ويمثل كل منها لبنة من لبنات العرض، فقد كان حريصاً على أن يكمل كل عنصر الآخر، بحيث لا يكرر التمثيل ما تم سرده، ولا تعلق الأغنية على موقف تم تمثيله، أو تأتي مجلوبة لذاتها، وهكذا أدى كل عنصر دوره في إيقاع لاهث ومشوق، من دون أن تكون هناك مراكمة تفضي إلى ترهل الدراما وتثقل على المشاهدين، وكان واضحاً ضرورة السرد هنا، حيث اختزل الكثير من الأحداث التي يتطلب "تشخيصها" زمناً طويلاً.
نجح المخرج في استقطاب فنانة كبيرة في حجم سميحة أيوب للقيام بدور الراوي، وهو ما منح العرض قدراً من الفخامة والثقل، على الرغم عدم الظهور الحي للفنانة التي ظهرت صوتاً وصورة عبر شاشة عرض ضخمة موجودة في عمق خشبة المسرح.
أداء سميحة أيوب، بخبرتها ووعيها، كان أحد عناصر العرض اللافتة التي تشعر المشاهد بنوع من الثقة والأمان، وأنه أمام وقائع جديرة بالالتفات إليها، نظراً لتاريخ الفنانة المسرحي، الذي قدمت خلاله مجموعة من أهم الأعمال الرصينة في المسرح المصري.
ذكاء الديكور
الديكور (صممه محمد هاشم) نجح هو الآخر في استغلال الشاشة في مشاهد العرض كافة، إذ استعاض بها عن الكثير من قطع الديكور التي اقتصد في استعمالها، وخاصة أن خشبة مسرح البالون من النوع الضخم، فكانت اللقطات على الشاشة جزءاً مهماً في تجسيد المكان الذي يدور فيه الحدث، واكتفى ببعض القطع الصغيرة والموتيفات التي يتم استعمالها على خلفية ما تبثه الشاشة، وهو اختيار ذكي وعملي مكنه من تغيير المناظر بسرعة فائقة، ولم يلجأ مصمم الإضاءة (عز حلمي) إلى الإظلام، ما أدى إلى الحفاظ على إيقاع العرض، وحاكت مصممة الأزياء (مروة عودة) طبيعة الملابس المستخدمة في أواخر القرن التاسع عشر، فجاءت مقنعة، ولم تشذ عن الأجواء العامة التي تدور فيها الأحداث.
ولأننا بصدد مغنين شهيرين، فقد كان لزاماً على المخرج الاستعانة بمغنين يتمتعان بصوت جيد وقوي، وفي الوقت نفسه يمكنهما أداء المشاهد التمثيلية بشكل صحيح، وفي حدود المطلوب، ففي مثل هذه النوعية من العروض من الطبيعي أن يذهب المخرج إلى فنان يناسب الدور الذي سيؤديه، استعان بالمطربة مروة ناجي في دور ألمظ، وهي مطربة تخرجت في فرقة الأوبرا للموسيقى العربية، وتجيد الغناء الكلاسيكي، فضلاً عن خبرتها الجيدة في التمثيل، حيث أدت بعض الأدوار التلفزيونية من قبل، واستعان كذلك بواحد من خريجي فرق الأوبرا في دور عبده الحامولي، وهو المطرب وائل الفشني، وكان اختيار هذين المغنين موفقاً، وفي محله، وإن عابهما الغناء المسجل، وهو أمر يقلل من مصداقية الغناء وتفاعل الجمهور معه، فالغناء الحي، بما قد يتضمنه من ارتجالات وتنويعات، كان سيضفي الكثير من الحيوية على العرض، لكن المخرج لجأ إلى طريقة "البلاي باك" التي أضرت كثيراً بالعرض. وعلى الرغم من أن إمكانات مسرح البالون كبيرة وتسمح بوجود فرقة موسيقية، فقد فضل أن يكون الغناء مسجلاً، وهو أمر كان يحتاج إلى مراجعة.
توازن دقيق
فكرة التوازن التي سيطرت على التوجه الإخراج، تجلت في الاستعانة ببعض الممثلين أصحاب الخبرة الذين كانوا سنداً للمغنين القائمين بالبطولة، ونجحوا في "الفرش لهما"، بلغة الممثلين، وهو ما جعل التمثيل عموماً على قدر الحالة المراد تجسيدها في عرض غنائي استعراضي، ومن هؤلاء الممثلين: حسن العدل الذي لعب دور والد ألمظ، وإميل شوقي في دور أحد الباشوات، وطارق مرسي (الخديوي إسماعيل)، وأحمد الشريف، ونورهان صالح، ولبنى الشيخ، وصابر عبدالله، ومحمد الخيام، والطلفة ملك مازن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك حرص المخرج على إضفاء قدر من الكوميديا، تمثلت في شخصية صبي العالمة التي لعبها باقتدار محمد طلبة، صحيح أنها شخصية نمطية، لكنه اجتهد في تقديمها بطريقة تخصه، وكذلك محمد حسني ومحمد عمر اللذان لعبا دوري رفيقي ألمظ بطريقة كوميدية، وإن أسرفا في بعض المشاهد، التي كانت خارج الدراما تماماً.
هناك خلاف حول وصف هذه النوعية من العروض، فالبعض يطلق عليها استعراضية، بينما يصر البعض الآخر على اعتبارها عروضاً موسيقية، وأياً كانت التسمية، فالمسرح العربي عموماً لا يحفل كثيراً بهذه النوعية من العروض، ربما لأنها تحتاج إلى ميزانيات ضخمة، ومجاميع كبيرة، وتحتاج كذلك إلى كوادر مدربة في التمثيل والغناء والاستعراض، ويعد الإقدام على إنتاجها نوعاً من المغامرة غير المحسوبة، ما جعلها تتراجع كثيراً في مسرحنا العربي، ومن هنا فإن عبء إنتاجها ملقى على المؤسسات الرسمية التي لا تعمل وفق حسابات المكسب والخسارة، بقدر ما تسعى إلى الحفاظ على أشكال فنية كادت تنتهي، وتحاول استعادتها وتطويرها بشكل يناسب العصر الذي نعيش فيه، بالتالي فإن "ألمظ وسي عبده" خطوة مهمة على هذا الطريق.