بعد تردد لم يدُم طويلاً منذ أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن فكرة لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين، اقترح عقده في يونيو (حزيران) المقبل في بلد محايد، تحوّل الجانبان الروسي والأميركي إلى خطوات عملية صوب وضع هذه الفكرة حيز التنفيذ والبحث عن العاصمة المحايدة المناسبة لاستضافة هذا اللقاء.
وللإعداد لهذه القمة المرتقبة التي ثمة من يقول إنها تكاد تكون الأهم منذ الإعلان عن نهاية الحرب الباردة في مالطا في 1989 بين الرئيسين السوفياتي ميخائيل غورباتشوف والأميركي جورج بوش الأب، عقد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن محادثات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في أيسلندا أمس الأربعاء. وشدد كلاهما على أن البلدين "بينهما خلافات خطيرة"، لكن لا يزال يمكنهما إيجاد سبل للتعاون.
محادثات بناءة
وقال متحدث الكرملين دميتري بيسكوف للصحافيين يوم الخميس، في مؤتمر عبر الهاتف إن المباحثات بين لافروف وبلينكن ستساعد موسكو في اتخاذ قرار بشأن احتمال عقد قمة، مضيفاً أن موسكو ستحلل المحادثات قبل أن يتخذ بوتين أي قرار بشأن الاجتماع مع بايدن. ووصف الكرملين، اليوم الخميس، اللقاء بأنه "محادثات بناءة" بين كبار الدبلوماسيين في موسكو وواشنطن، مؤكداً أنها "مؤشر إيجابي" إلى عقد القمة.
وانخرط كثيرون من ممثلي الأوساط الروسية الرسمية والإعلامية في تناول احتمالات اللقاء وماهية المواضيع التي من الممكن مناقشتها. وبينما نقلت وكالة أنباء "تاس" الروسية ما قاله نيد برايس، رئيس الجهاز الصحافي لوزارة الخارجية الأميركية حول "احتمالات تنظيم لقاء بين بايدن وبوتين، يمكن أن يناقش أكبر قدر من مواضيع الاستقرار الاستراتيجي"، كشف لافروف عن أن "الغموض لا يزال يكتنف الكثير من جوانب التحضير للقاء"، وهو ما أشار بيسكوف إليه بقوله: "إن روسيا تواصل تحليل الموقف في ما يتعلق بالقرار الخاص بإمكانية عقد قمة بين رئيسي روسيا والولايات. وعلى الرغم عن غموض الموقف الروسي وعدم حسمه تجاه تأكيد المشاركة في هذا اللقاء، سارع الرئيس بايدن إلى إعلان 15 - 16 يونيو المقبل موعداً للاجتماع، أي في وقت لاحق من مواعيد قمة مجموعة الدول السبع الكبار في بريطانيا في 11 - 13 يونيو، واجتماع القمة الأميركية الأوروبية قادة "ناتو" في 14 يونيو في بروكسل، وذلك يتفق مع ما قاله وزير خارجيته أنتوني بلينكين حول إن القمة يمكن أن تُعقد خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فيما أشار إلى جملة المواضيع التي ربما تناقشها، وتتضمن إلى جانب ما تقدّم ذكره، موضوعَي البرنامج النووي الإيراني وملف كوريا الشمالية وعدداً من الملفات الإقليمية، التي قال إنه سيتناولها في لقائه مع لافروف في ريكيافيك. أما عن مكان اللقاء، فلا يزال الجدل يحتدم حوله حتى اليوم. ويتراوح خيار كل من البيت الأبيض والكرملين بين عدد من العواصم والمدن الأوروبية في فنلندا والنمسا وسويسرا وسلوفينيا التي سبق واستضافت أول لقاء للرئيسين الروسي بوتين ونظيره الأميركي الأسبق جورج بوش الابن في منتصف مايو (أيار) 2001.
وعما صدر عن الجانب الروسي بشأن مواضيع القمة المحتملة، اكتفى سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي بإعلان أن "موسكو تدرس اقتراح واشنطن لعقد قمة بين رئيسي الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، وأنها لا ترفض الدخول في حوار مع الجانب الأميركي، لكن الإعداد الصحيح للقاء يظل هو النقطة الأهم".
قضايا القمة
وثمة ما يشير إلى أن الأحداث الراهنة في منطقة الشرق الأوسط وتصاعد الحرب بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تفرض نفسها على جدول أعمال الأوساط السياسية العالمية، ومن ثم فمن المتوقع أن تشغل الموقع المناسب على مائدة القمة الروسية الأميركية، إلى جانب قضايا الاستقرار الاستراتيجي بما فيها مجمل المسائل المتعلقة بالأمن والتسلح والفضاء الإلكتروني والعلاقات الثنائية بما تحمله بين ثناياها من أزمات دبلوماسية يتعلق بعضها بالعقوبات الأميركية التي أعلنها بايدن خلال الأشهر القليلة الماضية، ووصفها بيسكوف بـ"التحركات العدائية من جانب واشنطن ضد موسكو"، فضلاً عن الأزمة الأوكرانية، وربما أيضاً العودة إلى "معاهدة السموات المفتوحة" التي كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أعلن عن خروج بلاده منها في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وكشف مجلس الدوما عن قرار مماثل هذا الأسبوع، ردّاً على الموقف الأميركي. وكان ممثلو كل من الجانبين أعربوا عن اهتمامهم بعقد هذا اللقاء، وإن تباينت التوقعات بقدر تباين مواقف كل منهما منذ أعلن بايدن عن اقتراح اللقاء في أبريل (نيسان) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الصدد، لم يكفّ الجانب الأميركي منذ ذلك التاريخ عن تكرار تصريحاته حول تعداد فوائد اللقاء، وما يمكن أن يسفر عنه من تقليص لمساحات الخلاف بين البلدين. وأعلن بلينكن في حديث أدلى به إلى صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أن "اللقاء وجهاً لوجه لا بد من أن يفيد البلدين"، فيما كشف بايدن عن أنه "يعتقد أيضاً أنه من المفيد أن يتمكّن الرئيسان من التحدث المباشر في ما بينهما وجهاً لوجه. إن الدبلوماسية تكمن بالتحديد في التواصل المباشر. وبصفتي دبلوماسياً، أدهشني دائماً أن الناس يعتقدون أحياناً أن هذه الدبلوماسية تطرح التساؤلات". كما نقلت وكالة "ريا نوفوستي" الروسية عن بلينكن ما قاله حول "أن التواصل مع شخص ما لا يستبعد وبطبيعة الحال كلمة لا من مفردات الحوار".
ومع اقتراب الموعد الذي أعلنه بايدن للقاء المحتمل، يتزايد اللغط حول مدى قدرة الرئيس الأميركي على مواجهة خصمه بوتين الذي كان حقق قدراً من النجاح في الرد على اتهامات بايدن له بـ"القاتل"، حين بادره باقتراح الدخول معه في مناظرة ينقلها التلفزيون على الهواء مباشرة، وهو ما اعتذر بايدن عن قبوله في حينه. وثمة من يقول في موسكو أن بايدن ربما يتعرّض في الداخل الأميركي، لما سبق وواجه سلفه دونالد ترمب من اتهامات بالتخاذل والعجز عن مواجهة بوتين في لقائهما المباشر في هلسنكي في يوليو (تموز) 2018.
تشابك المواقف مع الصين
وفي هذا الصدد، يذكر كثيرون ما قاله بايدن في حق سلفه ترمب بأنه "جرو بوتين"، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من إيحاءات ثمة من يتوقع أن يطاله بعض منها.
ويستند مراقبون كثر في روسيا لدى سردهم واستعراضهم لمثل هذه الاحتمالات، إلى أن بوتين يدخل هذا اللقاء، من مواقع أفضل من خصمه لأسباب كثيرة، يرتكز معظمها على ما تراكم لديه من خبرات كضابط استخبارات قديم، في الوقت الذي يعاني نظيره الأميركي من تقدم العمر وتكرار حالات النسيان وغير ذلك مما يظل موضع تندّر وسخرية من جانب الكثيرين من متابعي تحركات وتصرفات بايدن، داخل الولايات المتحدة وخارجها.
ويزيد من حدة التوتر الذي يخيّم على أجواء الإعداد لهذه القمة "المرتقبة"، أن الرئيسين يلتقيان في توقيت بلغت الأزمة بين بلديهما حداً غير مسبوق منذ إعلان نهاية الحرب الباردة بين الرئيسين غورباتشوف وجورج بوش في مالطا في ديسمبر (كانون الأول) 1989.
وكان بوتين أدرج خلال الأيام القليلة الماضية الولايات المتحدة في صدارة قائمة الدول الأكثر عداءً أو "غير الصديقة" لبلاده بحسب النص الرسمي لوزارة الخارجية الروسية، وهو موقف مماثل لما أعلنته الإدارة الأميركية حول اعتبار روسيا عدوها الأول، وإن لم تستبعد الصين التي تظل تتصدر قائمة خصومها، وما يضع علاقات البلدان الثلاثة ضمن مثلث لم يعُد من الممكن أن يكون متساوي الأضلاع، بحسب ما نقلته وكالة "ريا نوفوستي" عن المعلق الروسي بيوتر أكوبوف.
وذلك يعني أن كلاً من طرفَي اللقاء المرتقب، سيكون مدعواً إلى مراعاة مدى احتمالات تشابك المواقف مع الصين، على اعتبارها الغائب الحاضر في هذا اللقاء، لكن من مواقع متباينة بقدر تباين علاقات كل منهما معها. ولعل التاريخ الذي اقترحه الرئيس الأميركي موعداً للقمة بعد انعقاد قمّتَي الدول السبع الكبار وبلدان "ناتو"، يعني ضمناً أن ما خرج به الرئيس بايدن في لقاءيه مع حلفائه من استنتاجات وانطباعات سيجد مكاناً على مائدة لقائه مع نظيره الروسي، وهو ما يضفي على القمة المرتقبة قدراً أكبر من الأهمية.
على أن كل ما جرى ويجري تداوله من معلومات وتفاصيل حول مواضيع القمة المحتملة، لا يمكن أن يكون القول الفصل في ما يتعلق بمجمل ما من المرجح أن يناقشه الزعيمان بوتين وبادين، إذ هناك في روسيا وخارجها من يظل يتعلق بأمل أن يتسع وقتهما لمناقشة قضية المعارض الروسي ألكسي نافالني، الذي هدد بايدن روسيا بعواقب وخيمة في حال وفاته في سجونها، إلى جانب ما تراه موسكو ممارسات غير مقبولة من جانب الولايات المتحدة في بلدان الفضاء السوفياتي السابق، وفي مقدمتها أوكرانيا وبيلاروس التي كشف رئيسها عن محاولة اغتياله بعد فشل محاولة الانقلاب التي دبّرتها "أوساط غربية" ضده في صيف العام الماضي، وهو ما كان بوتين تناوله في مكالمته الهاتفية الأخيرة مع بايدن في أبريل من هذا العام.
وإزاء ذلك كله وعلى وقع استمرار التوتر في علاقات البلدين وعدم عودة سفيريهما في كل من موسكو وواشنطن إلى عملهما منذ استدعائهما للتشاور في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) في أعقاب ما صدر عن الرئيس الأميركي من تجاوزات في حق نظيره الروسي، ستظل الأنظار تتعلق في ما قد تسفر عنه القمة المرتقبة من نتائج. وذلك في الوقت الذي تتصاعد التوقعات حول مدى ما يمكن أن يحققه كل من الزعيمين من نجاح، ليس فقط تجاه تأكيد وجهات نظره حيال القضايا التي جرت مناقشتها، بل وأيضاً ما يمكن أن يعود به إلى بلاده من انتصارات معنوية تؤكد بالنسبة إلى بايدن نجاحه في مواجهة بوتين وعدم تكرار "أخطاء سلفه" التي ارتكبها في هلسنكي، ولبوتين مصداقية ما سبق وقاله في خطابه الأخير إلى الأمة حول أن أي شخص يفكر في تهديد بلاده "سوف يندم على ذلك، كما لم يندم على أي شيء من قبل". وإن غداً لناظره قريب!