في ظل التخبط والشلل الحكومي والتدهور الاقتصادي اليومي الذي يضع لبنان على شفير الهاوية، دفعت التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة إلى تعزيز دور "كارتيلات" الاحتكار والتهريب في استغلال القطاعات الاقتصادية كافة، بحيث أصبحت قوتها تضاهي قوة دولة المؤسسات.
أزمة الإسمنت وفقدان "الترابة البيضاء" عاد ليثير إشكالية كبيرة مع ارتفاع الطلب على السوق العقارية نتيجة الأزمة المصرفية، ولجوء المصارف إلى إعطاء المودعين شيكات مصرفية، إذ لجأ هؤلاء إلى شراء العقارات كما عمدت المصارف إلى تسييل عقاراتها، ما حرك سوق العقارات والبناء، الأمر الذي دفع إلى الحاجة للإسمنت، عندها عمدت الشركات إلى تقليص تغذية السوق بالاتفاق في ما بينها بهدف رفع الأسعار حيث وصل سعر الطن في السوق السوداء إلى ما يفوق مليون وثمانمائة ألف ليرة، خصوصاً أنه يوجد في لبنان ثلاثة معامل للإسمنت، وهي تغذي السوق اللبنانية بحسب الطلب، ولكنها لا تكفي الحاجة عندما يرتفع الطلب، لا سيما العام الماضي.
نقص في طلبات التراخيص
وفي حديث خاص لـ"اندبندنت عربية" مع وزير الصناعة اللبنانية في حكومة تصريف الأعمال عماد حب الله، يقول، "إن هذه الشركات ليست لديها تراخيص طويلة الأمد، علماً أنه كان المطلوب منها تقديم طلباتها منذ يوليو (تموز) 2020، ولكن عندما فُتح باب لتقديم التراخيص منذ حوالى شهرين ونصف الشهر، كانت الأوراق والمستندات التي قُدمت غير مكتملة، بناء على ذلك، لم تسمح الدولة لهم أن يؤمنوا بضائعهم". ويشير إلى أنه "في يوليو الماضي، وجهت الحكومة كتاباً لوزارة العدل سائلة عن الجهة المخولة لفتح المقالع، خصوصاً أنه لا قيمة للمصنع من دون المقلع الذي يأتي بالمواد الأولية، وهذه المقالع مقفلة لأنها غير مرخصة، وإذ يأتي الجواب على الشكل الآتي، "وزير البيئة يحول الطلبات لتُدرس في المجلس الأعلى للكسارات والمقالع ومن ثم تصدر الرخص عن محافظ المنطقة".
فشل اللجنة التشاركية
وعن اللجنة التشاركية التي شكلت لحين صدور التراخيص طويلة الأمد، والتي كانت تتألف من المصانع والمقالع والمجتمع المدني والجامعات والبلديات وغيرها من المؤسسات والجمعيات غير الربحية بالتعاون مع الوزارات المعنية، يقول الوزير، "كنا نعول عليها لدراسة دور هذه المقالع، وأين يمكنها أن تحفر، وما هو مستوى الانبعاثات وكيفية الرقابة التشاركية، وكيف تتم إعادة تأهيل المناطق التي تعمل فيها، خصوصاً أنهم في المدة التي كانوا يعملون فيها لم يؤهلوا المناطق كما يجب، وهناك ملحوظات كثيرة على تصرفاتهم البيئية".
ويشير إلى أنه "لم يتم التوصل إلى نتائج حاسمة في اللجنة على الرغم من أنهم وصلوا إلى دراسة الانبعاثات الكربونية وتأثيراتها على البيئة، ولكنهم لم يتفقوا على نوعية الرقابة التشاركية أو على التأهيل، وهذا يُظهر لنا أن الشركات تأخرت في تقديم طلباتها من أجل إعادة منحها التراخيص على الرغم من أن المجلس قرر إعطاءهم مهلة ثلاثة أشهر لتحسين أمورهم".
ارتفاع أسعار المواد الأولية
أما من ناحية الأسعار وبسبب انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار، يعتبر حب الله أن هناك "مشكلة كبيرة"، مشيراً إلى أن "السعر الذي وُضع في شهر يوليو (تموز) الماضي هو 240 ألف ليرة لبنانية، أي حوالى 17 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، بالتالي هو بعيد جداً عما يجب أن يكون. وبسبب توقف عمل المصانع لمدة طويلة، أضحى هناك شح في المواد"، معتبراً أن "المصانع تتحمل مسؤولية ذلك، وهي تفعل ذلك عن قصد لرفع الأسعار والاستمرار بالاحتكار، وليس فقط من قبلهم، بل أيضاً من قبل الموزعين والتجار الذين يحتفظون بهذه المواد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحذر الوزير من أنه "إذا بقي الوضع كما هو، ولم تقدم تلك الشركات طلباتها بشكل كامل، ولم تعطهم وزارة البيئة التراخيص الطويلة الأمد، وإذا استمروا على جشعهم هم وبعض التجار والمصانع والموزعين، سترتفع الأسعار أكثر وستُفقد المواد لمدة أطول".
توقيف عمل المقالع
بدوره، يوضح نقيب المقاولين مارون حلو، أن "المعامل التي كان لديها مخزون معين تم بيعه للسوق، وبعد فترة معينة صُرف هذا المخزون كله وارتفع الطلب أمام العرض، لذا عندما زاد الطلب ارتفعت الأسعار في السوق السوداء، ولم يكن لدى المصانع الإمكانية لتشغيل المصانع الخاصة بها لصنع الإسمنت ومن هنا ظهرت الأزمة"، معتبراً أن "سبب عدم وجود الإسمنت في لبنان هو أن الدولة اللبنانية قررت توقيف عمل المقالع بسبب التدابير البيئية، وهذا استمر لشهر من دون أي إجراء بيئي، ما يعني تعطيل المواد الأولية".
ويرى أن "قرار مجلس الوزراء بإعطاء مهلة ثلاثة أشهر لفتح المقالع هو قرار عبثي"، مشدداً على "أهمية صناعة الإسمنت بشكل مستدام لأنه هو أكسجين البناء"، مناشداً في هذا السياق "وزير البيئة بالدرجة الأولى والحكومة اللبنانية المستقيلة التي يمكنها أن تتخذ بعض التدابير في ظل تصريف أعمالها التي تسمح بإعادة الوضع إلى طبيعته كما كان منذ عشرات السنين".
المصالح والنفوذ
وعن موضوع إعطاء التراخيص، يشير حلو إلى أن "هذا الموضوع يتردد كثيراً في المقالع والكسارات والبحص والرمل، ولكن كل المهل الإدارية توقفت"، معتبراً أن "إعطاء التراخيص يتوقف عند المصالح السياسية والمنافع الشخصية، لذلك لم تحسم الدولة أمرها بعد، ولم تضع الأطر الصحيحة لضبط هذه المقالع وفق الشروط البيئية وهذه كلها أعذار غير مقنعة".
تعزيز الصناعة الوطنية وضبط الاحتكار
لطالما تميز الإسمنت اللبناني بمواصفاته الجيدة عالمياً وإنتاجه الجيد في البناء. وعن إمكانية اللجوء إلى استيراد هذه المواد الأولية يقول حلو، "نحن بحاجة اليوم إلى تعزيز الصناعة الوطنية في ظل وجود الخبرات والكفاءة والمواد الأولية، ومنها الترابة البيضاء الموجودة بكثرة، ولكن علينا أن نعمل على تنظيم القطاع وتسهيل عمله وإجراء الإصلاحات اللازمة".
وعن التحديات التي تعيق الإصلاح في ظل وجود "كارتيلات" الإسمنت والتهريب إلى دول الجوار كالعراق وسوريا، يقول حلو، "نعلم أن الـ"كارتيلات" موجودة منذ عقود، ولكن الحل لتعطيل عملها هو من خلال إعطاء تراخيص إضافية يقسم جزء منها للاستيراد وجزء آخر لتعزيز الصناعة الوطنية، وبهذه الطريقة الأمور تكون متوازنة من ناحية تنافس الأسعار وضبط حركة السوق".
وفي ظل الحديث عن مشاريع لإعادة الإعمار في لبنان، يلفت حلو إلى أن "هناك معاناة بسبب وصول سعر الطن في السوق السوداء إلى أضعاف سعره، وهذا يشكل ضرراً لمشروع البناء والمشاريع الأخرى بشكل عام. لن يتم تعمير لبنان بسبب العوامل السياسية وغياب حكومة إصلاحية تعالج أزمة الترابة بشكل جذري وعشرات المشكلات الشبيهة لها".