عندما ناقشت بريطانيا قضية مغادرة الاتحاد الأوروبي قبل استفتاء عام 2016، سافر رئيسا وزراء بريطانيا السابقان، جون ميجور وتوني بلير، إلى بلفاست. ولقد حذرا من أن الحدود المشرعة بين شمال وجنوب إيرلندا تتعارض مع خروج المملكة المتحدة من السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي.
قال ميجور وبلير، إن المملكة المتحدة ستواجه خيار التخلي عن تلك الحدود المفتوحة وإبقاء إيرلندا الشمالية داخل السوق الموحدة، ما يعني معاملة المقاطعة بشكل مختلف عن أراضي المملكة المتحدة الأخيرة. بعد خمس سنوات، بدت مخاوف ميجور وبلير تلك منبئة على نحو مقلق، في أعقاب أحداث العنف الأخيرة التي شهدتها شوارع إيرلندا الشمالية.
وتتجاوز أسباب الاضطرابات قضية بريكست، إذ يمر مجتمع إيرلندا الشمالية بمرحلة ما بعد الصراع، حيث لا تزال مظالم الماضي تغذي العديد من الشكاوى. ولقد تأججت أعمال الشغب التي قادتها العصابات الموالية [للبقاء في المملكة المتحدة] في الأسابيع الأخيرة، جزئياً بسبب قرار الشرطة عدم مقاضاة السياسيين القوميين الذين خرقوا قيود الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا، لكن لا مناص من الإقرار بأن حالة إيرلندا الشمالية بعد البريكست ساهمت في الإخلال بالتوازن الذي حققته اتفاقية الجمعة العظيمة قبل 23 عاماً.
لكن، ما يثير القلق حقاً هو احتمال أن تتعاظم التوترات مع ظهور حواجز اقتصادية جديدة مع مرور الوقت. وحالياً، هناك إعفاءات من عمليات التفتيش بين الشرق والغرب للمنتجات ذات المنشأ الحيواني والطرود والأدوية. ولقد أدى قرار الحكومة بتمديد هذه الإعفاءات من جانب واحد إلى تأخير المشكلة، لكنها لم تمنع ظهورها. ولم تشيد بعد بناء نقاط تفتيش حدودية جديدة في موانئ إيرلندا الشمالية، ما يعني أن آثار عمليات التفتيش الكاملة ليست واضحة وظاهرة بعد. كما ستشدد المراقبة على الحدود بمرور الوقت مع ابتعاد بريطانيا تدريجياً عن قواعد السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، ما سيعمق الاختلافات التنظيمية مع إيرلندا الشمالية. ومع احتساب عامل الانتخابات البرلمانية القادمة في إيرلندا الشمالية، سيكون هناك مزيج من الأسباب التي ستجعل الوضع قابلاً للانفجار.
صحيح أن هذا الوضع هو الثمن الحتمي المترتب على بريطانيا جراء الخروج من السوق الموحدة، ولو تجنبت بناء نقاط تفتيش جديدة على جزيرة إيرلندا. ولقد وافق رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على ذلك، وهو على دراية تامة بما ينطوي عليه من عواقب، لكن واقع الأمور الجديد يظهر هشاشة الوضع والمخاطر التي يجب مواجهتها، وعدم تجاهلها.
يريد الوحدويون إلغاء البروتوكول برمته، بينما يود البعض في لندن رؤية فشله حتى يتسنى لهم استبداله بآلية أكثر مرونة، لكن الجواب لا يكمن في إعادة التفاوض على البروتوكول أو إلغائه. فلا بديل موثوق عن البروتوكول من دون عودة المملكة المتحدة إلى السوق الموحدة أو فرض حدود على جزيرة إيرلندا. ويبقى البديل الأفضل في تبني نهج عملي ومرن في تنفيذ البروتوكول لتقليل عواقبه على حياة الناس في إيرلندا الشمالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحري بأي نهج يلتزم المرونة أن يعالج مسألتين. الأولى تستدعي تقليص أكبر مصدر للخلاف والمتمثل في الشروط المرهقة المفروضة على المنتجات من أصل حيواني ونباتي والحيوانات الحية. ويقال غالباً إنه إذا اختارت المملكة المتحدة اتباع قواعد أنظمة الحماية الاجتماعية للاتحاد الأوروبي، فإن المشاكل ستختفي إلى حد كبير، لكن التفاوض على هذا لن يكون سهلاً، لأنه قد يشمل الموافقة على معاهدة جديدة، تشارك بموجبها بريطانيا في بعض وكالات الاتحاد الأوروبي وإنشاء آلية جديدة لتسوية النازعات مع دور الفصل لمحكمة العدل الأوروبية، وقبول عامة البريطانيين بتولي بروكسل إدارة بعض مخاطر الصحة العامة، من دون تدخل بريطاني في قرارات الاتحاد الأوروبي.
ولا يعني البديل محاولة إلغاء جميع عمليات التفتيش والشروط، ولكن تقليص الحاجة إليها إلى أقصى حد ممكن. ويفترض ذلك التزام المصدرين البريطانيين للسلع الخاضعة للضوابط إلى إيرلندا الشمالية فعلاً بمعايير الاتحاد الأوروبي ذات الصلة. وتحتاج لندن وبروكسل إلى الاتفاق على نظام للتحقق المسبق من الامتثال في ما يخص الصادرات المعدة للاستهلاك في إيرلندا الشمالية. وينبغي أن يشمل هذا النظام إدارة مشتركة للتعامل مع أي مخاطر تداول هذه السلع في السوق الموحدة. كما يتطلب مثل هذا النظام من الاتحاد الأوروبي الموافقة على إعفاء إيرلندا الشمالية من قواعد الاتحاد الأوروبي في شأن الواردات من بلدان أخرى، ولكن يمكن دعمه بنظام مراقبة قوي لتزويد الاتحاد الأوروبي ببيانات موثوقة حول تحركات البضائع.
مع ذلك، لن يلغي هذا النظام جميع عمليات التفتيش، وستظل سارية بعض التفتيشات على الحيوانات الحية وعلى المصدرين غير المعتمدين والسلع المحتمل انتقالها إلى السوق الموحدة، ولكنه سيقلص الحاجة إلى عمليات تفتيش مادية ووثيرتها في الموانئ والمطارات، ما يقوض آثار البروتوكول على الأرض في إيرلندا الشمالية ويخفف من حدة هذه القضية.
وينبغي أن تكون الإدارة المشتركة [الحوكمة المشتركة] الشق الثاني من أي حل. ويمكن للجانبين إنشاء مجموعة استشارية مشتركة حول التجارة بين الشرق والغرب لإدارة شؤون الحواجز الجديدة والمخاطر المشتركة عند ظهورها بمرور الوقت. وهذا يمكن أن يطمئن الاتحاد الأوروبي بإمكانية ضبط المخاطر، بالإضافة إلى دعم العمل بالمادة 6 من البروتوكول في السوق الداخلية للمملكة المتحدة، والتي تنص على أنه يجب على اللجنة المشتركة "تسهيل التجارة بين إيرلندا الشمالية وأجزاء أخرى من المملكة المتحدة... بهدف تجنب عمليات المراقبة في موانئ ومطارات إيرلندا الشمالية إلى أقصى حد ممكن".
إن ما يقف في طريق التقدم ليس الافتقار إلى الحلول، بل السياسة. إذا اعتقدت لندن أن الاضطرابات ستمارس مزيداً من الضغط على الاتحاد الأوروبي، فإنها لن تأتي بالحلول. في المقابل، إذا اعتقدت بروكسل وعواصم الاتحاد الأوروبي أن لندن باتت في موقف تتحمل فيه كل المسؤولية، فإنها ستقدم استثناءات [إعفاءات] قليلة من قواعد الاتحاد الأوروبي. ولا يمكن أن تؤدي هذه الأجواء السياسية إلى حلول بناءة.
لا يمكن أن تكون الاضطرابات الاجتماعية أداة تفاوضية في السياسة. وعلى الحكومة في لندن ألا تبالغ في تقدير قوة موقفها، كما ينبغي على بروكسل ألا تستخف بهشاشة الوضع في إيرلندا الشمالية. في غضون ذلك، حري بلندن ودبلن التأكيد أن كلتا الشريحتين (الوحدويين والقوميين في إيرلندا الشمالية) لديهما هويات مشروعه. لذا فإن هناك طريقة لنزع فتيل "عامل بريكست" الذي ساهم في إشعال الاضطرابات في إيرلندا الشمالية، لكن ينبغي تغليب البراغماتية على السياسة قبل وقوع مزيد من الأضرار.
أنطون سبيساك هو المسؤول عن سياسات التجارة والإنتاجية في معهد توني بلير للتغيير العالمي
© The Independent