تتعدد أسباب العنف الذي تشهده شوارع بلفاست، وديري، وكاريكفيرغوس، ونيوتاون أبي في إيرلندا الشمالية، بيد أن الموضوع الذي كان وراء اندلاع هذا العنف واحد. ويبدو أن العامل المباشر الذي أطلق العنان لهذا العنف كان القرار القاضي بعدم توجيه الاتهام لسياسيين من حزب "شين فين" [الحزب الجمهوري/ الكاثوليكي الرئيس في الإقليم]، بمن فيهم ميشيل أونيل، نائبة رئيسة الحكومة المحلية، ممن تجاهلوا في يونيو (حزيران) الماضي القيود المتعلقة بمكافحة فيروس كورونا، وذلك للمشاركة في موكب تشييع بوبي ستوري، وهو من الوجوه التاريخية (محلياً) للجيش الجمهوري الإيرلندي (المنحل) IRA.
وربما تكون الحملة التي شنتها الشرطة أخيراً على عصابات إجرامية لها علاقة بالمجموعات شبه العسكرية السابقة المحسوبة على فئات الموالين للتاج البريطاني [أي الوحدويين من أبناء الطبقة العاملة البروتستانتية في إيرلندا الشمالية المؤمنين بأن الإقليم جزء لا يتجزأ من بريطانيا العظمى]، هي السبب الآخر لتفشي أعمال العنف هذه. هكذا كان هذان السببان أشبه بشرارتين سقطتا على "قش" الجماعات الموالية بعدما يبس سلفاً بفعل التعطيل الناجم عن خط الحدود، الذي يمر في البحر الإيرلندي نظراً إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصار متعطشاً لعود الثقاب [على حافة الاشتعال].
ويمثل التصور السائد في أوساط الوحدويين أن كفة الميزان الدستوري في إيرلندا الشمالية باتت راجحة ضدهم لمصلحة الجمهوريين، الموضوع المشترك الذي كان وراء أعمال العنف. واللافت أن التحذيرات المريعة من خطر اندلاع العنف مجدداً، والتي أطلقت خلال المفاوضات الخاصة ببريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، كانت تميل للتركيز على الجمهوريين. واستعان بعضهم بـ"اتفاقية الجمعة العظيمة" المحاطة بهالة من القدسية، كحجة مقنعة ضد الأهوال الناجمة عن إقامة حدود صلبة بين شمال إيرلندا وجنوبها من شأنها أن تؤدي إلى رد فعل جمهوري عنيف، كما قيل لنا.
بيد أن "اتفاقية الجمعة العظيمة" هي عبارة عن آلية معقدة لتحقيق التوازن، صُممت لإبقاء الجانبين الجمهوري والوحدوي معاً في حكومة الإقليم. والواقع أن عملية السلام في إيرلندا الشمالية كانت على الدوام أشبه بالأرجوحة وما تنطوي عليه من توازن حاسم. وقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ترجيح كفة بقاء إيرلندا مقسمة، لأن أحد جزءي جزيرة إيرلندا سيكون خارج الاتحاد الأوروبي، والجزء الآخر سيظل فيه. وكان بروتوكول إيرلندا الشمالية عبارة عن محاولة لإعادة التوازن الذي اختل بسبب بريكست إلى سابق عهده، غير أن بوريس جونسون ذهب في تلك المحاولة إلى أبعد بكثير مما كان ينبغي، وصارت الآن القنابل الحارقة تنهمر على قوات الشرطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان القرار الذي اتخذته بريطانيا بأكملها بالخروج من الاتحاد الأوروبي (56 في المئة من ناخبي إيرلندا الشمالية المشاركين في استفتاء 2016 صوتوا لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي) قد أثار على الفور نوعاً من الإجماع بين الأطراف كافة على وجوب عدم إقامة حدود غير افتراضية بين شمال إيرلندا وجنوبها، إلا أن ذلك القرار طرح أيضاً سؤالين آخرين، أجاب عنهما كل من رئيس الوزراء صاحبي العلاقة، تيريزا ماي وبوريس جونسون، الذي حل محلها، بصورة مختلفة. هذان السؤالان هما: ما هو مدى الانفصال عن الاتحاد الأوروبي؟ وأين يجب وضع نقاط الفحص والمراقبة الحدودية الناجمة عن الانفصال؟ اختارت ماي إبقاء بريطانيا في الاتحاد الجمركي التابع للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي كان يعني إقامة الحدود في المكان الذي يريده الوحدويون. وكانت الحدود التي أرادتها حدوداً ناعمة من المقرر إنشاؤها في جزيرة إيرلندا، مع فحص البضائع على مسافة بعيدة من الخط المرسوم على الخريطة شمالها وجنوبها.
أما جونسون فقد أراد أن يحقق أقصى درجة ممكنة من الانفصال عن اقتصاد الاتحاد الأوروبي، ولكن باعتبار أن إيرلندا الشمالية ظلت في سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة للبضائع، فإن ذلك أدى إلى إقامة الحدود، حيث يريدها حزب "شين فين" الجمهوري، وتحديداً بين إقليم إيرلندا الشمالية وباقي أجزاء المملكة المتحدة.
وحصل ذلك جزئياً بسبب سوء تقدير تاريخي من جانب الحزب الوحدوي الديمقراطي، الذي صوت ضد اتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي التي اقترحتها ماي، وبذلك ضمن الحصول على اتفاقية بديلة أصبح حالياً يدرك أنها أسوأ من سابقتها. هكذا يدفع الحزب الوحدوي الديمقراطي الثمن الباهظ لغلطته، وربما كان جونسون قد بدأ يدرك هو الآخر أن المشاكل التي خبأها لنفسه من خلال "إنهاء تنفيذ بريكست"، كما جاء في شعاره الشهير، ما زالت تتربص به، وها هي تعود لتلاحقه.
كانت الضغوط التي تتهدد وحدة البلاد واحداً من الأسباب التي دعت ماي إلى الدفاع عن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي (علماً بأنها كانت من المشككين في الاتحاد الأوروبي)، غير أن تلك الضغوط كانت على الدوام تمثل خطراً تجاهله الأعضاء الآخرون في كل من حزب المحافظين والحزب الوحدوي الديمقراطي بشيء من اللامبالاة التي عبروا عنها بشكل متهور.
يبدو حالياً أن غالبية الاسكتلنديين سيصوتون في انتخابات البرلمان الاسكتلندي لمصلحة الأحزاب الملتزمة إجراء استفتاء ثانٍ على الاستقلال؛ وتبلغ نسبة التأييد في إيرلندا الشمالية لإعادة توحيد جمهورية إيرلندا 43 في المئة؛ وقد وصل دعم الاستقلال حتى في ويلز (التي صوت أبناؤها لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي) إلى درجة غير مسبوقة، إذ كانت نسبته 39 في المئة.
وسيضطر جونسون، الذي جرى تكريمه في مؤتمر الحزب الوحدوي الديمقراطي قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، إلى موازنة "أرجوحة" عملية السلام في إيرلندا الشمالية من جديد. ولهذا السبب، فقد أزعجت بريطانيا الاتحاد الأوروبي من خلال تمديد فترة السماح الخاصة بفحص البضائع عند وصولها إلى إيرلندا الشمالية قادمة من بقية أجزاء المملكة المتحدة، إذ يتعين على رئيس الوزراء أن يجعل خط الحدود الحالي في البحر الإيرلندي واهياً إلى أقصى درجة ممكنة.
وكما كان الحال على الدوام، فإن المشاكل في إيرلندا الشمالية لا تتعلق بالسياسة العملية فحسب، بل تنبع من أن أحد الجانبين فقط يشعر أنه محترم. والواقع أن وجود عدد كافٍ من الوحدويين الذين يشعرون في الوقت الراهن أنهم لا يحظون بالقدر الذي يستحقونه من الاحترام يكفي لكي ينزل "الموالون" العنيفون إلى الشوارع. لا أدري إن كانت هناك وسيلة ما لمعالجة موضوع الحدود التي تمر في البحر الإيرلندي، بيد أنه يبغي بجونسون أن يظهر كمن يحاول إصلاح هذا الأمر. هكذا لم ينتهِ تنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى الآن.
© The Independent