لقصور اليمن حكايات شتى من الجمال والإبهار، وتاريخ خالد يطاول السماء كأعناقها المطرزة بألوان الدهشة، المستندة على تربة متجذرة في حضارة عميقة تستنهض منها طرازها الباذخ.
التحف المنيفة التي قُدّت من جبالها، وزخرفت من نورة تلالها وتراب رمالها، صنعت منها آيات خالدة للفرادة العمرانية المنثورة كاللآلئ البيضاء النفيسة التي تزين ثوب أرض السعيدة الأخضر.
غير أن زمن الأحفاد لم يجد بمن يحمي إرث الأجداد من صروف الدهر وتقلباته قبل أن تتسلل جحافل الخراب من أسوارها التي استوطنها الإهمال، فأحالتها من عجائب إلى خرائب تبكي أطلال زمن ساد فيه جمالها، ثم باد في غياهب التنكر والخذلان.
رمز الإمارة الهبيلية
على الضفة الشمالية الغربية لوادي بيحان، بمديرية عسيلان التابعة لمحافظة شبوة (شرق اليمن)، يطل قصر الأمير حسين بن أحمد الهبيلي، مؤسس الإمارة الهبيلية التي حكمت منطقة بيحان في القرن السابع عشر الميلادي، كجوهرة مشعة في محيط مقفر.
تولى الشريف حسين حكم منطقة بيحان بعد أبيه في الفترة ما بين 1935 و1967.
وعلى الرغم من أن الفترة التي حكم فيها الشريف حسين شهدت نزاعات وتطورات خطيرة في المنطقة وأطماعاً دولية وداخلية وسيطرة بريطانيا على جنوب اليمن، فإنه استطاع بحنكته السياسية تكوين إمارة دانت لها الزعامة على جنبات بيحان وعاصمتها مدينة النقوب، وهي الإمارة التي عرفت باسم الإمارة الهبيلية الهاشمية التي ظلت تستمد قوتها وحضورها من الوجود البريطاني.
ولهذا سقط حكم الهبيلي في 19 سبتمبر (أيلول) 1967، بعد استقلال الجنوب اليمني على يد ثوار الجبهة القومية المناهضة للاستعمار البريطاني.
لندن وشريف بيحان
مع توسع المطامع البريطانية في الجنوب اليمني، نهاية القرن الثامن عشر، كان لا بد للندن أن تبحث عن أعوان محليين يدينون لها بالولاء ويخضعون أي صوت مناوئ، مقابل الدعم السياسي والمادي الباذخ، ولهذا أنشأت "اتحاد الجنوب العربي" الذي ضم 12 سلطنة ومشيخة توزعت على مختلف المناطق، إضافة إلى ولاية عدن بإشراف ودعم مباشر من لندن.
وتقول أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر، أسماء أحمد ريمي، إن بريطانيا وقعت مع الهبيلي معاهدة حماية في 29 ديسمبر (كانون الأول) 1903، حصل شريف بيحان بموجبها على راتب شهري قدرة 30 ريالاً يمنياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف إعلامية، "اقتنع البريطانيون أن يكون آل الهبيلي حلفاء لهم وحكام لمنطقة بيحان، وذلك لمعرفتهم بطبيعة التركيبة القبيلة والاجتماعية للمنطقة، وخصوصاً أن القوتين الكبيرتين اللتين كانتا في المنطقة هما قبيلتا المصعبين في جنوب بيحان، وبالحارث في شمالها، ومن الصعب أن تدين إحداهما للأخرى".
وعقب صراعات وحروب عنيفة مع القبائل في بيحان وبمساندة بريطانيا للهبيلي استطاعت أسرة الهبيلي، وفقاً للباحثة ريمي، تأسيس الإمارة الهبيلية في كل منطقة بيحان وأعلنت بريطانيا عن تأسيس هذه الإمارة في 17 سبتمبر من عام 1943. ولهذا يعد الشريف حسين بن أحمد بن محسن الهبيلي "هو المؤسس الحقيقي لهذه الإمارة، واتخذ من مدينة بيحان (القصاب العليا) مقراً له وعاصمة لإمارته".
الإغداق على الحليف الجديد
عقب تلك الحقبة يؤكد مدير عام مكتب الثقافة بمديرية عسيلان، ناجي عيضة شماخ، أن بريطانيا أغدقت على حليفها الهبيلي بالأموال الطائلة وتكفلت ببناء أفخم القصور على امتداد مناطق إمارة بيحان حينها.
ويضيف، "استقدم الهبيلي بناة مهرة من محافظة حضرموت لتشييد قصره الرئيس في منطقة النقوب خلال الربع الأول من القرن الماضي، كمسكن ودار حكم، وأنشئ بالقرب منه مطار ترابي لتمويل الإمارة بكافة احتياجاتها".
عن سبب جلب البناة من حضرموت يرجع ذلك لمهارتهم التاريخية الفائقة في بناء أكبر وأجمل القصور. وهكذا شيد الهبيلي العديد من القصور له ولإخوته على نمط متشابه في مختلف مناطق بيحان.
من الخيال
وفي جولة "اندبندنت عربية" في جنبات القصر والاطلاع على ما تبقى من مآثره المعمارية الفريدة؛ يلفت نظر الزائر للقصر الإهمال الذي طاوله، حتى تسبب ذلك في طمس الكثير من معالمه، النقوش والزخارف الفسيفسائية والمنمنمات ولوحات الزينة والقباب المرصعة بالزخارف التي كتبت عليها آيات قرآنية ونقوش للخناجر والجنابي اليمنية التقليدية التي تملأ واجهات القصر وكافة الغرف في أدواره الأربعة.
مكونات القصر
تتقدم هذا المبنى الأرستقراطي بوابات خشبية عتيقة يليها حوش واسع تقدر مساحته بمئات الأمتار، يحوي بداخله بساتين وحدائق وحمام سباحة صمم على شكل زهرة، تتفرع في جنباته ملاحق شاسعة للحراسة وصالات واسعة للضيوف.
على جانبه الغربي حصن منيف، كالظاهر في الصورة، بني نصفه الأول من الحجر، فيما نصفه الأعلى بالتراب "اللبن الطيني" واتخذ كقلعة حراسة حصينة تقع في أعلاه نوافذ صغيرة تسمح لحراس القصر بكشف كافة الاتجاهات لدرء أية مخاطر، تتخللها فوهات صغيرة استخدمت، بحسب أبناء المنطقة، لأسلحة الحراسة، فيما استخدمت الغرف الضيقة سجوناً لمعارضي الأمير.
فيما تصطف حول الحصن عدد من البنايات التي استخدمت كمطابخ ومخازن لحفظ الحبوب والأغذية، إضافة إلى إسطبلات الخيول وغرف الخيالة وملاحق أخرى.
بناء الإبهار
وأنت تستشرف مقدمة المبنى، يستنهض جماله بداخلك كوامن الانبهار وكأنه تحفة لأباطرة الرومان جاءت من خلف الأساطير.
بني القصر من الحجر المغطى بطبقة من الكلس الأبيض (النورة) على يد بنائين استقدمهم الأمير لتشييد قصره وقصور إخوته التي تتمايز على نحو بارز في محيط صحراوي مقفر تحيط به بيوت طينية متواضعة لأبناء المجتمع المحلي وأكواخ للبدو الرحل.
يحوي دوره الأول نحو 15 غرفة، و30 أخرى في الأدوار العلوية، وكل جناح يتبعه ملحق واسع وطويل كديوان منعزل لاستقبال الضيوف والانتظار أو لإقامة الولائم والمؤتمرات ونقاش مختلف القضايا التي كان يضطلع بها الأمير، فيما تتوزع مجموعة غرف أخرى استخدمت مطابخ ومساكن للحراس والخدام، وغيرها.
بحسب المناخ
تقع غرف الأمير في الأركان الشرقية العلوية للقصر، وتتميز بزينتها ونقوش الجص التي تملأ السقوف ونواصي الغرف، كما تتميز بكون أماكنها وتصميم بنائها يتناسب والمناخ السائد في المنطقة، كما يتناسب موقع كل غرفة مع كل فصل من فصول السنة.
تتقدم الغرف استراحات شاسعة في الهواء الطلق، وهي الغرف التي يقطنها الأمير خلال فصل الصيف تطل على بساتين غناء زرع فيها النخيل والبرتقال والرمان.
يستخدم سطح القصر الشاسع كاستراحات يقيم فيها الأمير مسامراته مع ضيوفه البريطانيين أو أمراء المشيخات الأخرى. وأكد عدد من سكان منطقة "النقوب"، أن المروحيات البريطانية كانت تهبط في سطح القصر الواسع، لتزويده بالمؤن والاحتياجات المعتادة أو خلال زيارات المندوب البريطاني وأعوانه، إضافة إلى تنقلات الأمير الهبيلي من بيحان إلى عدن.
إهمال وتنكر
يؤكد أبناء المنطقة أن حكومة الاستقلال الوطني (استقل الجنوب اليمني في عام 1967 بخروج آخر جندي بريطاني من عدن) بعد مغادرة الهبيلي إلى مدينة الطائف التي أقام فيها حتى توفي عام 1985 اعتنت بالقصر وألحقته بوزارة الدفاع لتعنى بصيانته الدورية وتأثيثه وحولته إلى سكن داخلي لأبناء الفلاحين الفقراء القادمين لطلب العلم من مختلف مناطق اليمن، وظل تحت إشراف حكومة اليمن الديمقراطية حتى عام 1994 بعد الحرب الأهلية التي انتهت بسيطرة القوات الموالية للرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح على المحافظات الجنوبية، وهو التاريخ الذي شهد تعرض القصر، لأعمال السلب والنهب والتدمير وأضحى خاوياً مهملاً حتى اليوم، بحجة أنه كان سكناً داخلياً لطلاب "مدرسة الشعلة" التابعة لجمهورية اليمن الديمقراطية ذات المرجعية الاشتراكية، وهي الحجة التي ساقها أنصار نظام صالح ذوو المرجعية القبلية الدينية المتطرفة، لنهب القصر وطمس معالمه حتى بات اليوم مهجوراً تذكر به الأطلال الباقية بعظمته.
عن دور السلطة المحلية في شبوة يوضح شماخ أن ملكية القصر تحولت إلى ورثة الشريف الهبيلي الذين لم يبادروا باتخاذ خطوات نحو ترميمه والاستفادة منه باعتباره معلماً ورمزاً معمارياً فريداً.