على الرغم من ملامح الاختلاف التاريخية التي اتسم بها أول خطاباته منذ توليه السلطة، واجه الرئيس الأميركي جو بايدن رياحاً معاكسة أمام كونغرس مستقطب على أسس أيديولوجية بعد 100 يوم من توليه السلطة، فطرح أجندة طموحة تستهدف تحقيق مكاسب واسعة للطبقة العاملة والمتوسطة من الشعب الأميركي، متحدياً بذلك الجمهوريين الذين دعاهم إلى تجاوز الانقسامات وإقرار التشريعات التي يطرحها.
غير أن الجدل حول الدور المنوط بالحكومة الفيدرالية في المجتمع تجدد بقوة، وشبّه جمهوريون الرئيس بروبن هود، لأنه يموّل خططه بفرض ضرائب على الأغنياء لمساعدة الفقراء، بينما يستشهد بايدن بإرث فرانكلين روزفلت لإعادة بناء أميركا عبر نفقات اجتماعية واسعة.
خطاب مختلف
أدار بايدن أحد أكثر الخطابات الرئاسية لفتاً للانتباه في ذاكرة الكونغرس، بسبب اختلافه عن الخطابات السابقة للرؤساء الأميركيين، ففي فترة ذروة المشاهدة التلفزيونية، عرض الرئيس رؤيته أمام الأميركيين والجلسة المشتركة للنواب والشيوخ لإخراج الأمة من ظلام الوباء ودفعها إلى طريق الانتعاش الاقتصادي في ظل تدابير احترازية فرضها الوباء، جعلت الحضور مقيداً بمئتي شخص فقط، وانتزعت عظمة الاحتفالية التقليدية، ومنعت استضافة أميركيين عاديين للإشارة إلى بطولاتهم كما جرت العادة في خطابات حالة الاتحاد السابقة.
واتبع بايدن في خطابه أسلوباً مختلفاً جعله يبدو وكأنه يتحادث مع أصدقائه، إذ احتفظ بنبرة صوته منخفضة فترات طويلة، وكانت أشبه بالهمس في بعض الأحيان، بخاصة عندما يرغب في إبداء قدر من التعاطف أو القلق. ولم يكن هذا فقط عندما تحدث عن الألم الذي سببه الوباء، لكن عندما تحول إلى التحدي المتمثل في الصين، وعندما أشار إلى المكاسب غير المشروعة للأثرياء.
كما استخدم الرئيس أول خطاب مشترك له أمام الكونغرس للاعتراف بلحظة تاريخية حينما وجه التحية لسيدتين تجلسان خلفه على المنصة، فلأول مرة تشغل امرأتان منصبي نائب الرئيس ورئيسة مجلس النواب اللذين يشغلان المرتبة الأولى والثانية بالترتيب في خط الخلافة الرئاسية، حال خلو المنصب الرئاسي لأي سبب.
علامة انتصار
وبصرف النظر عن الافتقاد لحالة البهاء التي ترافق هذا الخطاب، فقد كان بمثابة علامة انتصار مبكرة لبايدن الذي تباهى بإنجازاته المتمثلة في تحطيم الأرقام التي تعهد بها في تلقيح الأميركيين ضد وباء كورونا وتحسن الاقتصاد، ما يجعلها واحدة من أكثر البدايات أهمية لرئيس في التاريخ الأميركي، وهو ما دفعه إلى انتهاز الفرصة لحشد الزخم لخطتين جديدتين هما خطتا الوظائف والعائلات الأميركية اللتان من شأنهما تغيير مسار البلاد عقوداً مقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشمل الخطتان قائمة طويلة من التحسينات الملموسة في حياة الأميركيين اليومية، منها طرق أكثر سلاسة ورعاية أطفال أقل تكلفة، وكهرباء أنظف، وسنوات أكثر من التعليم المجاني قبل المدرسي والجامعي، ورعاية صحية وإجازة مدفوعة الأجر للعمال الذين انقلبت حياتهم بسبب الوباء وخدمة إنترنت أسرع في المناطق الريفية.
غير أن خطط الإنفاق الشاملة تلك، التي جعلها بايدن محور خطابه، سيجري دفع ثمنها عن طريق جمع 4 تريليونات دولار من عائدات الضرائب التي ستفرض على الأغنياء من أصحاب الدخول المرتفعة والشركات، وهو ما يعارضه الجمهوريون، رغم أنهم لم يحفزوا بعد رد فعل شعبي مضاد مثل حركة حزب الشاي التي عارضت إدارة الرئيس باراك أوباما بعد بضعة أشهر من توليه منصبه عام 2009.
بايدن هود
ويعتبر الجمهوريون أن مقترحات الرئيس المكلفة ترقى إلى مقامرة محفوفة بالمخاطر في بلد مستقطب على أسس أيديولوجية وثقافية، بينما يسعى الرئيس إلى إعادة كتابة الميثاق الاجتماعي الأميركي عبر إعادة توزيع الثروة الذي طالما سعى إليه التقدميون في الحزب الديمقراطي، الأمر الذي دفع عدداً من الجمهوريين إلى استدعاء وصف اليسار الراديكالي على حكومة بايدن، ووصف الرئيس بأنه "بايدن هود" على غرار "روبين هود" الذي كان يستولي على أموال الأغنياء في إنجلترا خلال العصور الوسطى ليعطيها إلى الفقراء.
روزفلت جديد
في المقابل استشهد الرئيس بايدن بإرث فرانكلين روزفلت حينما كشف عن خطة إنفاق اجتماعي بقيمة 1.8 تريليون دولار بالتوازي مع خططه السابقة لبناء الطرق والجسور، وتوسيع البرامج الاجتماعية الأخرى ومكافحة تغير المناخ، ما يمثل إعادة توجيه أساسية لدور الحكومة الذي لم تشهده الولايات المتحدة منذ أيام مجتمع ليندون جونسون، وما يسمى "صفقة روزفلت الجديدة".
ولم يُخفِ طاقم البيت الأبيض شعورهم بالجرأة لمتابعة هذا الطريق، لأن اللحظة مناسبة ومواتية لذلك بعد النجاح في مواجهة جائحة أدت إلى ما يقرب من 580 ألف حالة وفاة في أميركا، بينما تسعى الإدارة الأميركية إلى تحقيق فوز تشريعي آخر بعد الفوز الأول في تمرير حزمة إغاثة كورونا بـ1.9 تريليون دولار.
نمط تفكير جديد
وبينما يتمتع الديمقراطيون بقيادة بايدن بأغلبية ضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ للمضي قدماً في أكثر التشريعات شمولاً، تشير ملاحظات بايدن في الخطاب إلى نمط جديد من التفكير في الحزب الديمقراطي يتخلى عن أيام بيل كلينتون الذي كان يتحدث عن انتهاء عهد الحكومة الكبيرة أو تلك الأفكار التي عبر فيها باراك أوباما عن حذره من الإنفاق المالي الضخم، وحلت الآن أفكار جديدة تميل إلى فرض الضرائب والإنفاق ويناصرها قطاع عريض من الائتلاف الديمقراطي لا يعتقد وسط جائحة كورونا وأزمة عنصرية وأخرى اقتصادية أنه ينبغي القلق من فرض ضرائب على الأغنياء، بينما يتردد لدى الأميركيين فكرة أن الأثرياء يزدادون ثراءً.
الحكومة... مشكلة أم حل؟
لكن اللافت للنظر في الخطاب كانت رؤية بايدن وسط الجدل الأميركي الأبدي حول دور الحكومة في المجتمع، فبعد أربعة عقود من إعلان الرئيس رونالد ريغان أن الحكومة هي المشكلة لا الحل، سعى بايدن إلى قلب هذا الطرح رأساً على عقب، سعياً إلى تمكين الحكومة الفيدرالية من أن تكون محفزاً لإعادة تشكيل البلاد وتجديد التوازن بين الفقراء والأثرياء.
وتشير المبادرات التي قدمها بايدن في أول 100 يوم له في منصبه إلى نطاق واسع من التغيير سعى إليه رئيس يبلغ من العمر 78 عاماً وقضى حياته مشرعاً تقليدياً بعد تقديم نفسه خلال حملة العام الماضي على أنه مرشح انتقالي يسعى إلى علاج الفترة المتقلبة لدونالد ترمب، لكن بايدن جعل نفسه رئيساً راغباً في إحداث تحول كبير منذ تنصيبه، بحسب ما يقول الجمهوريون.
لكن، بقدر ما كانت برامج بايدن قوية، فقد واجه ضغوطاً من أنصار اليسار الليبرالي الذين أصيبوا بخيبة أمل، لأنه لم يفعل المزيد لتوسيع الرعاية الصحية، ويتفاوض على أسعار أدوية منخفضة، وهو ما وعد في خطابه باتباع مثل هذه السياسة، ودعا إلى إصدار تشريع منفصل بحلول نهاية العام.
وئام أم انقسام؟
وفي حين سعى بايدن في خطابه للحصول على دعم الجمهوريين في الكونغرس، لكنه أظهر أيضاً استعداداً للمضي قدماً بالاعتماد على الأصوات الديمقراطية فقط إذا لزم الأمر كمقامرة، بسبب وجود أغلبية ديمقراطية محدودة في مجلسي النواب والشيوخ على المحك العام المقبل.
ومع ذلك، فإن بعض أجزاء خطاب بايدن، لا تشي بالضرورة إلى أن الكونغرس عالق في طريق مسدود، فبينما لم يدعم أي جمهوري خطة بايدن التحفيزية ضد فيروس كورونا، ولا يزال الحزب يرفض حجم حزمة البنية التحتية الخاصة يتحدث بايدن كما لو أن الكونغرس قد شكل جبهة موحدة.
وإلى جانب مناشدة الجمهوريين دعم فرض قيود مختلفة على الأسلحة، لم يسهب بايدن كثيراً في معارضته، وحتى عند تقديم هذا المناشدة، بدا أنه كاد يعتذر عنها بقوله "لا أريد أن أدخل في مواجهة"، لكن السيناتور الجمهوري تيم سكوت وصف في رد رسمي متلفز لحزبه خطط بايدن بأنها "أحلام اشتراكية".
وعكست ردود أفعال الحزبين خلال خطاب بايدن صورة حقيقية عن سياسة الانفصال بين الحزبين، حيث وقف أعضاء حزب الرئيس على أقدامهم للتعبير عن فرحتهم بأفكاره، بينما ظلت المعارضة جالسة من دون حراك مع استثناءات قليلة.
تركيز على الصين
ولعل المرة الوحيدة التي اتفق فيها الجمهوريون مع بايدن مرة أخرى، الأربعاء، كانت عندما حاول البناء على الترمبية أو إعادة صياغتها لمصلحته حين تحدث عن الصين أكثر من مرة، حيث أوضح بايدن أن الصين يجب التعامل معها كعدو.
لكن في كل الأحوال، أظهر خطاب، الأربعاء، التحدي الذي ينتظر أن تواجهه إدارة بايدن على مدى السنوات الثلاث المقبلة من المعارك التشريعية، وستدور مناوشات عديدة في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة حول مقدار الإنفاق الذي يكون الناس على الاستعداد لتحمله، بما يتجاوز التريليونات المستخدمة لمكافحة حالات الطوارئ الصحية العامة.