في مسرحية "المتزوجون" التي عُرضت على خشبة المسرح في سبعينيات القرن الماضي، وأعيد عرضها مراراً على شاشة التليفزيون، تظهر صورة فوتوغرافية لرجل مسن معلقة على الجدار في خلفية المسرح. صورة الرجل تبدو مميزة، بل ربما تكون هي أكثر عناصر الديكور المسرحي لهذا العمل الشهير التصاقاً بالذاكرة. فبين عناصر الديكور المستخدمة في المسرحية تبدو هذه الصورة أكثر لفتاً للانتباه. ربما يتعلق الأمر هنا بطبيعة الصورة نفسها أو فرادتها، لكونها تصور وجهاً له ملامح استثنائية. في هذه الصورة ربما تم استبدال الخلفية أو تلوينها يدوياً، أو التلاعب في بعض تفاصيلها على نحو يسلط الضوء على الملامح المميزة للرجل. نجحت الصورة بالفعل في التسلل إلى الذاكرة البصرية لكل من شاهدها، لتتحول مع الوقت إلى ما يشبه الأيقونة. تستدعي هذه الصورة وغيرها من الصور المطبوعة في الذاكرة الأحاسيس والمشاعر والخبرات المرتبطة برؤيتها الأولى، فلا يتوقف تأثيرها عند حدود زمن الرؤية، بل قد يتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وقد تتداخل على نحو غير مباشر مع خبرات أو مشاعر أخرى من دون أن ندري، على نحو أشبه بالارتباط الشرطي في علم النفس.
إن قُدر لك المرور عبر شوارع حي غاردن سيتي في القاهرة، ربما يفاجئك الوجه نفسه معلقاً أسفل إحدى البنايات. في هذا المبنى توجد مؤسسة "مدرار" للفنون المعاصرة، التي اتخذت من صورة الرجل المسن في مسرحية سمير غانم علامة لها. فمن لا يعرف المقر جيداً عليه أن يسأل عن المبنى المعلقة عليه صورة "جدو حولان"، وهو الاسم الذي أطلقه سمير غانم على صاحب الصورة في مسرحيته الشهيرة التي شاركه فيه رفيق دربه جورج سيدهم. ومن هنا يبدو التعامل مع الصورة كمعلم بارز للمكان، كأنه اعتراف ضمني بالحضور الطاغي لتلك الصورة في الذاكرة الجمعية. فمن لا يعرف صورة هذا الرجل المسن ذي الملامح المميزة؟!
الصورة الفنية
الصورة المعلقة على المبنى كان قد استنسخها الفنان أحمد صبري ورسمها ليقدمها إلى مؤسسة "مدرار" للفنون كهدية عند افتتاح مقرها الجديد قبل عشر سنوات تقريباً، غير أن القائمين على المؤسسة الفنية رأو أن وضع الصورة على الواجهة قد يكون أكثر تأثيراً من الاحتفاظ بها أو عرضها في الداخل. وهكذا تحولت الصورة إلى علامة دالة على مقر إحدى أبرز مؤسسات الفن المعاصر في القاهرة.
ينتمي هذا الوجه بلا شك إلى سمير غانم، فقد نال قدراً ولو ضئيلاً من تعليقاته المرحة خلال العرض المسرحي، ونتذكره حتماً حين نراه. ولكن يبدو أن علاقة سمير غانم بالفن المعاصرلا تتوقف عند هذا الحد، فهناك من يرون أن له علاقة أيضاً بتطور فنون الفيديو على الصعيد المحلي في مصر. وكان الفنان المصري أحمد شوقي قد أشار إلى هذا الأمر في كتابه "متحف الفيديو" اعتماداً على حوار له مع الفنان وصانع الأفلام المصري شريف العظمة.
في هذا الحوار الذي ضمنه شوقي في كتابه، تم التطرق إلى أمثلة تليفزيونية أثرت كما يقول العظمة، على نحو غير مباشر في تطور فن الفيديو في مصر. بين أبرز هذه الأمثلة يأتي ذكر أحد البرامج الترفيهية الشهيرة التي عُرضت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وهي "فوازير فطوطة" التي ظهر فيها سمير غانم في هيئة قزم يرتدي بذلة خضراء وحذاءً أصفر كبيراً. مبعث التميز والفرادة التي يمثلها هذا البرنامج الترفيهي هنا ليس حبكة الخدعة أو طبيعتها كما يقول الكاتب، فالتقنية المستخدمة في هذه الخدعة والمعروفة بـ "الكروما" قد استخدمت كما، "بطرق أكثر بدائية في صناعة السينما خلال النصف الأول من القرن المنصرم، بهدف إيجاد حلول أكثر منطقية لمشكلة ظهور الشبيه أو الأخ التوأم.
السياق السينمائي
كان الاختلاف بين هذه النماذج وفوازير فطوطة، كما يقول مؤلف الكتاب، هو اعتياد فهم المشاهد للسياق السينمائي كطقس يحمل طابعاً سحرياً وخيالياً، على عكس التليفزيون، الذي طالما تم التعامل معه على نحو أقرب إلى الرسميات الاجتماعية. وكان هذا البرنامج الذي قدمه سمير غانم من أوائل البرامج الترفيهية التي أسهمت في كسر هذه الصورة الرصينة نوعاً ما، أشبه بعملية تمهيد لعقل المشاهد، أدت لتقبله أعمال الفيديو في ما بعد، بخاصة أن التليفزيون يمثل وسيلة أكثر انتشاراً ومرونة من السينما.
ومن هنا قد يكون سمير غانم مسهماً في التمهيد لتقبل الجمهور لهذا الفن الجديد من دون أن يدري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عطفاً على هذه العلاقة غير المباشرة التي تجمع سمير غانم بالفن المعاصر، ثمة جانب آخر مُتعلق بالصورة البصرية التي حرص دوماً على رسمها لنفسه، والتي يؤكدها باختياراته اللافتة للعناصر التي كان يُشكل بها الشخصية المؤداة، من إكسسوارات وأدوات، سواء على المسرح أو السينما أو حتى في أعماله التليفزيونية. نظرة فاحصة مثلاً إلى نوعية الملابس التي كان يرتديها سمير غانم في أعماله كافية كي ندرك مدى اهتمامه برسم الملامح البصرية لهذه الشخصية أو تلك. فقد كان حريصاً دائماً على رسم صورة متفردة لهيئته طوال الوقت، صورة تتماشى مع شعره المستعار والشارب الكثيف الذي عُرف به ونظارته الطبية المُميزة. ولعل هذا الاهتمام اللافت بالشكل الخارجي يعكس وعياً لديه بطبيعة دوره ككوميديان يتمتع بسرعة البديهة، وإدراكه لنمط الكوميديا التي يقدمها، والتي كانت أقرب ما يكون إلى الهزل. كان سمير غانم أشبه بالمُهرج الذي لا هدف له سوى الإضحاك، ولن نكون مُبالغين إذا قلنا أنه كان أكبر مهرج في تاريخ التمثيل المصري. كان سمير غانم مدركاً لطبيعة وحدود دوره، فكان يفعل ذلك من دون ادعاء أو تكلف، أو حتى رغبة في احتلال دور ليس له، وكانت إطلالته كافية حقاً لإثارة البهجة وانتزاع الضحكة من القلب.