لا أعتقد أن أي بلد يمكنه أن يتقدم في التأسيس لمواطن جديد منسجم مع الراهن والتاريخي، مع الحاضر والماضي، إذا لم يكن هذا البلد متماهياً في سياسته ورؤيته لنظام الحكم مع تاريخه بكل ثرائه الأنتروبولوجي والسوسيولوجي والديمغرافي والثقافي واللغوي.
التنوع حالة إيجابية، هو كنز حظ تاريخي تنعم به بعض الأمم أو البلدان، لكنه لن يكون هذا التنوع خيراً إلا إذا كان هذا البلد قادراً على احترام حقوق المواطنة وصونها حيث يمارس المواطن حقه في العيش بكل تميز وبكل فخر انتمائي.
إننا نغتال تاريخنا وثقافتنا بالخوف من التنوع، معتقدين وهماً بأن الوحدة هي "الواحدية" وأن التنوع هو "التفكك".
الجزائر بلد التنوع الثقافي واللغوي والجغرافي بامتياز، بلد بحجم قارة، وهو التنوّع الذي يشكل ثروتها الكبيرة في الانفتاح على الماضي من جهة، وهو ما يحصنها من الضياع في متاهات جروح الهوية، وما يجعلها أيضاً تطل بكل ثقة على العالم الجديد بعيون متعددة.
ويمثل جون سيناك "Jean Sénac" الشاعر والروائي والإعلامي والمجاهد سنوات حرب التحرير والمناضل الثقافي والأدبي والسياسي والاجتماعي سنوات الاستقلال النموذج الأمثل الذي يؤكد أن التنوع حالة إيجابية، وهي الحالة الطبيعية، وأن عكسها هو الحالة المرضية غير الطبيعية.
حين نقرأ سيرة جون سيناك ندرك كم غني ومثمر تاريخ الجزائر في بنيته المتنوعة، فلا اللغة وحدها المقياس المحدد للوطنية، فكم من المثقفين المعربين كانوا خونة لصالح الاستعمار الفرنسي، وكم من المثقفين باللغة الفرنسية أو الفرنكفونيين كانوا حملة سلاح وفكر وإبداع ضد الاستعمار الفرنسي، والشاعر جون سيناك واحد من هذه السلالة الثقافية السياسية النظيفة.
لو فتح المجال السياسي والمؤسساتي لمثل هذه الطاقات المناضلة الكبيرة بعد الاستقلال لكانت الجزائر قد أخذت مساراً آخر، ولكانت قد ذهبت بعيداً في التطور الاقتصادي والتعليمي والسياسي والاجتماعي والثقافي، لكن التضييق على كل من هو من أصل أوروبي ولو كان من المجاهدين الأوائل في الثورة، هو ما جعل البلد يسير شيئاً فشيئاً نحو الانغلاق ونحو الانحطاط ونحو الخوف من الآخر.
ولد الشاعر جون سيناك عام 1926 بمدينة بني صاف في القطاع الوهراني بالغرب الجزائري، نحو 500 كيلومتر غرب الجزائر العاصمة، لأم عاملة تنظيف، وأب غجري من أصول إسبانية غير معروف الهوية، هذا الانتماء إلى الطبقة الفقيرة شأنه في ذلك شأن ألبير كامو، سيجعل منه الصوت الثقافي والأدبي للفقراء والمهمشين من الأهالي.
يكتب جون سيناك تعبيراً عن انتمائه المعقد والمتنوع قائلاً، "أنا ابن هذا البلد، ولدت عربياً، إسبانياً، بربرياً، يهودياً، فرنسياً، ولدت ميزابياً..."، (من كتاب مسودة الأب Ebauche du père).
حين توليت إدارة المكتبة الوطنية الجزائرية، وأقمت معرضاً، الأول من نوعه، عام 2004 لوثائقه التي جرى إيداعها المكتبة الوطنية الجزائرية بعد اغتياله، عثرت على مجموعة من الصفحات التي كان يتدرب فيها على تعلم اللغة العربية، وقد بدأ تعلم هذه اللغة من خلال النشيد الوطني "قسماً"، وهو الذي كان يوقع كتاباته باسم "يحيى الوهراني".
يعدّ جون سيناك من كتاب الجيل الأدبي الأول بالفرنسية في الجزائر المستعمَرة، فهو من جيل محمد ديب ومولود معمري ومولود فرعون وكاتب ياسين ومالك حداد وآسيا جبار وبشير حاج علي وجمال عمراني وقدور محمصاجي، هذا الأخير الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة.
كان جون سيناك مثقفاً ملتزماً، أو على تعبير أنطونيو غرامشي مثقفاً عضوياً، ارتبطت كتاباته الشعرية والنثرية والإعلامية المسموعة والمكتوبة بالثورة الجزائرية، وبحق الجزائريين في الاستقلال، التحق بإذاعة الجزائر المستعمَرة في عام 1948 صحافياً ثقافياً وأدبياً، وفي عام 1954 قدم استقالته بعد حصة خصصها للروائي مولود معمري التي استعمل فيها عبارة "الوطن الجزائر"، بعدها انتقل إلى باريس، حيث نشر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان "قصائد"، وقد قدم لها الشاعر الفرنسي الكبير روني شار René Char، ومع اندلاع الثورة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 التحق مباشرة بفيدرالية جبهة التحرير الوطني في باريس ليصبح واحداً من أكبر المثقفين الذين حملوا القضية الجزائرية إلى الأوساط الثقافية والجامعية والإعلامية الفرنسية، ومن خلاله تجنّدت كثير من الأقلام اليسارية والليبرالية لصالح استقلال الجزائر، وبعد الاستقلال، وفي الوقت الذي كان فيه الأوروبيون من الأقدام السوداء يحملون ما خفّ من أمتعتهم للرحيل نحو الشمال في اتجاه باريس أو مرسيليا، كان جون سيناك يرحل نحو الجنوب، في رحلة عكسية، نحو الجزائر ليستقر بها حتى اغتياله.
في الجزائر المستقلة، يبدأ جون سيناك معركته الجديدة التي أرادها مختلفة عن معركة التحرير من أجل الاستقلال، فالآن، وقد استقل البلد وطرد الاستعمار، فالهدف هو بناء مواطن جديد حر ومعاصر قادر على حمل مشروع وطن هو الآخر جديد وعادل ومتطور، يقول في مجموعته الشعرية "مواطنو الجمال"Citoyens de beauté (1967) والآن سنغني الحب... إذ لا يوجد ثورة من دون حب".
لم تعرف الجزائر المستقلة خلال الفترة ما بين (1962-1972) شخصية ثقافية وأدبية وإعلامية حققت إجماعاً، مثل شخصية سيناك، لقد كان قريباً من كل التيارات الثقافية والأدبية من المفرنسين كما من الأمازيغيين كما من المعربين، كان شخصية خلقت لأن تكون محورية وإجماعية. هذا لا يعني أن سيناك لم يكن له خصوم، لكنه كان قادراً على أن يركز على ما يجمعه بالآخر أكثر مما يفرقه عنه، فعلى سبيل المثال كان على خلاف مع كاتب ياسين، إلا أن هذا لم يشكل حاجزاً للصداقة الأدبية بينهما، وكان كاتب ياسين يلقب جون سيناك بـ "جون سرّاق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد أن أصبحت أيام الاستعمار الفرنسي معدودة، تحرّكت المنظمة السرية "OAS" الإرهابية التي تشكّلت من اليمين الأوروبي المتطرف الرافض للاستقلال، فأثارت الفتن الأهلية والاغتيالات، وقد امتدت جرائمها إلى المكتبة الجامعية التي أضرمت في محتوياتها النار، وقد كانت مكتبة ثرية بالمخطوطات والكتب والوثائق النادرة، وقد سارع سيناك لتأسيس لجنة وطنية لحماية المكتبة وترميمها، وقد ترأس هذه اللجنة التي استطاعت أن تنقذ مؤسسة من أهم المؤسسات الثقافية التي تمثل الذاكرة الوطنية الجزائرية.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1963 سيؤسس جون سيناك مع مجموعة من الكتاب والأدباء أول اتحاد الكتاب الجزائريين، وقد كان المثقف والأديب المحوري في هذا التأسيس، وكان الروائي الكبير مولود معمري أول رئيس لهذا الاتحاد، وشغل سيناك منصب الأمين العام، وبفضله تحول الاتحاد إلى فضاء جامع لكل أطياف الثقافة والأدب الجزائري بغض النظر عن اللغة أو الانتماء الفكري أو إجمالي أو السياسي الذي يؤمن به هذا الكاتب أو ذاك، ففي الاتحاد وجد كتّاب ذوو توجه فرانكفوني كمراد بوربون وأحمد أزغاغ وبشير حاج علي وكاتب ياسين ونادية قندوز ومحمد ديب ومالك حداد وعروبي كالجنيدي خليفة ومفدي زكريا وأمازيغي كمولود معمري ومولود عاشور جنباً إلى جنب من دون حساسيات سياسية قاتلة، أو مخربة للعلاقات الإنسانية والإبداعية، وفي عهده تأسست الجائزة الكبرى للآداب، وفي دورتها الأولى منحت مناصفة لكاتبين الأول هو محمد ديب، وهو كاتب ذو نزعة شيوعية ويكتب باللغة الفرنسية، والثاني محمد العيد آل خليفة وهو شاعر يكتب بالعربية، ويعتبر شاعر جمعية العلماء المسلمين التي كانت محظورة آنذاك، وفي هذا التكريم تظهر ثقافة الإجماع وعدم الإقصاء واحترام جميع الأصوات.
بعد الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة، كان ذلك في 19 يونيو (حزيران) 1965، أدرك جون سيناك أن الثورة بدأت تنحرف عن مسارها التاريخي، وبدأ الإحساس بالخيبة يؤسس نصوصه الشعرية، وانتقل من الشعر "الواقعي الاشتراكي" إلى تجربة شعرية فريدة وجديدة لم تعرفها المرحلة السياسية الغارقة في الخطابات الثورية والاشتراكية، تجربة شعرية سعى فيها إلى تمجيد الحرية الفردية كمدخل لاحترام حقوق الإنسان والحق في الاختلاف، وشكل الجسد فيها محوراً أساسياً، لقد دخل في تجربة صوفية عميقة بدأت تبعده شيئاً فشيئاً عن الواقع الملموس المليء بالحماسة "الثوروية" من دون أن يتنازل عن مواقفه في تشجيع الأسماء الشعرية الشابة الجديدة ومرافقتها والعناية بها، في هذا الاتجاه نشر أول "أنطولوجيا للشعر الجزائري" قدم فيها أسماء لم تكن معروفة نهائياً، لكنها ستسجل حضورها المتميز لاحقاً، وحتى الآن من أمثال: حميد ناصر خوجة، يوسف سبتي، حميد سكيف، حميد تيبوشي، الطاهر جاووت، أمين خان. كما أنه سيعود لتقديم برنامجين شعريين على أمواج الإذاعة الجزائرية: "الشاعر في المدينة" (1964-1965) ثم "الشعر على كل الجبهات" (1967-1971).
اغتيل الشاعر جون سيناك في ليلة 29 إلى 30 أغسطس (آب) عام 1973 بالسلاح الأبيض في قبو كان يتخذ منه سكناً بالجزائر العاصمة بعد أن غادر الفيلا التي كان يسكنها على شاطئ صغير بالعاصمة، بعد أن تعذر عليه دفع تكاليف الكراء، ولحد الآن لم يكشف عن أسرار هذا الاغتيال الشنيع، وبالعودة إلى النصوص التي كتبها قبل اغتياله ندرك أن الشاعر كان يحدس هذا الموت، نظراً لما أصبح يمثله من رمز للحرية الفردية التي تتعارض مع مجتمع شرع في الدخول إلى بيت "الواحدية" الفكرية والسياسية، وقبل موته بأيام كتب مجموعة من القصائد يرسم فيها اليد الإرهابية التي تراقبه، وقد شكّل موته هلعاً كبيراً في الأوساط الثقافية والأدبية في الجزائر وباريس، كما أن غيابه أثر بشكل واضح في الحركة الأدبية في الجزائر وعلى الفعل الثقافي الحر.
كان جون سيناك رمز الجزائر المتعددة التي اختفت مع هيمنة الحزب الواحد الذي فتح الباب واسعاً أمام التيار الإسلامي ممثلاً في الإخوان المسلمين الذين وضعوا اليد على المدرسة أولاً، وهو التيار الذي يعتبر كل ثقافة جزائرية بغير اللغة العربية هي ثقافة "كافرة" تهدد الإسلام، وهي صوت الاستعمار الجديد "حزب فرنسا".