حاز المستشرقان ياروسلاف وسوزان ستتكيفيتش جائزة شخصية العام الثقافية التي تمنحها مؤسسة الشيخ زايد. وبهذه الالتفاتة كرمت الجائزة عالمين جديرين بالتكريم. فالاحتفاء بحياتهما المكرسة للشعر العربي احتفاء بحيواتنا نحن أيضاً، من تتلمذنا على أيديهما وعلى الحنين إلى القصيدة العربية التي خطّا لنا طرقاً متعددة إليها. ومدرسة ستتكيفيتش عائلة متى دخلتها ستجد لك مكاناً تعود إليه دوماً.
حان البين! هكذا يعلن ياروسلاف ستتكيفيتش نهاية كل لقاء. نقف عند آخر الكلام فيُودِعنا جملة تحتضن كل الكلام. "حان البين". هو أستاذ الأدب العربي الذي قضى معظم حياته المهنية يدرس في جامعة شيكاغو ويعتبر والداً أكاديمياً لأجيال من الباحثين والكتاب في مجال دراسات الشرق الأوسط. إلا أن حياته مع الشعر العربي تسبق حياته الأكاديمية بكثير.
البداية، كما يرويها، كانت ولعاً بترجمة روكيرت الألمانية لحماسة أبي تمام، ولعاً دفع به إلى البحث عن الصوت الشعري في لغته الأولى. ولا بد أن ياروسلاف الشاب، المتعدد اللغات، استطاع أن ينفذ إلى جوهر شعري نجا من الترجمة وبقي ناضحاً بصدى أول. وهكذا كانت الشرارة التي أطلقت الشاب الأوكراني في رحلة في فضاء اللغة العربية الشعري، رحلة في أرض واحدة عتيقة متجددة دوماً.
قدم ياروسلاف دراسات قيمة كثيرة كانت فاتحات في مجال الدراسات الشعرية العربية في أميركا والعالم العربي. فهو مؤلف كتاب "محمد والغصن الذهبي" (1996) الذي أعاد فيه بناء ميثولوجيا عربية على أساس القصة الثمودية. إذ تتبع الإشارات إلى الغصن الذهبي أو الغصن من الذهب الذي وجده النبي محمد في حجر ثمود وربط بينها وبين ما وصلنا من قصص عن ثمود وزوالها. بانياً على عمل الأنثروبولوجي جميس فرايزر في كتابه الغصن الذهبي. يعيد ياروسلاف ترميم هذا الخيط الميثولوجي معتمداً على أعمال الطبري والواقدي والكسائي والثعالبي والشعراء العرب القدامى. ويقارن بين هذا الخيط السردي الميثولوجي وما يوازيه في أساطير مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين وفي العهد القديم والأدبين الروماني واليوناني القديمين. ولكنه على خلاف فرايزر يجد في الحضارة العربية أرضاً أكثر خصوبة لأسطورة الغصن الذهبي وشبكات أكثر تشعباً تحاك حولها. "محمد والغصن الذهبي" عمل هدف من خلاله ياروسلاف إلى إغراء دارسي الأدب العربي باكتشاف ذخر أسطوري عربي أصيل.
في كتابه "صبا نجد" (1993) يجد ياروسلاف أصل الغنائية العربية في مطلع القصيدة الكلاسيكية: النسيب. في دراسته المتعمقة والمقارنة هذه يمسك بالحنين الذي هو كنه الشعر العربي. الحنين وشبيهه الرثاء هما منبع الدافع الشعري. وهذا الحنين ليس نقصاً أو ضعفاً بل هو مواجهة خلاّقة بين الذات الشاعرة ونفسها، يعاد فيها تشكيل الزمان والمكان.
ومع أنه شغل منصب أستاذ الأدب العربي القديم إلا أن ياروسلاف دارس مخلص للشعر العربي الجديد الذي لا تحده التقسيمات التاريخية المسقطة، بل هو مناجاة
اللغة العربية نفسها، واحتفاؤها بذاكرتها الحية. في كتابه "لغة الحداثة العربية" الصادر عام (1970)، يرصد ياروسلاف التحولات التي أحدثتها الحداثة الأدبية في جسد اللغة العربية على مستوى اللفظ والتركيب. ثم يعود ويضع الحداثة الشعرية في سياق التراث الشعري العربي الأوسع في كتابه الأخير "الطرد في الشعر العربي" (2016)، حيث يتتبع الطرديات، القطع القصيرة عن الصيد، منذ بداياتها في الشعر الجاهلي إلى ما بقي منها في الشعر الحديث من لمحات ميتاشعرية يصبح فيها الشعر الطريدة المنشودة.
أما أسطع لحظة من لحظات ياروسلاف ستتكيفتش بالنسبة إليّ فهي حينما وقف عام 1967 في جامعة أوكسفورد أمام جمهور من المستشرقين والمستعربين وواجههم بمخاطر اللعبة الأكاديمية الغربية وبخبثها في التعامل مع الشعر العربي، إذا ما لم يكن الدارس مخلصاً عاشقاً لهذا الشعر. حذرهم من الوقوع في التأريخ عوضاً عن النقد الأدبي الحق ومن التحول إلى سماسرة وباعة متجولين يتداولون "الأفكار النافعة". متعة الأدب العربي، كما يؤكد ياروسلاف، لا تكون إلا لأولئك المخلصين له والمؤمنين به طارئاً جديداً ثرياً. وفي هذه المحاضرة يضع ياروسلاف أساساً لاشتغالنا جميعاً بالشعر العربي الحديث والقديم، سواء كنا هنا في أميركا أو هناك في العالم العربي: "أن نحثّ شاعراً ناشئاً في اللغة الإنجليزية، على سبيل المثل، على إيجاد قرابة إبداعية مع إمرئ القيس أو المتنبي." أجدني أعود إلى نص هذه المحاضرة (وترجمتها العربية التي عمل عليها وليد الهليس وحققها وليد خازندار) كلما تهت في دهاليز المؤسسة الأكاديمية وشعرت بنفسي أفلت من الشعر.
وما بين سوزان وياروسلاف حديث طويل وتعاون شعري يتجلى في حياتهما معاً. في جلستهما يحضر الواقف الكندي امرؤ القيس والمخرب المبدع أبو تمام وتميم بن مقبل المتبرم الملموم والمعري والمتنبي وأصحابهم ويطول الحديث. ولكنها هي من يسدده دوماً. تمسك سوزان بقصص ياروسلاف واستطراداته الشيقة وتعيدها إلى مجرى الحديث. ترسم سبلاً واضحة وخططاً سمحة وتفك لنا رموز الكلام.
فهي خبيرة بالكلام الواحد المتعدد المعاني. ففي كتابها "أبو تمام والشاعرية العباسية" سبرت غور قصيدة أبي تمام وكشفت لنا وعياً فكرياً نقدياً يوجه العملية الإبداعية. قدمت لنا أبا تمام كله شاعراً ناقداً جامعاً ابن لحظته التاريخية وابن التراث الشعري العربي كله. فكان "إفساده" الشعر العربي بذلك عملية تجديد وإعادة توظيف لما يبدو وكأنه عفا أو درس.
طريق سوزان
ترجمت سوزان القصيدة العربية كطقس عبور أو كخطة نجاة وذلك في كتابها "الصم الخوالد تتكلم: الشعر الجاهلي وشعرية الطقس" (1993).
جعلت سوزان من القصيدة العربية الكلاسيكية إطاراً نقدياً راهناً يكشف عمقاً حياً يجمع بين قصيدة جاهلية وقصيدة من بداية القرن العشرين مثلاً. وهذا ليس جموداً أو تقليدية بل هو كشف لمنطق الشكل الشعري القادر على التأقلم والتجدد مع تغير الزمن. يثبت لنا عمل سوزان قدرة القصيدة العربية الكلاسيكية على أن تكون طارئة وحديثة إذا كانت الحداثة استنطاقاً للتراث وترجمته في اللحظة الراهنة.
في كتابها "القصيدة والسلطة" (2002) تدرس سوزان شعراء العصور الإسلامية الذين دعّموا السلطة الإسلامية في ما كتبوه من قصائد مدح وذلك بأن وصفوا الحكم الإسلامي الجديد بلغة الرمز الجاهلي. هكذا تظهر لنا سوزان الجوانب الشعائرية والطقوسية والاحتفالية للقصيدة العربية القديمة التي تصبح مصدراً لشرعية السلطة في الحضارة العربية.
تكمل سوزان تقصيها طقوس قصيدة المدح العربية في كتابها عن المدائح النبوية المعنون "قصائد البردة". وبعد صحبة كعب بن زهير والأخطل وأبي العتاهية والمتنبي، تلتفت سوزان في مشروعها الجديد إلى المعري. فتتتبع، بعناية وصبر، تجريبات المعري الشعرية في اللزوميات وتحوله عن الأغراض الشعرية المعروفة إلى تمارين في الشكل والمعنى والعروض. يشكل هذا التحول مشروعاً واعياً قد يكون نتيجة انعزال المعري ونظرته المغايرة للحياة والانشغال الشعري