لا يرتضي الأرمن في العراق إلا أن يكونوا في مقدمة طوائفه التي تترك آثراً جلياً في خدمة المجتمع في كل مجال يعملون فيه. فمن الصعب الحديث عن ما تركته الشخصيات الأرمنية من أرث خالد في سطورٍ محدودة، فلا حدود لابداعهم وإنجازاتهم، فهم برعوا في مجالات الطب والمعمار والفن التشكيلي والموسيقى والاقتصاد.
بدأت أعداد أرمن العراق، وهم في الغالب من أتباع الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية مع وجود أتباع لكنيسة الأرمن الكاثوليك، بالتراجع بسبب الحروب التي دفعت الكثير منهم للهجرة. ويقدر الآن عددهم في البلاد بحوالى 20 ألف نسمة، النسبة الأكبر منهم في بغداد التي تحتضن بين 10 إلى 12 ألف نسمة، من بينهم نحو 200 إلى 250 عائلة من الأرمن الكاثوليك.
وتوجد تجمعات وكنائس أرمنية في مدن أخرى وهي البصرة والموصل وكركوك، بالإضافة إلى تجمعات في دهوك وتحديداً في زاخو وقرية أفزروك.
العمق التاريخي للأرمن
يعود وجود الأرمن في العراق إلى حقبة ما قبل الميلاد، فقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوتس أنهم "كانوا ينقلون البضائع إلى بابل عبر نهر الفرات"، ومع هذا الانتقال استقر الكثير منهم في بابل وكوّنوا جالية أرمنية فيها.
وفي كتاب مختصر تاريخ العراق القديم (عصر الاحتلال 539 - 637 قبل الميلاد) للمؤلفين عبد العزيز الياس الحمداني وعلي شحيلات، ذكر أن أشهر زعيم للثورة البابلية الثانية (521 قبل الميلاد) هو الأرمني أراخا بن خلدينا، ما يعني أن وجود الأرمن في العراق لا يرتبط بأحداث الحرب العالمية الأولى والمجازر التي طالتهم وأدت إلى هجرتهم.
بعد عصور ما قبل الميلاد، بدأت تتوافد موجات الأرمن من أرمينيا عبر إيران واستوطنت جنوب العراق، حيث أقيمت أبرشية للأرمن في البصرة عام 1222، ثم بدأ الأرمن بالانتقال إلى بغداد والموصل.
وفي هذا السياق، يوضح هاكوب سركيان، مدير إدارة مطرانية كنيسة الأرمن الأرثوذكس، لـ"اندبندنت عربية"، أن "الأرمن البغداديين هم الذين ولدوا فيها"، قبل مجازر 24 أبريل (نيسان) 1915، التي راح ضحيتها مليون ونصف مليون أرمني.
وبعد احتلال بغداد من قبل العثمانيين أنشئت عام 1639 أقدم كنيسة للأرمن الأرثوذكس، وهي كنيسة مريم العذراء في منطقة الميدان ببغداد.
الأرمن والاندماج في المجتمع
يفتخر الأرمن في العراق بما حققه أبناء جلدتهم من تفان في المجالات كافة. ففي مجال الطبيب، يفتخرون بأن أول طبيبة عراقية عينتها وزارة الصحة كانت أرمنية وهي الدكتورة آنه ستيان، وأول من أدخل تلقيح مرض الجدري إلى بغداد هو الدكتور أوهانيس مراديان. كما أن أحد مؤسسي كلية الطب هو الدكتور هاكوب جوبانيان، الذي حصل على الوسام الملكي عام 1954 تقديراً لخدماته في المجال.
لا يقتصر تفاني الأرمن على الطب، فشيخ المصورين الصحافيين العراقيين، الذي صور ملوكاً وزعماء مؤرشفاً جزءاً مهماً من تاريخ البلاد، هو الأرمني أمري سليم لوسينيان، صاحب الاستديو المعروف باسم "ارشاك".
وفي مجال فن العمارة، برز المهندس المعماري مارديروس كافوكجيان، الذي وضع المخططات الهندسية لضواحي الموصل وأربيل والعمادية. أما في مجال المقام العراقي فبرز اسم الأب نرسيس صائغيان، الذي تميز بوفرة معلوماته عن المقام وله مؤلفات في التاريخ واللغة ودراسة أصول ونسب العائلات المسيحية.
سارة خاتون
يتداول أهل بغداد اسم سارة تايتوسيان، كواحدة من الشخصيات النسائية البارزة. وقد عرفت بينهم بـ"سارة خاتون" أو "سارة الزنكينة"، أي الغنية المعروفة بمآثرها الاجتماعية ومد يد العون ومساعدة المحتاجين.
وقد أسست تايتوسيان مع عدد من النساء الأرمنيات في بغداد الهيئة النسوية الأرمنية لإغاثة المهجرين الأرمن، الذين نزحوا بعد الإبادة الأرمنية.
وبعد أن فقد حي "كمب الكيلاني" قدرته على استيعاب مزيد من المهجرين الأرمن، وزعت تايتوسيان عام 1937 أراضيها لقاء مبالغ مالية زهيدة، فصار الحي يحمل اسمها وهو "كمب سارة".
خصوصية الهوية
يحيي أرمن العراق في 24 أبريل من كل عام ذكرى مجازر الأرمن، التي ارتكبها العثمانيون بين عامي 1915 و1917 خلال الحرب العالمية الأولى، وترفض تركيا الاعتراف بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي كنيسة كريكور المنور، في ساحة الطيران ببغداد، تجمع أرمن العراق لاستذكار الضحايا ووضع أكاليل من الزهور على النصب الذي يتوسط الكنيسة ويجسد ضحايا المجزرة.
ويقول كيفودك أرشاكيان، راعي كنيسة الأرمن الأرثوذكس في بغداد، لـ "اندبندنت عربية"، "نحرص في كل عام على إقامة قداس خاص على أرواح الأرمن الذين راحوا ضحية المجازر"، مشيراً إلى أن مطالب الأرمن تتمثل بضرورة أن تعترف تركيا بأنها المسؤولة عن الإبادة، وبالتالي إعادة الحقوق المعنوية للضحايا، فضلاً عن استرجاع أراضي الأرمن التي استولت عليها تركيا.
وسياسياً، لا تمثيل للأرمن في البرلمان، لكن هناك مستشار أرمني لرئيس الجمهورية.
ولا يبدو أن مسألة التمثيل السياسي تشغل أرمن العراق كثيراً، فهم يسعون وبشكل دؤوب إلى التمسك بوجودهم فيه بعد هجرة الكثير منهم والإسهام في بناء البلد والإصرار على أن يكونوا جزءاً من نسيجه، بعد أن طحنته الحروب.