تزدهر معظم أقاليم السودان بالتراث الشعبي والثقافي، نظراً إلى تعدد قبائله وتنوعها، ومن أبرز المكونات الثقافية المؤثرة في المجتمع السوداني ظاهرة "الحكامات"، اللواتي هن بمثابة الشاعرات الشعبيات في مجتمع المنطقة.
والحكامة أمرأة لديها موهبة شعرية وغنائية، لكن سخرتها في التحريض على القتال والحرب، التي كانت سمة القبائل الدارفورية منذ قديم الزمان، بسبب الصراع على المرعى والكلأ. ومع تطور الحياة والوعي المجتمعي، أصبحت الحكامة داعية سلام عبر أغنياتها لإيقاف القتال ونبذ الفتن والعنف، بخاصة بعد الصراع الدموي القبلي الذي شهدته بعض مناطق السودان. ولكونها شاعرة شعبية وناطقة بكلماتها المؤثرة، استطاعت أن تكون جزءاً من منظومة الحكم الأهلي، ما جعل الحكومة تعمل على استغلالها في تنفيذ سياساتها التنموية بالمنطقة وتعدها تجربة ناجحة.
منظومة ثقافية
وبحسب الباحثة في مجال الدراسات السوسيولوجية سعاد مصطفى الحاج، لا يوجد تاريخ محدد لظهور الحكامات في السودان، لكن وجودهن ارتبط بدخول العرب إلى البلاد، وهو تاريخ غير محدد، وكذلك الوجهة التي قدموا منها. وبشكل عام تعتبر الحكامات مكوناً ثقافياً من مكونات القبائل العربية، بخاصة قبيلة البقارة في دارفور وكردفان، كما كانت لهن أدوار في الحرب والسلم، فضلاً عن كونهن منظومة اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية في المجتمع، ويلعبن في الوقت نفسه أدواراً متكامله مع التنظيمات القبلية في المنطقة.
وبينت أن الحكامة تعد شخصية اعتبارية بالنظر إلى الأدوار التي تقوم بها، سواء كفرد أو كمؤسسة تقليدية ضمن المؤسسة الاجتماعية الموجودة في القبيلة، ولها أدوار سياسية مهمة جداً، لذلك جاء أسمها مستوحى من هذين الدورين، الاجتماعي والسياسي.
وتقول سعاد الحاج: "اشتهرت الحكامات في أوساط القبائل العربية التي تقطن دارفور من دون القبائل الأخرى، وهي الأفريقية، فالأخيرة قبائل مستقرة، تمارس الزراعة، وليست لها علاقة بالرعي إلا بالقدر الذي يحافظ على توازنها الغذائي والبيئي. لذلك تسعى إلى تربية الأبقار والأغنام، فضلاً عن الجمال والحصين للحركة، وليس كوسيلة من سبل العيش. أما بالنسبة للقبائل العربية، فهي جاءت إلى هذا الإقليم بحثاً عن المرعى والكلأ".
وتشير الباحثة في مجال الدراسات السوسيولوجية، إلى أنها مكثت 6 أشهر في منطقة جنوب دارفور وشماله، لجمع معلومات عن الحكامات وبقية أفراد المجتمع، والإدارة الأهلية، والقبائل التي تعيش مع البقارة، للاستفادة منها في كتاب أصدرته عام 2019 بعنوان "صقور وحمائم الصراع المسلح في السودان وحالة الحكامات في دارفور"، وتابعت فيه التغيير والتطور اللذين حدثا في دور الحكامات، من خلال الحروب التي وقعت في هذا الإقليم.
حماية المرأة
وتنوه في كتابها إلى أن حصيلة ما طلعت به هي أن الحكامة ظهرت نتيجة لطبيعة سبل العيش في قبائل البقارة والأبالة، إذ أن رجال هذه القبيلة عادة ما يذهبون مع أبقارهم باتجاه بحر العرب في المواسم المختلفة، فيتركون نساءهم وأطفالهم وكبار السن خلفهم. وكانت النساء يتعرضن لإشكاليات كثيرة نظراً إلى غياب الرجال، فتنقل الرجال كانت تصحبه غارات ومشكلات شخصية، بالتالي كان الخصوم يتشفون وينتقمون بالهجوم على أسرهم في غيابهم، فضلاً عن قيامهم بحرق منازلهم، وسرقة ممتلكاتهم.
وتضيف سعاد الحاج: "نتيجة لهذا الظرف، ظهر صوت الحكامة كصوت جاء من أجل حماية المرأة والأسرة والأطفال، على أساس أن المرأة لها وضعية خاصة في تلك القبائل. وهي بصوتها تستطيع أن تمارس نوعاً من الضغط على الرجال حتى يقوموا بدورهم في حماية المرأة وأطفالها وكبار السن. فقد أصبح صوت الحكامة بمثابة استغاثة في حالة هجوم أي قبيلة أو مجموعة على المنطقة التي تقطنها، وكانت جمل الاستغاثة تأتي بشكل منظم في شكل شعر وغناء، بخاصة أن تلك المجموعات تحب الشعر والغناء، فجاء صوت الحكامة منساباً في شكل قصائد وكلام مقفى وملحن".
وتلفت إلى أن صوت الحكامة يكون له تأثير بالغ إذا وقعت حرب بين قبيلتين، إذ يقمن بتحميس أبناء القبيلة حتى لا ينهزموا لأن هزيمة القبيلة تعني هزيمة للمرأة، بحيث تتعرض في مثل هذه المواقف إلى الكثير من الفظائع والممارسات غير الأخلاقية مثل الاغتصاب الجنسي والقتل والتعذيب.
وتشير إلى أن الحكامة تلعب دور التوجيه المعنوي، ولا يستطيع الرجل تجاوزها، لذلك يكون صوتها الأقوى تجاه حماية القبيلة من صوت أي جهة أخرى داخل القبيلة. لذلك تعاظم دورها وأصبحت رقماً لا يمكن تجاوزه، فالرجل يستمع لها ويعمل بإرادتها. وبعد ذلك تطور دورها وأصبح متأصلاً في المجتمع من ناحية حفظ الثقافة، وتحميس الناس ودفعهم للدفاع عن القبيلة. وتمدد هذا الدور ليشمل الجانب الاقتصادي من خلال المحافظة على الموارد، وعدم نهبها، بخاصة المواشي، بالتالي أصبحت الحكامة بمثابة العين التي لا تنام لحماية القبيلة سياسياً واجتماعياً.
توارث الموهبة
ويعرف عن الحكامة بأنهاعندما تمتدح شخصاً وتصفه بالشجاعة والفراسة والكرم، يمكن أن يعتلي مكانة في مجتمعه الكبير والصغير، وعندما تذم شخصاً وتصفه بالجبن والبخل، يمكن بقوة هذا الهجاء أن يطرد من القبيلة. لذلك يتمثل دورها في تشكل شخصية الرجل في غرب السودان (دارفور) باستفزازها لحماسته ونخوته عبر أشعارها التي تستنهض مشاعرهم لخوض الحروب، ونجدة المحتاج من أجل حماية مال القبيلة وعرضها وشرفها.
ونظراً لدورها المؤثر في المجتمع، تجد احتراماً لدى كل أفراد القبيلة، ويتقرب إليها كبار العشيرة طمعاً في الحديث بمفاخرهم وإذاعتها في محيط القبيلة والقبائل المجاورة التي تتناقل ما تقوله الحكامة.
وتكتسب الحكامة موهبتها بالتوارث من الجدات الحكامات، فيما تتميز أخريات بها كهبة من الله، بانفعالها بالأحداث وإخراج مكنونها بشعر يوافق الحدث. وتختلف ظروف الشعر عند الحكامة، فهي تنشد الحماسة والمفاخرة والمدح والهجاء أو التحريض لمكارم الأخلاق أو عكس ذلك في النزاعات.
الزي التراثي
وتفضل الحكامة أن تكون متميزة في ملابسها عن غيرها من نساء القبيلة، بخاصة في المناسبات الاجتماعية سواء كانت خاصة أم عامة، فترتدي زياً خاصاً من التراث يجعلها متميزة عن بقية النساء من حولها. إنها متحررة من قيود القبيلة، تتعامل مع الجميع من دون استثناء، وتخالط الرجال وتجالسهم من دون تحفظ، ولا ينظر إليها الآخرون نظرة استهجان، فهي فوق قانون مجتمع القبيلة باعتبارها شخصية اعتبارية يسمح لها بفعل ما تشاء.
ولها مطلق الحرية في التعامل اليومي، بحيث تسافر وتتنقل داخل المنطقة وخارجها من دون قيد، على الرغم من وجودها في مجتمع تقليدي محافظ، فضلاً عن اختيارها في الزواج، الرجل الذي يملك المال والشجاعة والكلمة داخل مجتمع القبيلة. لكنها في الوقت ذاته تتقيد بأحكام المجتمع في ما يخص شأن الزواج، وذلك بأن تقبل بزواج ابن عمها.
وعندما لمست السلطات الحكومية، وضع الحكامات كسلطة إعلامية قوية، عملت على توظيفهن لخدمة قضايا المرأة ومعالجة المشكلات المنتشرة بالمنطقة، مثل الأمية ومحاربة أمراض الطفولة والصراعات القبلية، مما أحدث تحولاً في المنطقة لدورهن الإعلامي القوي. في حين بدأت بعض المنظمات العاملة في مجال المرأة والطفولة الاستفادة من شهرتهن في خدمة القضايا الاجتماعية، بخاصة العادات الضارة كالختان. وكذلك الاستفادة من تجاربهن في كيفية توظيف الإعلام الشعبي في خدمة المرأة وقضاياها، بخاصة أن الريف السوداني، مثله مثل بقية الأرياف العربية كان يعاني سابقاً من عدم وصول الإعلام إليه.
شعر الحكامات
يغوص شعر الحكامات في وصف كل ما يدور في الحياة اليومية لمجتمع القبيلة، وللحكامة مقدرة فائقة في حفظ (ورواية) تاريخ الأبطال والشخصيات المؤثرة في قبيلتها، في مناسبات الأفراح والأتراح. وهي التي تخلد سيرة الموتى بقصائد غاية في البلاغة والروعة. وعلى الرغم من أن معظم الحكامات أميات، لكنهن ينظمن الشعر بالفطرة، ما أكسب أشعارهن نوعاً من الصدقية.
وتتنوع أشعار الحكامات ما بين الأغراض المختلفة ومدح الصفات الكثيرة لأفراد تلك القبائل، وهن دائمات الفخر بالأهل والعشيرة وتخليد الآباء والإخوان والأجداد، كما كان يحدث في الجاهلية، ويتمتعن بجرأة نادرة وشجاعة في إبداء إعجابهن بالرجال من دون تحفظ أو خجل.
وتتغزل الحكامات في أشعارهن بأخلاق الرجال وكرمهم وشجاعتهم واحترامهم للمرأة، وتتسم قصائدهن بمتعة الصياغة، فضلاً عن أنها مرتبة القافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتميز أشعارهن بالمقاطع الرباعية، وبالسجع، لكن عموماً هي عبارة عن أنماط ووظائف تتمثل في الهجاء والمدح والفخر والغزل والنسب، وتلعب هذه الأدوار وفق الظروف والمواقف، وتختلف ظروف الشعر عندهن. فأحياناً ينشدن الحماسة والمفاخرة والمدح والهجاء أو التحريض على مكارم الأخلاق أو عكس ذلك في النزاعات.
ولا تحبذ معظم الحكامات قصائد الهجاء، ويحجمن عن نظمها، لأن الرجل الذي يتعرض لهجاء الحكامة، يغدو منبوذاً ولا يستطيع أن يعيش في القبيلة مرة أخرى. والحكامات لا يهجون إلا الذي يرفض الخروج للنفير والمساعدة في أعمال الزراعة ورد الغزوات ضد القبيلة. ويطلقن عليه "قعيد البيت"، ولهذا يخشى كل الرجال هذا اللقب، فيحرصون على المشاركة في كل أعمال القبيلة ونجدتها ونصرة المرأة.