أين توجد السينما المغربية الآن قياساً مع شقيقاتها العربيات؟ هل تحتل موقعاً متقدماً على مستوى النوع والقيمة؟ ماذا أيضاً عن حضور الممثلين المغاربة في السينما العالمية؟ هل الجرأة في الحوار والقضايا هي السمة الأولى للسينما المغربية؟ ما الإكراهات والعراقيل التي تقف في طريقها؟ هل ينصفها الإعلام العربي؟ هل يواكبها النقد؟ ولماذا ترتبط انتعاشة الدراما بشهر رمضان؟ وما قيمة الإنتاج التلفزيوني المغربي وسط الإنتاجات العربية؟
إن أسئلة السينما المغربية اليوم كثيرة ومتشعبة. ثمة بعض العتمة في طريقها، لكن ثمة بالمقابل الكثير من الضوء. توجهنا بهذه الأسئلة وغيرها لواحد من أكثر الممثلين المغاربة حضوراً اليوم، وأغزرهم مشاركةً، وأكثرهم ثقافةً. فالمعروف عن محمد الشوبي جنوحه الكبير إلى الأدب والثقافة واهتمامه الدائم بالكتاب والمعرفة، سواء المرتبطة بمجال اشتغاله، أو بالثقافة العامة. المعروف عنه أيضاً إثارته للنقاش في قضايا الشأن العام في المغرب، وهو نقاش جلب عليه أحياناً بعض المتاعب، وخلق له في فضاءات التواصل معارضين ومؤيدين، غير أن حضور محمد الشوبي في الحياة الفنية المغربية حضور لافت، سواء عبر تاريخه المسرحي أو عبر ظهوره الغزير في السينما والدراما.
منذ أواخر السبعينيات والشوبي يقف على خشبات المسارح وأمام الكاميرات برفقة كبار المخرجين المغاربة، وشارك في عشرات الأعمال السينمائية والدرامية الوطنية، كما شارك في أفلام دولية لسيرج مواتي ودانيال جيرفي وطوني سكوت. وله حضور غزير في المسلسلات المغربية، فضلاً عن مشاركاته في مسلسلات عربية مثل "ربيع قرطبة" و"صقر قريش" و"ملوك الطوائف".
وبالإضافة إلى التمثيل مارس الشوبي الإخراج المسرحي، وأصدر كتباً في الأدب من بينها الكتاب القصصي "ملحمة الليل" والمجموعة الشعرية "وطن على حافة الرحيل".
سألناه عن موقع السينما المغربية على المستوى العربي، فأوضح أن الإنتاج المغربي أصبح قادراً على المنافسة مع إنتاجات عربية أخرى، منذ أن اتبع المركز السينمائي سياسة دعم الكم الإنتاجي في المغرب. وبطبيعة الحال انفتحت السينما في المغرب – حسب الشوبي - على تجارب الشباب مما غذاها بإبداعات جديدة نوعية، ومكن الجمهور المغربي من التصالح مع صورته وسينماه التي كان عازفاً عنها قبل التسعينيات من القرن الماضي.
ويضيف الشوبي: "لعل أفلام فوزي بن السعيدي ونور الدين لخماري وكمال كمال ومحمد مفتكر ونرجس النجار، ومن التحق بهم من متخرجي العهد السابق، هم بإبداعاتهم النوعية أعطوا الدفعة أو الشحنة الإبداعية نفساً آخر، وأصبحت السينما المصرية تأكل أصابعها أمام الفيلم المغربي في كل المهرجانات".
وعن مميزات السينما المغربية اليوم يقول الشوبي: "لعل ما ميزها هو مناخ حرية الإبداع الذي سبق المغرب فيها مجموعة من الدول العربية، وتفوق في أن يبقى صوت الإبداع حراً، إضافة إلى أن هذه السينما استطاعت أن تساهم في الحراك الاجتماعي والسياسي، من خلال أفلام طرحت بقوة قضايا المرأة والاعتقال السياسي والطفولة وغيرها من المواضيع التي كانت تابوهات في زمن الرصاص. ولعل أفلام حسن بن جلون وسعد الشرايبي وإدريس اشويكة وداوود أولاد السيد وحكيم النوري، لولا تحول هدا الأخير إلى الكوميديا المبتذلة، لعل كل هؤلاء خير دليل على المناخ الإبداعي الذي رتب المغرب على قائمة الإنتاج السينيمائي النوعي".
في الحاجة إلى صناعة سينمائية
أما عن الإكراهات والعراقيل فهي تبدأ عند الشوبي من القاعات، حيث تعرف البلاد من جهة قلة قاعات العرض، فضلاً عن الإغلاق المتوالي لما تبقى من قاعات: "منتوجنا يشاهد لمدة قصيرة ومحدودة، داخل مدن بعينها معدودة على الأصابع. فلو كانت عندنا قاعات في المدن الصغيرة لكان الفيلم المغربي يدر علينا إيرادات كبيرة. مع الأسف لم نرق إلى إفراز صناعات سينمائية، لأن الدولة لم تعر هذه الصناعة اهتماما، وتجعل منها قطاعاً تابعاً لوزارة التجارة والصناعة، لتشجع المستثمرين المحليين والأجانب على دخول غمار الاستثمار في السينما إنتاجا وقاعات وتوزيعاً وتسويقاً خارج الوطن".
يتأسف الشوبي لأن المبدع المغربي يحمل وحده هم إنتاج فيلم في السنتين أو الثلاث: "لقد برهن السينمائيون على أنهم قادرون على النضال من أجل بقاء هده الفرجة وما زالوا. فأنا أسمي سينمانا إلى الآن السينما المناضلة والشابة طبعاً. على الرغم من أن عمر المركز السينمائي يتجاوز الكهولة، فلم يقع هذا الحراك السينمائي إلا قبل سنوات معدودة، أي منذ أن تنبهت بعض الجهات السياسية إلى أن الصورة قادرة على صنع غد أفضل، على الرغم من أنها التفاتة خجولة تركز على دعم الإنتاج وإقامة المهرجانات".
فتحنا مع الشوبي مشكلة القرصنة وآليات تطوير القطاع، فأكد أن أبرز وسائل النهوض بالسينما هي مواكبة النقد لها، وإنعاش الكتاب السينمائي وإقرار الدرس السينمائي داخل المدارس، وإعادة الحياة لشرايين الجامعة الوطنية للأندية السينمائية: "أنا لا أتفق مع من يختفي وراء القرصنة ليبرر فشل الإنتاج السينيمائي المغربي، فلو أعطيت الفرصة للمنتجين، كي يسوقوا لمنتوجهم داخل القاعات على مستوى ربوع الوطن، وتمكنوا من طبع أفلامهم في أقراص، لما همهم بعد ذلك المقرصنون، لأن دخلهم من الفيلم سيكون ممتازاً ويشجعهم على إنتاجات أخرى، وقد يذهبون إلى حد إنتاج أفلامهم دون حاجة للدعم. الكل يقوم بواجبه في هذا الحقل إلا الدولة، إذ ليست لها الشجاعة السياسية لجعل الفنان أيقونة من أيقونات ازدهارها".
الدراما الرمضانية في المغرب
انتقلنا مع الشوبي من الفن السابع إلى الشاشة الصغيرة، وفتحنا معه موضوع الدراما في رمضان. فغالباً ما يواكب عرض الدراما الرمضانية الكثير من الانتقاد، لكن في الآن ذاته تكون نسب المشاهدة عالية. فتوقف معنا الفنان المغربي عند هذه المفارقة، محاولاً إيجاد تبرير منطقي لها: "علينا أن نعود إلى سيكولوجية المتلقي المغربي، والذي نحرمه طول السنة من الدراما الجديدة ونمكث نداعبه بالإعادات للأعمال السابقة، ما يدفعه للتعطش والانتظار. وفور نزول الدراما المغربية في رمضان ينقض عليها بالانتقاد الهستيري في بعض الحالات، والمتابعة والتتبع النهم للأعمال على العموم. وهذا وضع مرضي يتسبب فيه المسؤولون، لا يمكنني أن أقول بقصديته أو عدمها، لأني خارج المؤسسة المنتجة. وعلماً بأن الإعادات تلاقي استحساناً كبيراً فإن البث في رمضان ينتمي سيكولوجياً لهيستيريا القطيع التي تنمي الوازع الأخلاقي على الوازع الفني، وكل يصبح مغنياً و"مغرداً" على ليلاه".
أردنا أن ندنو من قراءة الشوبي الشخصية للدراما الرمضانية في المغرب قياساً مع مثيلاتها في المشرق العربي. غير أنه أراد أن يعود بالداء إلى أصله: "التقييم الذي أعطيه للدراما المغربية عموماً نابع من مهنية اكتسبتها عبر ثلاثين سنة من الدراسة والاشتغال والالتزام. ويتعلق الأمر بالسياسة الثقافية عموماً، والفنية على وجه الخصوص. فنحن ومنذ خمسين سنة بعد الاستقلال، اعتبرنا الثقافة والفن وإنتاجهما واجهة ترفيهية كمالية، تأتي بعد السياسة التي يأتي بعدها الاقتصاد، وتأتي بعدهما التربية والتعليم، لتدخل الثقافة كجانب مكمل وترفيهي، يرتبط بالتلميذ والأستاذ أكثر مما يرتبط بالفلسفة التعليمية للمؤسسات. لاحظ معي أين هو موقع الثقافة في الجرائد اليومية، وما الموقع الذي يحتله العروي أو الصديقي أو شبعة أو سهيل بن بركة، بل نور الدين الصايل في صفحات الجرائد اليومية الوطنية".
يضيف الفنان المغربي: "إن استراتيجية الدولة بكل روافدها لا ترغب في إعارة الاهتمام للرافد الثقافي كقاطرة للتنمية البشرية أولاً والاقتصادية والسياسية ثانياً، وذلك بخلق صناعات ثقافية متعددة ومتنوعة، صناعة الكتاب ونجومية الكاتب شاعراً أو روائياً أو باحثاً فيلسوفاً، صناعة السينما وخلق نجوم شباك ونجوم تشخيص نعتز بهم داخل وخارج الوطن". يتساءل الشوبي: "أين القاعات السينمائية والمسرحية التي تغطي كل نقطة في مدن هذا الوطن؟ وماذا عن ترويج منتوجات صناعتنا إعلامياً داخل الوطن وخارجه؟".
إن الفشل، حسب الشوبي، بنيوي في عقلية المسؤولين، لأنهم أبناء صناعات ثقافية خارجية منهم من بنته صناعة الشرق، ومنهم من بنته صناعات الغرب. يقول: "هذا ما يميز علينا مصر مثلاً. فعلى الرغم من تقهقرها الاقتصادي والاجتماعي ما زالت رافعة رأسها بما أسست له ثقافياً منذ طلعت حرب واقتصاده الوطني، وكذلك سوريا التي تفوقت في بعض الإنتاجات، وخصوصاً في الدراما المحلية التي استساغها كل العرب".
نمطية صورة الممثل العربي
حين أردت أن أسأل الشوبي عن استشرافه لمستقبل السينما المغربية وجدته متوجساً من هيمنة الجانب الأخلاقي على الجانب الفني في النقاشات العامة خلال الفترة الأخيرة: "السينما المغربية كانت تبحث عن طريقها بجدية، وتتلمس طريقها نحو القفز من مجرد أفلام مغربية إلى مستوى سينما مغربية بمقومات هوياتية ناضجة، لكن للأسف وصول الأصوليين لسدنة السلطة قوض الجدية وبعثر السبل، لتعود التجارب السينمائية إلى مجرد أفلام لأصحابها. وعوض أن نحاسبهم على مستوياتهم الفنية والتجريبية إيجاباً أو سلباً، بدأنا نحاسبهم عن ميزانيات أفلامهم الهزيلة أصلاً، وعن أخلاقهم الشخصية. وهنا اندحرت تجارب الهوية الوطنية المغربية للسينما في المغرب، والتي لمسناها عند مجموعة من المخرجين الرواد والشباب، لتترك الهويات الأخلاقية التي سماها وحوش الفلاة السينمائيين "السينما النظيفة"، والتي خلقت هجانة كوميدية سيتكومية أو أعمالاً تلفزيونية تصلح للفرجة الجماعية، بحكم نظافتها من كل تطرق للتابوهات أو الفن الذي يسائل الكينونة والوجود، معللين تنمرهم (هؤلاء النظفاء) من كون أمهاتهم وجداتهم وأخواتهم وآبائهم يشاهدون الفيلم معهم، لكن النضال ما زال مستمراً بهذه القلة من صناع السينما".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبخصوص مستقبل السينما المغربية، يربط الشوبي الواقع الفني بالأوضاع السياسية للبلد، غير أنه مغمور بالأمل: "يتحتم عليَّ القيام بقراءة نقدية لهذا الوضع، والذي أقر أنه لن يدوم طويلاً، ما دمنا كنا قد اقتربنا من وضع أرجلنا على الطريق، وما دمنا بفضل سياسة المرحوم نور الدين الصايل على رأس المركز السينمائي المغربي، وقبله القناة الثانية المغربية في إنتاج الكم للوصول إلى الكيف. لقد وصلنا لننتج كل سنة 48 تيليفيلماً، و25 فيلماً سينمائياً طويلاً وما يفوق 100 فيلم روائي قصير، وعدداً لا أستحضره من الأفلام الوثائقية".
يظن الشوبي أن حضور الممثل المغربي في الإنتاجات الأجنبية على المغرب يمكنه أن يكون ذا قوة عملياً وعلمياً، بشرط أن نخلق طفرة صناعية تؤسس لاقتصاد فني قوي، يحتم على المنتج الأجنبي أن يحترم خصوصية الفنان المغربي. ويتأسف لغياب وكلاء أعمال فنية كما هو متعارف عليه في الصناعات السينمائية العالمية، ليقترحوا ممثلاً مغربياً يتسم بقوة العطاء والحضور لاقتسام بطولة مسلسل أو فيلم.
يذكرنا الفنان المغربي بأن حضور محمد مفتاح في الدراما العربية كان بمجهود شخصي جداً، "إنه ليس كحضور عمر الشريف أو جميل راتب في السينما العالمية، أو حتى خالد نبوي أو غسان مسعود القادمين من ثقافة صناعية للدراما والسينما. حتى الفنان سعيد التغماوي، والذي يتوفر على وكيل أعمال ممتاز لم يستطع أن يقترحه للعب أدوار خارج نسق العربي الإرهابي أو ابن المهاجر الفرنسي المنحرف، للأسف هذا واقعنا في المشهد السينمائي العالمي"