سلط تحرك الجمهوريين، لتجريد ليز تشيني من منصبها القيادي في مجلس النواب، عقاباً على انتقاداتها المستمرة لدونالد ترمب، الضوء من جديد على القوة المهيمنة التي لا يزال يتمتع بها الرئيس الأميركي الأسبق على مقاليد الحزب، على الرغم من الانقسامات الظاهرة بين قياداته وتحذيرات الخبراء الاستراتيجيين من التأثير السلبي على حظوظ الحزب الانتخابية، إذا استمر ترمب في توجيه دفة الجمهوريين، فكيف تمكن ترمب من الإبقاء على قبضته الحديدية على الحزب بعد أكثر من ثلاثة أشهر على مغادرته البيت الأبيض؟ وما تأثير إزاحة تشيني من منصبها على التوجهات والانقسامات داخل الحزب؟
مؤشرات عديدة
لم يكن تحرك الجمهوريين لتجريد النائبة ليز تشيني من منصبها القيادي في مجلس النواب، عقاباً على إدانتها ادعاءات ترمب بتزوير الانتخابات، المؤشر الوحيد على قبضة ترمب الحديدية على الحزب الجمهوري، فقبل أسابيع قليلة أقر المشرعون في ولايتي فلوريدا وتكساس إجراءات جديدة كاسحة تضع قيوداً على عمليات التصويت، تحت ذريعة روّج لها ترمب وحلفاؤه، بأن النظام الانتخابي سمح بالتزوير ضده، وفي ولاية أريزونا التي خسرها ترمب في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بدأ الحزب الجمهوري في الولاية إعادة فحص غريبة لنتائج الانتخابات، بحثاً عن أي أثر يعزز أفكارهم عن التزوير، وهو ما يعكس إلى أي مدى أصبح الرئيس الأسبق متحكماً في توجيه تحركات الحزب الجمهوري وخطواته.
وبينما من المتوقع أن يجتمع المؤتمر الحزبي الجمهوري، الأربعاء المقبل، 12 مايو (أيار)، خلف أبواب مغلقة، لتحديد مستقبل تشيني، وربما استبدالها بالنائبة إليز ستيفانيك، العضوة الجمهورية المؤيدة بقوة لترمب خلال محاكمة عزله، إلا أن الدراما التي استمرت أياماً حول تشيني، تكشف عن انقسامات عميقة في الحزب حول ترمب الذي يخشى البعض من محاولة إغراق زملائه الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس عام 2022.
ثلاثة معسكرات
وهذا ما أدى إلى انقسام الجمهوريين إلى ثلاثة معسكرات، أحدها يؤيد ترمب وهم الأغلبية، والثاني يحاول تجاهله مثل السيناتور ميتش ماكونيل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الذي يمتنع عن ذكر اسم ترمب الآن في كل مناسبة، والثالث يحاربه مثل تشيني، لكن المعسكرات الثلاثة لم تتمكن من توحيد الحزب الجمهوري الممزق حتى الآن.
غير أن خسارة تشيني المحتملة لمنصبها كثالث قيادة جمهورية في مجلس النواب، ستحمل دلالات مهمة للحزب ستمثل أكثر من مجرد تغيير كبير في قيادته داخل الكونغرس، إذ إنه سيعني اهتمام الحزب بالحفاظ على ترمب وجناحه في وضعية مركزية للحزب الجمهوري، وهو أمر قد يجعل من الصعوبة قلب سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل.
نقطة تحول
تشيني نفسها صورت الحزب الجمهوري في مقال كتبته لصحيفة "واشنطن بوست" على أنه عند نقطة تحول حاسمة، لأن عليه أن يختار بين الحقيقة والولاء للدستور أو عبادة الشخصية في إشارة قوية إلى الرئيس ترمب الذي اعتبرت أنه يمثل اختباراً ليس فقط للحزب الجمهوري، وإنما للديمقراطية نفسها كرئيس أسبق يدعي كذباً أن الانتخابات قد سُرقت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من وجود حلفاء لتشيني مثل السيناتور ميت رومني، والسيناتور سوزان كولينز، اللذان يعتقدان أن الحزب الجمهوري يجب أن يكون أقل دعماً لترمب بعد خمس سنوات أعاد فيها تشكيل الحزب على صورته، إلا أن كولينز ورومني ليسا في قيادة الحزب الجمهوري، كما أن الرغبة لإرضاء الرئيس الأسبق في مجلس النواب أكثر قوة مقارنة مع مجلس الشيوخ.
قمع المعارضة
وفي حين ظل ترمب بعيداً من الأنظار خلال الأيام القليلة الماضية، بعد تمديد حجبه عن موقع "فيسبوك" وانغماسه في لعب رياضة الغولف المفضلة واستقباله الزوار في منتجع "آلامارغو"، فقد أصبح استسلام الحزب الجمهوري له أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، بعدما تبين أن ترمب لم ينجح فقط في قمع أي معارضة داخل حزبه، بل أقنع معظم الحزب الجمهوري أن أضمن طريقة لاستعادة السلطة هي تبني أسلوبه السابق، والتركيز على خطاب الانقسام العرقي، ونظريات المؤامرة، بدلاً من مغازلة الناخبين المتأرجحين في ضواحي المدن الذين كانوا السبب في خسارة الحزب البيت الأبيض، والذين يتطلعون لسياسات موضوعية بشأن الوباء والاقتصاد وقضايا أخرى.
الولاء لترمب
وتكمن قوة ترمب في قدرته على الحفاظ على ولاء غالبية الجمهوريين له على الرغم من اتهامه بتحريض مؤيديه قبل أحداث الشغب في السادس من يناير (كانون الثاني) في مبنى "الكابيتول"، إذ يتجاهل أتباعه أو يقبلون ضمنياً الهجوم على الكونغرس، ويواصلون الاستغراق في فانتازيا انتخابات مسروقة، بينما ينغمس الديمقراطيون في حكم دولة لا تزال تكافح للخروج من جائحة فيروس كورونا.
وطوال الأسبوع الماضي، أظهر الجمهوريون بوضوح ما يمثلونه الآن بالضبط، ألا وهي الترمبية، إذ تبنى اكثيرون منهجه في ترديد بيانات عنصرية، وفرض الهيئات التشريعية، التي يسيطر عليها الجمهوريون في كل أنحاء الولايات المتحدة، قيوداً من شأنها أن تؤثر على تصويت الأميركيين الأفارقة والأميركيين من أصول لاتينية، واستمر أسلوب ترمب شديد الاستقطاب في تحفيز قاعدته الانتخابية وفي مهاجمة منتقديه على حد سواء، وأظهر قدرة فريدة على قلب مؤيديه السياسيين ضد أي جمهوري يعارضه، ما جعل الجمهوريين مقتنعين بضرورة إظهار الولاء الذي لا يتزعزع لرئيس غادر السلطة بهدف احتفاظهم بتأييد الناخبين الذين فاز بهم في الانتخابات الماضية.
وتعكس تصريحات السناتور ليندسي غراهام في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" هذا التيار الجارف في قناعات الجمهوريين، إذ اعتبر أنه لا يمكن المضي قدماً أو تحقيق تقدم من دون الرئيس ترمب.
وتشير دراسات من خبراء استراتيجيين جمهوريين إلى أنه بعد أشهر من استمرار وسائل الإعلام المحافظة في ترديد مزاعم تزوير الانتخابات، أصبح كثيرون من أعضاء الحزب يتعاملون مع هذه الأكاذيب على أنها حقيقية، وأصبح لدى شريحة واسعة منهم انفتاح فضولي متزايد للاطلاع على ما تردده منظمات مثل "كيو أنون" التي تروج لنظريات المؤامرة حول الانتخابات المسروقة والدولة العميقة، وأصبح كثيرون من هؤلاء الناخبين الأساسيين يعيشون في عدمية ما بعد الحقيقة، إذ لا يؤمنون بأي شيء ويعتقدون أن أي شيء قد يكون زائفاً.
مفاجأة لبايدن
لم يكن من المستغرب أن يكشف استطلاع للرأي أجرته "سي أن أن"، الأسبوع الماضي، أن ما يقرب من ثلث الأميركيين، ونحو 70 في المئة من الجمهوريين، يعتقدون أن جو بايدن لم يفز بما يكفي من الأصوات للفوز بالرئاسة، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً للرئيس بايدن الذي يتعين عليه تحديد ما يجب فعله حيال شريحة كبيرة من الجمهور التي تشك في شرعيته، وحزب جمهوري يدعم هذه الشكوك من خلال الدفع بمشاريع قوانين لتقييد التصويت، وربما تقويض الثقة في أي انتخابات مستقبلية.
وتسير هذه الاستطلاعات في طريق مخالف للمسار الذي توقعه الرئيس بايدن خلال الحملة الانتخابية، إذ اعتقد أنه بمجرد رحيل ترمب سيعود الجمهوريون إلى الحزب الذي كان يعرفه خلال العقود التي قضاها في مجلس الشيوخ، وعندما سُئل عن الجمهوريين هذا الأسبوع، أعرب بايدن عن أسفه، لأنه لم يعد يفهمهم بعد الآن، وبدا مرتبكاً بعض الشيء بشأن الثورة المصغرة في صفوفهم.
انعكاسات سلبية
وعلى الرغم من أن التشبث بالرئيس ترمب يمكن أن يساعد الحزب على زيادة الإقبال بين قاعدته الشعبية، يجادل بعض الجمهوريين بأن هذه الاستراتيجية ستضر بالحزب لأن التركيبة السكانية الحاسمة لا تفضل ترمب، بما في ذلك الناخبون الأصغر سناً والناخبون الملونون والنساء وسكان ضواحي المدن.
وتظهر المعارك داخل الحزب الجمهوري في الانتخابات التمهيدية الأولية، أن المرشحين يتهمون بعضهم بعضاً بعدم الولاء للرئيس الأسبق، ولهذا يخشى عديد من قادة الحزب أن يؤدي ذلك إلى فوز مرشحي اليمين المتشدد، وهو ما ينذر في نهاية المطاف بخسارة الانتخابات العامة في الولايات المحافظة، حيث يجب أن يفوز الجمهوريون بها، مثل ولايتي ميزوري وأوهايو.
وعلاوة على ذلك، فإن الذين اعترضوا على ترمب ودفعوا الثمن يقولون، إن هناك حافزاً سياسياً ضئيلاً للضغط على التيار المؤيد لترمب، لأن انتقاد الرئيس الأسبق، أو حتى الدفاع عن الذين ينتقدونه، يمكن أن يترك المسؤولين المنتخبين في منطقة سياسية مجهولة وغير معترف بها، حيث يُنظر إليهم على أنهم خائنون للناخبين الجمهوريين، على الرغم من أنهم لا يزالون محافظين للغاية، الأمر الذي يجعلهم غير مقبولين من الديمقراطيين والمستقلين.