يثير التدخل التركي في العراق تساؤلات ومخاوف عدة، خصوصاً بعد عزم أنقرة إنشاء قاعدة عسكرية كبيرة في محافظة دهوك شمال العراق، في حين يصف مراقبون موقف بغداد بأنه لا يرتقي إلى حجم الإشكالية الكبيرة تلك.
وبعد أيام قليلة من الأنباء عن عزم أنقرة إنشاء قاعدة عسكرية جديدة، تفقد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، برفقة رئيس الأركان العامة إحدى القواعد العسكرية في إقليم كردستان.
في المقابل، نقلت وسائل إعلام تركية تأكيدات وزير الداخلية سليمان صويلو أن أنقرة ستستمر في عملياتها العسكرية قرب حدودها في إقليم كردستان العراق، وفي وقت شدد على الأهمية الاستراتيجية لمنطقة متينا بمحافظة دهوك شمال العراق، قال، "مثلما فعلنا في سوريا، سنقيم قواعد ونسيطر على المنطقة".
وتتخذ تركيا من قضية ملاحقة حزب العمال الكردستاني ذريعة لتبرير عملياتها العسكرية وإنشاء قواعدها في العراق، ويرى مراقبون أن تركيا تريد أن تكون قاعدتها في مدينة متينا هي الأكبر لتصبح مركز عملياتها العسكرية في العراق، ولعل ما يثير التساؤلات المواقف "غير الحازمة" من الأطراف العراقية سواء على مستوى الحكومة أو الكتل الكبيرة في البرلمان العراقي.
احتجاج عراقي
وفي سياق رد فعل بغداد على تحركات أنقرة، استدعت وزارة الخارجية العراقية القائم بأعمال السفارة التركية لدى بغداد، الإثنين، الثالث من مايو (أيار)، على إثر الخروقات التركية للسيادة العراقية، وقالت الوزارة في بيان، "الوكيل الأقدم لوزارة الخارجية نزار الخير الله استدعى القائم بأعمال السفارة التركية لدى بغداد، في مبنى الوزارة، وسلمه مذكرة احتجاج عبرت فيها الحكومة العراقية عن استيائها الشديد وإدانتها لقيام وزير الدفاع التركي خلوصی بالتواجد داخل الأراضي العراقية من دون تنسيق أو موافقة مسبقة من قبل السلطات المختصة، ولقائه قوات تركية توجد داخل الأراضي بصورة غير مشروعة"، ودانت الخارجية تصريحات وزير الداخلية التركي بشأن نية تركيا إنشاء قاعدة عسكرية دائمة في شمال العراق.
وأكد الوكيل أن "الحكومة العراقية ترفض بشكل قاطع الخروقات المتواصلة لسيادة العراق وحرمة الأراضي والأجواء العراقية من قبل القوات العسكرية التركية، وأن الاستمرار بمثل هذا النهج لا ينسجم مع علاقات الصداقة وحسن الجوار والقوانين والأعراف الدولية ذات الصلة".
محاولات إحياء العمق الاستراتيجي التركي
ويعتقد مراقبون أن رد فعل العراق لا يرتقي إلى المستوى الذي تجري فيه انتهاكات السيادة العراقية من قبل تركيا، ويقول الباحث في الشؤون الاستراتيجية أحمد الشريفي، إن رد الفعل الرسمي العراقي "لا يرتقي إلى حجم التدخلات التركية ولا يؤثر في مسار الأحداث".
وعلى الرغم من حديث تركيا عن أن غايتها ملاحقة حزب، فإن متابعين يرون أن الغاية الأساسية تبتعد عن ذلك، وتمثل محاولة لإنشاء وجود دائم لأنقرة في العراق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف الشريفي أن هذا التوغل العسكري على حساب الأراضي العراقية يمثل محاولة لـ"إعادة إحياء العمق الاستراتيجي التركي"، ويشير الشريفي إلى أن غاية استمرار التوغل ليست السيطرة على أنشطة حزب العمال الكردستاني، إذ "تنتظر تركيا عام 2023 لانتهاء اتفاقية لوزان وإعادة المطالبة بمحافظتي كركوك والموصل إلى ساحة الصراع الدولي"، ويتابع أن الأسلوب العسكري التركي المتبع في الداخل العراقي هو، "قبض الأرض والاندفاع باتجاه هدف رئيس"، ولعلّ ما يؤكد ذلك، بحسب الشريفي، وجود "أكثر من 35 موقعاً عسكرياً بين قاعدة ونقاط تمركز تهدد سيادة العراق".
ويصف الشريفي ما يجري من توغل تركي وإنشاء قواعد في الأراضي العراقية من دون اتفاقات بأنه "احتلال صريح"، معبراً عن استيائه من عدم اتخاذ الحكومة العراقية "موقفاً أكثر صرامة".
ضغط إيراني
ولا تتخذ القوى السياسية المختلفة والفصائل المسلحة الموالية لإيران مواقف صارمة إزاء هذا التوغل التركي، على غرار ما يحصل من استهداف مستمر للمصالح والقواعد الأميركية في البلاد.
ويرجع الشريفي عدم اتخاذ مواقف إزاء التدخلات العسكرية التركية إلى تأثير "التحالف الإقليمي بين تركيا وإيران في إضعاف رد الفعل العراقي"، مبيناً أن "تركيا تحتل الأرض ميدانياً، ومع ذلك لا تتخذ الفصائل المسلحة أي مواقف تذكر، مقابل استهدافها المتكرر للقوات الأميركية والتي جاءت بطلب رسمي لمواجهة تنظيم داعش".
ولعل تباين مواقف الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في التعاطي مع ملفي القوات الأميركية والتركية يعزز الحديث عن أن التوافق الإيراني - التركي هو الذي يمنع اتخاذ مواقف صارمة.
ويتحدث الشريفي عن بعد آخر يدفع أنقرة لترسيخ وجودها في العراق يرتبط بـ"محاولاتها عرقلة أي انفتاح إيجابي للعراق على المحيط الإقليمي أو المجتمع الدولي"، مضيفاً، "ترغب كل من تركيا وإيران رهن قرار البلاد ومفاوضاتها مع الدول الأخرى بأيديهما"، ويختم بأن "مخاوف تركيا وإيران من استنساخ تجربة إقليم كردستان في سوريا، هو الذي يدفع إلى حد كبير لتنسيق المواقف بينهما".
حلفاء إيران والوجود التركي
في هذا الوقت، قال عضو المكتب السياسي لميليشيات "عصائب أهل الحق" سعد السعدي، إن "الخروقات التي تمارسها تركيا من جهة عبر وجود وزير دفاعها غير القانوني وعبر العنجهية الأميركية المستهترة بسيادة العراق، كل ذلك سببه تهاون وضعف وعجز الحكومة أمام التدخلات الخارجية، وعدم المضي بقرار البرلمان والشعب بجلاء الوجود الأجنبي من البلاد"، وأضاف في تغريدة على "تويتر"، "عن أي سيادة تتحدث يا رئيس الوزراء".
وقال النائب عن تحالف "الفتح"، فاضل الفتلاوي، في تصريح صحافي، "على الحكومة اتخاذ إجراءات صارمة لوضع حد للتدخلات التركية وحفظ السيادة العراقية"، وأرجع سبب التوغلات التركية والقصف العشوائي على القرى، الذي نتج عنه سقوط ضحايا من المدنيين العراقيين إلى "صمت حكومتي الإقليم والمركز"، وتابع أن "على الحكومة تقديم مذكرة احتجاج ضد تركيا ورفع شكوى لدى الأمم المتحدة لاستحصال تعويضات بسبب الأضرار التي تعرضت لها القرى شمال العراق"، مضيفاً، "في الجلسة المقبلة للبرلمان ستتم مناقشة الاعتداءات التركية ورفع توصيات للحكومة بشأن طبيعة التعاطي معها"، ولم تتخطَ ردود أفعال التيارات والميليشيات الموالية لإيران هذا الحد، الأمر الذي يثير التساؤلات عن التوافق الإيراني التركي في تلك القضية.
صفقة انتخابية أو توافق ضمني
ويبدو أن ما يجري من عدم اتخاذ مواقف حازمة إزاء التدخلات التركية في العراق يثير اعتقاد المراقبين بوجود توافق غير معلن بين بغداد وأنقرة، أو أنها ترتبط بعدم رغبة الفاعلين السياسيين خسارة حلفاء تركيا في البلاد قبل الانتخابات المقبلة.
ويرى أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر أن "السكوت عن التدخل التركي سواء من قبل الحكومة العراقية أو القوى السياسية الفاعلة يعطي انطباعاً بوجود صفقة متفق عليها لعدم إثارة حلفاء تركيا في العراق، خصوصاً في الفترة التي تسبق الانتخابات"، ويتحدث العنبر عن مسارين ربما يمثلان السبب الرئيس لعدم وضوح الموقف إزاء هذا الاعتداء التركي، يتعلق الأول باحتمال أن تكون الأطراف المقبلة على الانتخابات "لا تريد خسارة القوى السياسية المرتبطة بتركيا في بناء التحالفات"، أما الاحتمال الآخر، فيرتبط بإمكان أن يكون هناك "توافق ضمني غير معلن بين الحكومة الحالية وأنقرة بخصوص الاجتياح التركي المستمر"، ويوضح العنبر أن "وجود القوات التركية بهذه الطريقة يمثل عدواناً سافراً وواضحاً"، لافتاً إلى أن "أي تفاهمات في السر لا تنفي صفة العدوان، لأن الاتفاقات في هذا السياق يجب أن تمرّ من خلال البرلمان لتكتسب الشرعية".
ويشير إلى أن "تركيا تمتلك مشروعاً توسعياً ولا تريد ترك منطقة مهمة مثل العراق"، مبيناً أن سياسة أنقرة باتت واضحة في المنطقة من خلال "استغلال هشاشة الأوضاع في بلدان المنطقة لترسيخ مشروعها كما يحصل في ليبيا وسوريا"، معبراً في الوقت عينه عن استغرابه من "التباس المفاهيم بالنسبة للقوى السياسية بخصوص الاحتلال وكأنه يرتبط فقط بالقوات الأميركية".
وعلى الرغم من التنديد المستمر من قبل الحكومة العراقية بالهجمات التركية، فإن الأخيرة مستمرة في القيام بعمليات عسكرية واسعة ضد حزب العمال الكردستاني وإنشاء قواعد عسكرية ونقاط متحركة داخل الأراضي العراقية من دون أي تنسيق أو موافقة من الحكومة العراقية.