تأتي مشاركة السودان في أعمال الاجتماع الخامس للمجلس الوزاري لمنطقة التجارة الحرة للقارة الأفريقية (AfCFTA) الذي عُقد في العاصمة الغانية أكرا يوم الاثنين الثالث من مايو (أيار)، متزامنة مع اتجاه الحكومة الانتقالية للحدّ من التدخل في النشاط الاقتصادي، والعمل على إبراز دور القطاع الخاص وقوى السوق، إضافة إلى إزالة العوائق البيروقراطية والقانونية والتنظيمية التي رسّخها النظام السابق بالاحتكار والسيطرة على قوى السوق.
وإقليمياً مع تنامي توجهات التكامل الأفريقية، وتوحّد كياناتها الاقتصادية في تجربة جديدة. وبين المصادقة على هذه الاتفاقية وجهود السودان من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، تقف تحديات عدة أمام هذه المبادرة للاستفادة منها وخلق آفاق إيجابية، وهي مدى استجابة البلاد لمساعي تحقيق الأمن والسلام، وكذلك القدرة على الاندماج ضمن الدول الأفريقية وتحت مظلتها التجارية.
ومع أن هناك فوائد ستعود على غالبية دول القارة الناشئة صناعياً واقتصادياً، فإن السودان سيكون ضمن حلقة الدول الهشة التي تعاني ضعف البنى التحتية، التي تُعدّ الأساس لحرّية حركة البضائع والسلع والأشخاص.
تغيّرات المسرح
إن التغيّرات التي حدثت في المسرح الأفريقي عموماً، والسودان خصوصاً، شجّعت على السعي لإحداث إصلاح سياسي واقتصادي أكثر شمولاً. وتحت ضغوط ومطالبات عدة بدأت الدول الأفريقية في ذلك بتجربة تكامل أخرى هي هذه المبادرة لتكون أكبر منطقة للتجارة الحرة منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية، التي انطلقت رسمياً على مستوى القارة في الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي. ولم يكن الوصول إلى هذا التاريخ سهلاً، إذ مرّ بمحطات عدة خلال قمم ومؤتمرات في العقود الماضية، وصولاً إلى تأسيسها عام 2018.
وخلال العامين الماضيين، وقّعت الدول الأفريقية كافة، باستثناء إريتريا، على الاتفاقية الإطارية لمنطقة التجارة الحرة، وصادقت عليها 34 دولة، رجّحت تقديرات البنك الدولي أنها ستنتشل عشرات الملايين من الفقر بحلول 2035.
وبوصف السودان جزءًا لا يتجزّأ من البلدان الأفريقية التي تنتظم في هذه المبادرة، فإنه يعكس إحدى سمات التفاوت بين دول شرق أفريقيا وغربها، بيد أن التفاوت الأوضح يُتوقع أن يحدث بفضل خليط التناقضات في قواها الاقتصادية، وعلى ذلك يتوقف مدى تحقيق أهداف المبادرة وهي "توحيد سوق السلع والخدمات، وزيادة التجارة البينيّة، وحرية الحركة لتعميق التكامل الاقتصادي للقارة في إطار رؤية الاتحاد الأفريقي لقارة متكاملة ومزدهرة سلمية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معضلة الأمن والسلم
ظل السودان يتأرجح في أزماته بين المنظمات الإقليمية بعد انحسار وجوده في الدولية منها، بسبب العقوبات، وتصنيفه بلداً راعياً للإرهاب، كما أن تكرار المآزق السياسية طوال الثلاثين عاماً من عمر الحكومة السابقة قلّص كيفية استفادته من هذه التكتلات الإقليمية على المستوى الاقتصادي.
الآن، بعد قيام ثورة ديسمبر، فإن الإصلاح السياسي كفيل بمنع تكرار ذلك القصور بل يؤمل أن يسمح بضبط أساس لنظام التعاون الإقليمي، لكن المشكلة التي تبدو أبعد غوراً هي ضعف جذور التحوّل الديمقراطي، وهي أزمة تعانيها غالبية دول القارة.
هناك أيضاً تخوّف ذو اتجاهين، من جانب يخشى السودان أن فتح الحدود لأغراض التجارة ربما ينقل عدداً من الصراعات إلى الداخل، إضافة إلى تزايد أعداد اللاجئين. والجانب الآخر هو خشية بعض الدول الجارة من الصراع الموجود فيه، خصوصاً في دارفور، وهناك تلميحات إلى أن هذا الصراع ممكن أن يلتحم بالنزاعات التي تديرها الجماعات الإرهابية المسلحة في غرب أفريقيا بعد انكسار قاعدة الحماية التي كان يوفّرها إدريس ديبي في تشاد.
من أي مكان تنطلق منه المخاوف، فإن تأثيراتها المباشرة ستنعكس سلباً على التجارة البينيّة وتقلص الأنشطة التجارية، وإن استمرت هذه التجارة في حدود مفتوحة، فقد تكون هدفاً للجماعات الإرهابية المسلحة، ما لم تفعّل هيئة تسوية النزاعات إحدى مؤسسات الأمانة العامة للمنطقة الحرة إجراءاتها لمواجهة التحديات الأمنية، ووضع خطط في بروتوكول تسوية النزاعات.
أزمة الحدود
ويمكن هنا إثارة تساؤل عما إذا كان بإمكان المبادرة أن تؤثر في الصراعات والخلافات التي فشل في معالجتها الاتحاد الأفريقي وغيره من المنظمات الإقليمية، على الرغم من عدد من التفاعلات والاعتماد المتبادل بين بعضها. فمن مشكلات الحدود بين السودان وإثيوبيا، وبين السودان ودولة جنوب السودان على منطقة أبيي الغنية بالنفط، إلى مشكلة كينيا والصومال، تتشعّب هذه الخلافات وتزداد قوة بما يمكن أن يؤثّر في سير المبادرة.
وهناك السياسات والاتفاقيات الحدودية التي تأثرت بالنزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا وأصبحت بوادر الاتفاق حولها تثير مخاوف التنازل عن السيادة الوطنية. لم تستفِد هذه الدول من المشتركات الجغرافية في تحقيق تكامل سياسي فاعل، إذ لم تنجح الهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد) التي تضم جيبوتي وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والصومال والسودان، وكذلك إريتريا التي علّقت مشاركتها منذ عام 2007، في القدرة على الوساطة وحل النزاعات بين هذه الدول، فضلاً عن النزاعات الداخلية، إذ رفض آبي أحمد وساطة إقليمية من قبل قادة الإيغاد للتدخل لحل أزمة التيغراي، قائلاً إن "الصراع شأن داخلي لا ينبغي تدويله".
عقبات التنفيذ
يقف السودان في مفترق طرق حالياً، وستظل الأنظار مصوّبة نحوه طوال الفترة المقبلة، مع إرهاصات التحوّل السياسي والاقتصادي، والنزاع المتواصل في دارفور، وانتظار اكتمال توقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبد العزيز الحلو، والاتفاق مع حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور على التوقيع.
وسيكون لزاماً على السودان التعاون الإيجابي مع مصر وإثيوبيا لحلّ أزمة سد النهضة التي ربما تكون لها تداعيات واسعة على الاستفادة من المبادرة، إضافة إلى التحولات الاجتماعية وفاعلية الشباب في العملية السياسية، مما يفرض أيضاً ضرورة استيعابهم وتوفير وظائف لهم وإشراكهم في صنع السياسات التجارية، لكن ذلك لن يجري إلا باكتمال عملية التحول الديمقراطي وصياغة سياسات وبرامج وطنية مناسبة وتخفيض نسبة عدد الشباب العاطلين من العمل.
إضافة إلى أن السودان يفتقر إلى الإجراءات المتعلقة بالجمارك والبنية الأساسية الضرورية لتيسير التجارة من دون رسوم جمركية بينه والدول الأفريقية، مما يخفّض من جدوى هذه الاتفاقية، وكذلك البنية التحتية المتمثلة في وسائل النقل والتخزين ونظم التسويق التقليدية. وهناك أيضاً بروتوكول حقوق الملكية الفكرية وسياسة المنافسة الذي يمثّل مشكلة ليس للسودان فحسب وإنما للدول الأفريقية، وأعاق عدم التزام هذا البروتوكول تلبية حاجات القارة التنموية.
وعلى الرغم من أن السودان معروف بالمنتجات الزراعية ذات الجودة التنافسية مثل القطن والحبوب الزيتية، فإن تصديرها بصورتها الأولية كمواد خام، يضعف عوائدها، وقد يأخذ تأسيس بنية تحتية وإنشاء مصانع جديدة بدلاً من المصانع التي دمرها النظام السابق، وشرّد عمالها وقتاً عزيزاً.
بين التجارة الأفريقية والعالمية
يبدو أن هذا الأمر سيستغرق أعواماً قبل جعل المبادرة الأفريقية واقعية بالنسبة إلى السودان، إذ إن هناك خطوة أخرى ستسهّل الأمر كثيراً في حال نجاح جهود الخرطوم في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية التي تعثَّرت طوال 27 عاماً. فقد قدّم السودان طلب انضمامه إلى منظمة التجارة العالمية في أكتوبر (تشرين الأول) 1994، لكن سياسات النظام السابق قيّدت الحريات التجارية، وأعاقت متطلبات الانضمام مثل "الإصلاح وتعديل السياسات والقوانين حتى تتماشى مع القوانين الدولية، وتقديم بيانات عن السياسات الاقتصادية في البلاد، والإيفاء بمتطلبات الاتفاقيات العالمية للنظام المتّبع في منظمة التجارة العالمية".
ولهذا، يمكن القول إن فشل السودان في التزام شروط اتفاقية التجارة الدولية كان سياسياً أكثر منه اقتصادياً، وزادت منها محاباة الشركات التي تمتلكها القوات النظامية أو الحزب الحاكم السابق، واحتكاره وتدخّله في الاقتصاد.
طلب السودان مساعدة الأمانة العامة لمنطقة التجارة الحرة في دعم جهوده لتحقيق الانسجام المطلوب بين مفاوضات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ومتطلبات تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية حتى تنتظم مع المتطلبات الجديدة. إن جرى ذلك، فيُتوقّع أن توفّر عضوية منظمة التجارة العالمية له فرصاً واسعة لنفاذ صادراته للأسواق العالمية، والفائدة المهمة الأخرى لبلد في طور إعادة البناء تكون في تزويده ببرامج الدعم الفني وبناء القدرات، خصوصاً برامج الإطار المتكامل المخصص للدول الأقل نمواً لخفض الفقر وتعزيز البنية التحتية وترقية الصادرات.
ربما يستغرق السودان فترة زمنية طويلة لحين تطبيق الاتفاقية، في الوقت الذي تعالج بقية الدول الأفريقية قضايا الاندماج، بعد أن تجاوزت غالبيتها نسبياً القضايا الداخلية. لذا يجب أن ترافق خطوات التطبيق جهود وطنية تنسجم مع الإجراءات القارية، أهمها وجود قوانين اقتصادية واستثمارية تطمئن هذه الدول على الشفافية، وتنعكس على هدف المبادرة المتمثل في رفاه إنسان هذه الدول بما يدعم أمنها واستقرارها.