في الثالث من أبريل (نيسان) 2001، كان الفنان والمعارض الصيني آي ويوي في "مطار بكين الدولي" يخضع مثل غيره للتدابير الأمنية والجمركية المعتادة، حين أوقفه عناصر من الشرطة السرية يرتدون ثياباً مدنية. قال أولئك العناصر له إنهم يودون الحديث معه ولا شيء آخر، غير أنهم اصطحبوه إلى "فان" متوقف خارج المطار، وحجبوا رأسه بغطاء أسود وقادوه في رحلة مظلمة لساعتين، إلى موقع مجهول.
وحين أفرج عنه كان الفنان قد نقل إلى مركز احتجاز، ولم يكن لديه أي فكرة عن مدى الوقت الذي سيقضيه فيه، "قالوا لي إنني سأتلقى حكماً بالسجن لأكثر من 10 أعوام"، ذكر الرجل الذي كان عمله الفني المؤلف من 100 مليون قطعة خزف، مرسوم عليها يدوياً بذور دوار الشمس، يملأ "قاعة التوربينات"Turbine Hall في متحف الـ "تايت مودرن" البريطاني، وقد بدت تلك القطع الخزفية متطابقة، إلا أن كل قطعة منها كانت في الحقيقة متمايزة تماماً. ويذكر الفنان كيف راح المحققون يشددون على تهديدهم العنيف له. فيقول، "حينها كان ابني لم يبلغ السنتين بعد، فذكروا أنهم حين يفرجون عني سيكون الفتى في الـ 13 من العمر. وقال لي عناصر الشرطة السرية من دون مواربة، "لن يتمكن ابنك أبداً من التعرف عليك"، وذاك أمر أثر بي كثيراً".
الواقعة المذكورة لم تكن سوى الواقعة الأحدث من سلسلة مضايقات ممتدة تعرض لها آي بعد إغضابه الحكومة الصينية جراء جمعه ونشره أسماء 5219 ولداً قتلوا حين انهارت مباني مدارسهم الواهية والهشة، بفعل زلزال سيشوان سنة 2008. وآي في العادة لا يتهاون في انتقاد السلطات الصينية، الأمر الذي له عواقب وخيمة، وقد قام رجال الشرطة السرية سنة 2009 بضربه بعنف شديد على رأسه، ما سبب له نزيفاً في الدماغ.
وفي نهاية المطاف قضى آي 81 يوماً وليلة في زنزانة معزولة يبلغ حجمها 12 بـ 24 قدماً، وذاك مقياس قدره عن طريق عدّ بلاطات الأرض، وتمثل هدف احتجازه آنذاك بمحاولة سحق إرادته وروحه المتمردة، تلك الروح التي وسمت تجربته الفنية الجريئة على مدى 35 عاماً، بيد أن المحاولة المذكورة لم تنجح، إذ إن لـ آي بنية جسمانية تحاكي بنية الملاكمين، وله روحية محارب، فبدل أن ينهار ويتداعى أمام سلطة الدولة، وضع نصب عينيه هدفاً هو التفكر بعلاقته مع ابنه الصغير ومع والده، آي كينغ، الشاعر المعروف، الذي جرت إدانته حين صعد الزعيم ماو إلى السلطة عام 1957.
وعن ذاك يشرح، "قلت لنفسي، علي أن أدون ما حصل معي ومع والدي، لكي يعرف ابني القصة. ولم أدرك سوى حين احتجازي وجود كثير من الأشياء التي لم أكن أعرفها عن والدي. الأمر غالباً هو هكذا بين الأهل والأبناء. يظن المرء أنه يعرف كل شيء عنهم، لكن هذا خطأ في الحقيقة. فأنت لا تقوم أبداً بالتحقيق وطرح الأسئلة على نحو مباشر. لذا غدا الأمر مصدر ألم في حياتي، إذ لن يكون بوسعي تعويضه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والفنان لم يشأ نقل هذا الندم لابنه، فيقول عن هذا الأمر، "لهذا بدأت في كتابة مذكراتي، كي أخبر ابني بصدق ما حصل في الحقيقة"، ويتابع، "أعتقد أنني نجحت. تتطلب الأمر 10 أعوام. لقد عملت بجهد كبير. إنه أطول مشروع قمت به في حياتي، لكني أردت تنفيذه على أتم وجه. لم أشأ تنفيذه بطريقة جيدة وحسب، بل أيضاً على النحو الصحيح".
في وقت لاحق من هذا العام سيقوم آي، البالغ اليوم الـ 63 من عمره، بنشر تلك المذكرات التي استلزمها وقت طويل للاختمار، المذكرات ستحمل عنوان "ألف عام من الأفراح والأتراح 1000 Years of Joys and Sorrows " وتقدم نظرات متعمقة في مسيرته الفنية والنضالية من خلال الإطار العام للتاريخ الصيني في القرن الأخير، وقد تحدث آي معي عبر اتصال فيديو من مكان إقامته الجديد في البرتغال، في فيلا قائمة بمنطقة ريفية شرق لشبونة، حيث يعيش مع قططه الثلاث "شادو" و"هالف" و"يلو"، كما يربي الفنان أيضاً طيوراً نادرة كان بوسعي سماع زقزقاتها كخلفية موسيقية لحديثنا.
وكان آي غادر الصين طالباً اللجوء السياسي حين أعادت له السلطات (الصينية) جواز سفره سنة 2015، فافتتح محترفاً جديداً في معمل بيرة سابق بمدينة برلين، وعاش الفنان لفترة في كامبريدج، حيث يتلقى ابنه بـ "كينغز كوليدج" ما يصفه آي بـ "ثقافة إنجليزية جيدة"، بيد أن ويوي لم يلبث أن اكتشف عدم ملاءمة الحياة هناك (في كامبريدج) بالنسبة له، إذ إن "كامبريدج هي حرم جامعي، وأنا حساس جداً ضد الحرم الجامعي"، يذكر، ثم يردف، "لا يهمني أي شيء يحصل في تلك الأجواء الجامعية، لذا كان عليّ أن أجد مكاناً أقضي فيه ما تبقى من عمري! وبالصدفة أتيت إلى البرتغال. وأنا شخص سريع في اتخاذ القرارات. أحب نور الشمس. كما أحب طراوة هذه الثقافة. الناس طيبون، والطعام جيد والبيئة جميلة. فقررت الإقامة هنا. أحب هذا المكان" يقول آي ذلك، ويومئ بكتفيه في حركة توحي بالرضا.
وحين افترضت أن قراره بمغادرة بريطانيا ربما تعلق بواحدة من إخفاقات بوريس جونسون في مواجهة جائحة كورونا، ضحك آي، وقال، "لا أعير اهتماماً كبيراً بتلك الشخصيات السياسية. وقد لاحظت إلى حد ما أن هناك شخصية سياسية واحدة، هي شخصية الذي على رأس السلطة. والأخير إذ يخرج من السلطة، يختفي. حين يكون الأشخاص في السلطة يكون لهم نمط الشخصية ذاته تقريباً. ومن الصعب جداً أن نجد في شخصية من هو في السلطة، ما يثير الاهتمام وما يوحي بالطرافة والذكاء والطموح والإقناع. إذن أجل، لم أعره (جونسون) اهتماماً يذكر".
وحياة آي الشاعرية الجديدة في الريف البرتغالي تختلف كثيراً عن الأجواء التي نشأ فيها، ففي عام 1958، حين كان عمره سنة واحدة، فرض على عائلته العيش في معسكر للعمل في هايلونغجيانغ، بعدها جرى نفيهم إلى شينجيانغ البعيدة، وعاشوا هناك طوال 16 سنة، وقضى آي السنوات الأولى من عمر مراهقته في صحراء غوبي، حيث عايش وشاهد كيف أجبر والده المثقف على العمل هو ومجموعة من الأشخاص في تنظيف أقنية المجارير. وذاك كان من الصعب ألا يسيس الفتى، كما أنه موضوع ما زال يضطرم في نفسه، وخلال حديثنا يضع آي هاتفه أمام الشاشة كي يريني الصورة التي اختارها خلفية لهاتفه، صورة بالأسود والأبيض للمكان الذي فرض على عائلته العيش فيه، ويشرح لي قائلاً، "هل ترى المساحة السوداء؟ بين الـ 10 والـ 15 من عمري عشت في هذه الحفرة، لقد فرض علينا العيش تحت الأرض، كعقاب لنا. وقبل أن نقيم هناك كان علينا أن نصنع الحفرة. جدراننا على الدوام كانت تنفث غباراً، لذا كان علينا دائماً البحث عن جرائد كي نلصقها بتلك الجدران".
وفي سنة 1976 سمح لعائلة آي، أخيراً، بالعودة إلى بيكين، وبعد خمسة أعوام، إذ بلغ الشاب سنّ الـ 23، غادر الصين لأول مرة منتقلاً إلى نيويورك، حيث درس الفن في مدرسة بارسونس للتصميم، وهو سرعان ما وقع في غرام حيوية الـ "إيست فيليج"، حتى أنه وجد شخصية الأب الروحي (أو الأب البديل) في شاعر "جيل البيت" beat generation آلن غينسبيرغ، وعن هذا يذكر آي، "كان قد مضى زمن طويل على رؤيتي والدي لآخر مرة، لأنني لم أعد إلى الصين أبداً عندما أقمت في الولايات المتحدة"، أردف، "وآلن (غينسبيرغ) في الحقيقة التقى والدي عندما سافر إلى الصين. حين عاد من هناك أقام أمسية شعرية في كنيسة سانت مارك، وهكذا التقيته. كانت تربطنا علاقة وطيدة. أعتقد أنه ينتمي إلى التقليد الكتابي الذي ينتمي إليه والدي، لكن الأخير في ذلك الوقت لم يحظ بذاك النوع من الحرية".
وكان آي طالباً ذكياً، بيد أنه أيضاً كان مشاكساً، خصوصاً من ناحية مسارعته في تطوير موقف مناوئ للأنماط الفنية الأكثر تقليدية، ويذكر الفنان في هذا الصدد، "تخليت عن الرسم عندما كنت في نيويورك"، يردف، "لم أتمكن من الاعتياد على تأطير القماش على البراويز الخشبية، وهو الأمر الذي يرتبط بالرسم الزيتي. كما أنني لم أحب رائحة (مادة) الزيت. أنا ماهر في الرسم، لكنني لا أود ممارسته".
أعمال ويوي الأولى كانت في البداية تجهيزات أو قطع نحتية، وغالباً ما مثلت حسه الفكاهي الساخر والمستفز، قطعته التي حملت عنوان "جنس آمن" Safe Sex التي قدمها في معرضه المنفرد الأول، صنعها كرد فعل على الموجة الأولى من أزمة مرض الإيدز، وقد تألفت تلك القطعة من معطف رجل إطفاء وواق ذكري بارز منها، في الموضع الصحيح من الناحية التشريحية (للجسم)، لكن لاحقاً، مع بداية ذيوع شهرته، وإذ صار يدعى لإقامة معارض في المتاحف، انتبه آي إلى أنه من دون الرسم ستبقى معارضه مقفرة الجدران، وعن هذا يوضح، "فكرت في الأمر (وقلت لنفسي): يا للخسارة! وهكذا قررت التفكير بشيء يعرض عليها (على الجدران)"، وما لبثت أفكاره أن ذهبت نحو الجرائد التي كانت عائلته تلصقها على جدران بيتهم، فاندفع إلى فكرة استخدام مادة (أو واسطة) غدت من حينها عنصراً أساسياً في معارضه: ورق الجدران، وجاءت "الأوديسة" Odyssey لتمثل تصميمه الأحدث في سياق المادة المذكورة (ورق الجدران)، وقد شكلت عملاً يتناول فيه أزمة اللاجئين في العالم بأسلوب "الإفريز" frieze الإغريقي – الروماني. ويذكر الفنان أن "ورق الجدران، بطبيعة الحال، له تاريخ طويل جداً في تغطية الجدران، عادة بهدف التزيين، إلا أنه أيضاً يعكس المكانة (الاجتماعية) والذوق والثقافة"، يردف، "أحب ابتكار ورق الجدران لأنه يقوم، على الفور، بتبديل البيئة والأجواء".
في أبريل 1993، تبلغ ويوي أن والده مريض، فعاد مسرعاً إلى بيكين (توفي والده بعد ثلاثة أعوام من ذلك، سنة 1996)، وقد تابع الفنان عمله (هناك، في بيكين) لكنه لم يتمكن من الحصول على إذن رسمي كي يقيم معرضاً، فقام سنة 1994، هو والفنانان زو بينغ وزينغ جياوجون، اللذان يعرفهما من نيويورك، بنشر الكتاب المتمرد والمشاكس الذي حمل عنوان "كتاب الغلاف الأسود" Black Cover Book. وضم الكتاب المذكور مجموعة من الأعمال الفنية والكتابات التي لم يسبق للسلطات الصينية أن منحت ترخيصاً لمواد تحاكيها، وقام الفنانون الثلاثة ببيع نسخ من ذلك الكتاب، بصورة غير مشروعة، أمام صالات المعارض الفنية في بيكين، مثل عملاء بيع المخدرات.
وانطلاقاً من هذا، مثلت الكتب محاولة من قبل آي لتحفيز قيام توجه فني مستقل في الصين، حين كانت سمعته الثورية تنتشر بسرعة، ثم أنه في عام 1995، عاد وأثار جدلاً إضافياً على إثر عمله المعنون "إسقاط جرة سلالة هان (الملكية الصينية)" Dropping a Han Dynasty Urn. العمل المذكور يشكل لوحة فوتوغرافية ثلاثية تصور الفنان محطماً إناء احتفالياً عمره 2000 سنة، وذلك في إشارة ساخرة إلى جملة ماو التقريرية القائلة، "إن الطريقة الوحيدة لبناء عالم جديد، هي تدمير العالم القديم". وكذلك قام آي في عام 2003، وعلى نحو بارز، بالتعاون مع مكتب العمارة السويسري الشهير "هيرتزوغ & دو ميرون Herzog & de Meuron" في تصميم "ملعب بيكين الوطني" الذي عرف على نطاق واسع باسم "عش الطائر"، والمشيد لاستضافة الألعاب الأولمبية سنة 2008. لكن، قبل افتتاح ذلك الملعب، قام آي بالتبرؤ من عمله معتبراً الألعاب الأولمبية في ذلك الوقت "ابتسامة زائفة" هدفها التغطية على المشكلات الكثيرة التي تعاني منها الصين. وحين أسأله إن كان يشعر على الأقل ببعض الرضا، كونه ابتكر عملاً فنياً وصروحاً على هذا القدر من الأهمية لدرجة أن السلطات الصينية نفسها عجزت عن طمسه، يجيب بأن المسألة ليست بهذه السهولة، ويردف، "أعتقد أنه من السذاجة بالنسبة للفنانين، أو المعماريين، أن يكون لديهم ذاك النوع من الوهم تجاه عملهم. إذ في النهاية هذه الأعمال تبقى تحت سيطرة أصحاب السلطة والنفوذ. والأخيرون قد يكونون الدولة، أو الكنيسة، أو شركة كبرى. إذاً، نعم، هذا عمل عظيم، لكنه لا يؤدي وظيفته بالطريقة التي يمكننا أن نحتفي بها".
وآي، حتى الآن، بعد ست سنوات من عيشه في المنفى، يرى أنه غير قادر على الهرب من مخالب النفوذ الصيني، إذ إن فيلمه الوثائقي الحديث المعنون "كورونايشن" Coronation، الذي صوره بالسر في مدينة ووهان أصدقاؤه وشركاؤه، يقدم صورة مروعة لرد الفعل العسكري الذي تعاملت به السلطات الصينية مع جائحة كورونا، فيقول إن فيلمه هذا جرى استبعاده من قبل المهرجانات السينمائية وموزعي الأفلام، الذين يخشون استعداء السلطات الصينية، عن هذا الأمر يذكر آي "الذين يختارون الأفلام في مهرجانات البندقية ونيويورك وهونغ كونغ، وموزعو الأفلام على الإنترنت، مثل أمازون ونتفليكس، جميعهم قالوا لي إنهم أحبوا الفيلم، وإنه لا يمكنهم تصديق إمكانية صنع فيلم كهذا. بيد أن جميعهم رفضوا عرضه. لماذا يتوصلون إلى هكذا قرار؟ لأنهم بحاجة لإجراء حسابات تتعلق بما سيخسرونه إذا قبلوا بالفيلم. فالصين غدت السوق الدولية الأولى للأفلام، متخطية الولايات المتحدة الأميركية. كما أن هوليوود تقوم بتبديل توجهاتها وحتى قصصها من أجل هذه السوق. إننا نعيش في عالم تجاري بالكامل. ولا يمكن تخيل أن مسألتي حقوق الإنسان وحرية التعبير لا تزالان تحلان في مكانة أثيرة وقيمة بالنسبة للإنسانية. وكل منهما صار ورقة مساومة. هذه هي الحقائق، يقول آي، وعلي القبول بها، وأنا سعيد بهذا، فقط لأن الأمر يعني أن عملي وجيه جداً وقيم". يقول ويوي قوله هذا مظهراً ابتسامة ساخرة.
غير أن الحقيقة، يمكن القول أيضاً، تشير إلى أن المحاولات الصينية العديدة لإسكات هذا الفنان لم تسهم إلا في إعلاء صوته، فهو قام بإطلاق فيلمه "كورونايشن" بنفسه على الإنترنت، فيما تتهافت غاليريهات الفن حول العالم على عرض أعماله، في هذا الإطار يأتي معرضه "أثر" Trace الذي يفتتح اليوم في لوس أنجليس، بـ "مركز سكيربول الثقافي"، ليقدم عمله التجهيزي المؤلف من ورق جدران تحت عنوان "الحيوان الذي يبدو مثل لاما لكنه في الحقيقة ألباكا" The Animal That Looks Like a Llama but Is Really an Alpaca. وقد تشكلت نقشات ورق الجدران في العمل المذكور من صور أيقونات المراقبة، الأغلال وكاميرات المراقبة، إلى جانب صور صغيرة لحيوان الألباكا (حيوان أميركي جنوبي يشبه الجمل واللاما)، الذي يمثل تعويذة ورمزاً لحرية التعبير في ثقافة الإنترنت الصينية.
وكذلك يضم هذا العمل صوراً متكررة لعصفور "لوغو" (رمز) "تويتر". وآي كان على مدى وقت طويل قد دافع وناصر منصات التواصل الاجتماعي لقدرتها على منح الصوت لمن لا صوت لهم، لكن حين سألته تقييم هذا الموقف على ضوء ما ينتشر في تلك المنصات راهناً من موجات تضليل ومعلومات خطأ، وذلك من دون ذكر جيوش الذباب الإلكتروني التي تتحكم بها حكومات مثل الحكومتين الصينية والروسية، فقد كشف أن حماسته لهذه المنصات قد خبت، وعن ذلك يقول بحزن وخيبة، "من المرجح أن يكون تنظيفها (تنظيف منصات التواصل الاجتماعي) أمراً مستحيلاً، فهي أشبه بنسخة عن الواقع، والأخير في حال فوضى عارمة، ومنصات التواصل الاجتماعي هي مرآة ذلك، وأنا في الفترة الأولى كنت امتدحتها كثيراً، إذ اعتقدت أنها قد تكون أرضاً خصبة لحرية التعبير، ويمكنها مساعدتنا في حماية الحقوق المدنية بصورة أفضل. لكن هذا ليس صحيحاً، لأن المنصات تملكها شركات كبيرة. والأخيرة ستسمح بما تراه مناسباً، وتحجب ما لا تراه مناسباً".
العمل الرئيس في معرض "أثر" يأتي على شكل سلسلة من بورتريهات كبيرة لسجناء رأي من جميع أنحاء العالم، وقد قدمت تلك الصور عبر واسطة (أو مادة) غير اعتيادية جعلها آي مرتبطة به: قطع الليغو. وهو حين يتحدث عن صنع أعمال فنية بواسطة القطع المذكورة، تلتمع عيناه. فيقول بحماسة واندفاع "الليغو يمثل لغة ثانية. إنه ليس رسماً، ولا نحتاً، ولا تجهيزاً. وهو يبدو كما لو أن له بعدين، لكنه في الحقيقة بثلاثة أبعاد".
وكان آي توصل إلى فكرة استخدام الليغو في أعماله الفنية حين كان تحت الإقامة الجبرية في الصين، سنة 2014. إذ كان قد سعى لابتكار طريقة لخلق أعمال فنية يمكن إعادة إنتاجها بسهولة من قبل متعاونين في بلدان عبر البحار. ويذكر في هذا الصدد، "لقد منحني الليغو فرصة لتقديم تصميم واضح يمكن أن يتبعه القائم ببناء العمل"، يردف، "إنه (الليغو) دقيق من الناحية الرقمية، لذا هو لا يختلف عما يسمى "الأصل"، الليغو يدمر فكرة "الأصل" هذه، وذاك أمر أحبه. إذ إنني على الدوام أحب الأعمال الفنية التي لا تتطلب صنعاً من قبل الفنانين، الفكرة وحدها تأتي من الفنان، وكلما كانت طريقة صنع العمل سهلة، كان العمل أفضل، أعتقد أن أعمال الليغو لا تختلف عن لوحة رامبرانت أو فان خوخ، ولو أن الفنانين المذكورين على قيد الحياة اليوم، لأحبا اللعب بقطع الليغو".
واليوم بعد حياة قضاها في مواجهة قمع الدولة، يبقى آي لعوباً ومتفائلاً أزلياً في عالم لا ينفك عن محاولة تحويل تفاؤله إلى تشاؤم، أسأله من أين يستمد هذا الأمل، فترتسم ابتسامة على شفتيه، "الأمر سهل" يقول. ويردف، "لا أعتقد أن العالم مكاناً كريهاً. إنه فقط عالم فاسد. إنه عالم فاسد الروح تماماً، والحياة قصيرة. ويمكنك أن تفسد إلى أن تموت. ما من مشكلة في ذلك".
وأنا ينتابني شعور بأن الاستفزازي الكبير هذا، يمارس اليوم قدرته الاستفزازية من جديد، هل يمكنه أن يتصور العالم من دون هذا الفساد؟ أسأله. وآي، المستعد دائماً لمعركته المقبلة، يجيب، "العالم الإنساني؟ لا يمكنني أن أفكر وفق هذا المنحى، لكن على الدوام ثمة مقاتلون ومدافعون وجنود، وإن كنت مقاتلاً، عليك ألا تخاف من الإصابة بجرح في وجهك، أو من تكبد الأذى والتلف، لأن طبيعة القتال، كما تعرف، هي على هذا النحو".
معرض "أثر" Trace لـ آي ويوي يقام في "مركز سكيربول الثقافي" في لوس أنجليس من 15 مايو (أيار) حتى الأول من أغسطس (آب). وستنشر مذكرات الفنان بعنوان "ألف عام من الأفراح والأتراح" 1000 Years of Joys and Sorrows في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.
© The Independent