من جديد، تنزل الستائر، وتنطفئ الأضواء، وتخلو المقاعد، وتقفر المسارح، ويتفرق عشاق الفن الرابع، بعد أن اجتمعوا، لوقت قصير، يشاهدون ما أنجزه المسرح التونسي هذا العام من أعمال درامية جديدة. كل القاعات في تونس أغلقت أبوابها، وعلقت عروضها، بعد الإعلان عن القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة التونسية، والقاضية بحظر التجول ليلاً، ومنع التجمعات اتقاء انتشار وباء كورونا.
ومن المعروف أن العروض المسرحية تعد في تونس، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، من تقاليد السهرات الرمضانية وطقوسها، فلا تكاد تختفي حتى تعاود الظهور من جديد.
خلال هذا الشهر، كانت تنتشر مسارح الجيب في بعض أحياء العاصمة تونس، وفي عدد من مراكز المحافظات الداخلية، لعرض أعمال مسرحية شتى تتخللها فقرات من الرقص والموسيقى والشعر. في هذه المسارح "الطارئة" تخرج عدد من رجال المسرح التونسي الذين أصبحوا من أهم الممثلين والمخرجين التونسيين.
لكن جائحة كورونا تمكنت هذا العام من إلغاء كل العروض، وإجبار الممثلين على الصمت، وغلق كل القاعات، فوجد، بسبب ذلك، أكثر من الفي شخص من رجال المسرح أنفسهم خارج الخشبة والأضواء، يعيشون أوضاعاً مادية صعبة.
فقدان موارد الرزق
هذه القرارات لم تكن جديدة، فمنذ انتشار جائحة كورونا تعددت إجراءات الحكومة الهادفة إلى احتواء الجائحة والحد من انتشارها. ومن أهم هذه الإجراءات حظر التجول ليلاً، ومنع كل التظاهرات الثقافية، ما أفضى إلى احتجاجات الفنانين ورجال المسرح، الذين وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، فاقدين موارد رزقهم. ولعل أهم هذه الاحتجاجات كان الاحتجاج الذي نظمه الفنانون تحت شعار "سيب الليل"، والذي يعني حرفياً "ارفع يدك عن الليل". وقد علق المسرحي جمال الدين العروي على هذا الشعار قائلاً، "إن الفنانين لا يعملون إلا في الليل، ومورد رزقهم هو الليل. لهذا من الضروري استرجاع هذه الفسحة الزمانية من أجل إيقاد أضواء الخشبة من جديد واستئناف العمل".
وقد بدأ هذا الاحتجاج الذي قاده الفنانون التونسيون بعد أن فرضت الحكومة التونسية، حظراً للتجول ومنعاً تاماً للفعاليات الثقافية من أجل احتواء فيروس كورونا. وقد طالبت النقابة التونسية للمهن الموسيقية أعضاءها بالدخول في اعتصام مفتوح في ساحة الحكومة بتونس العاصمة من أجل دفع الوزارات المعنية إلى التراجع عن قرارها. وفي هذا السياق تم إطلاق هاشتاغ "سيب الليل"، و"أفسح المجال للعمل ليلاً"، شارك فيه كثير من الممثلين ورجال المسرح التونسيين على غرار الممثلين جمال العروي وجمال ساسي، وسواهما.
في هذا السياق، تمت إقالة وزير االثقافة السابق، وليد الزيدي، بعد أن أعلن تضامنه مع المنتسبين إلى وزارة الثقافة والفنانين، بسبب إيقاف العروض الثقافية، إذ قال: "لن تلغى التظاهرات الثقافية، وسأكون إلى جانب المثقفين في احتجاجاتهم، ولو أدى ذلك إلى إقالتي".
قبل أيام قليلة، وبعد إعلان حظر التجول من العاشرة ليلاً إلى الخامسة صباحاً، أجبر رجال المسرح في تونس، من جديد، على إلغاء كل العروض المسرحية، وإغلاق دور العرض.
لا لتجويع الفنانين
كان القرار صادماً، فأصحاب المهن الدرامية الذين عانوا قرارات الحظر التي تواترت خلال هذه السنة، نددوا بهذا الإجراء. ففي 9 أبريل (نيسان) الجاري دعوا رئاسة الحكومة إلى مراجعة هذه القرارات من خلال بيان عنوانه "لا لتجويع الفنان المسرحي وتفقيره"، منتقدين هذه القرارات التي وصفوها بـ"الاعتباطية والمرتبكة"، معلنين رفضهم إسناد وزارة الشؤون الثقافية منحاً ظرفية أو مساعدات اجتماعية لفائدة المسرحيين؛ فهذه الحلول في نظرهم "ترقيعية"، وغير ذات جدوى، وهي في كل الأحوال لا يمكن أن تنقذ رجل المسرح من معاناته اليومية. أما الحل الذي اقترحه رجال المسرح فيتمثل في العودة الفورية إلى قاعات العرض واعتلاء الخشبة واستئناف العمل من جديد. وقد أشار حافظ خليفة، نائب رئيس النقابة الوطنية المستقلة لمحترفي مهن الفنون الدرامية، إلى الظروف التي يحياها أكثر من ألفي مسرحي وعامل في المجال الدرامي بعد انتشار جائحة كورونا. فرجال المسرح باتوا في نظره في أمس الحاجة إلى الدعم المادي في غياب العروض المسرحية والتظاهرات الثقافية التي تم إيقافها توقياً للوباء. ودعا وزارة الثقافة إلى مراجعة قرار إيقاف العروض المسرحية، وإلى ضرورة صرف التعويضات من صندوق التنمية لتمكين المسرحيين من مجابهة انعكاسات الوباء على أوضاعهم الاجتماعية. وأكد أن المنتمين إلى النقابة لا يرفضون الإجراءات الوقائية المعتمدة بالفضاءات العامة، لكنهم يطالبون بحقهم في العروض مع تطبيق البروتوكولات الصحية، ومنها استقبال نسبة 30 في المئة من الحضور حتى يتسنى للمسرحي الإيفاء بتعهداته وتلبية احتياجاته الأساسية دون اللجوء إلى المساعدة.
تونس هذه الأيام من دون مسرح، وكل أصوات مبدعيها الكبار أكرهت، في ظل هذه الجائحة، على الصمت. وباتت كل قاعات العرض غارقة في الظلام، واختفت طوابير المتفرجين التي كانت تملأ الأرصفة في ليل تونس البارد. أما النقابة الوطنية المستقلة لمحترفي مهن الفنون الدرامية فظلت ترفع صوتها بالاحتجاج وتطالب باسترجاع الليل، فالليل مملكة الفنانين، ولهذا وجب رفع الأيدي عنه.
وفي انتظار استجابة الحكومة لمطالب رجال المسرح يجبر المتفرج التونسي على متابعة أعمال درامية في التلفزيون التونسي لا ترقى إلى مستوى انتظاراته، وهي أعمال لا تقول واقعه، ولا تطرح أسئلته، ولا تفصح عن عميق انشغالاته واهتماماته.