لم يكن الطريق للتوصل إلى اتفاق سلام السودان، الموقع في جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، سهلاً، بقدر ما كان شاقاً ومحفوفاً بالصعوبات، ويواجه حالياً عديد من التحديات، ولا سيما مع وجود مؤشرات تزعزع الثقة بين طرفي الاتفاق، ربما تهدد الاتفاق نفسه.
بيان الحركات والمنعطف الخطير
وبرزت بوضوح الشروخ المرتبطة بالتطبيق بين أطراف الاتفاق (الحكومة وحركات الكفاح المسلح)، وإعلان حركات "مسار دارفور"، أخيراً، أن الاتفاق يمر بمنعطف خطير، بعد مرور سبعة أشهر على توقيعه، متهمة الحكومة (المكون العسكري)، على وجه التحديد، بعدم اتخاذ، ولو خطوة واحدة، لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية في الاتفاق.
وحوى البيان المشترك الذي أصدره قادة الأجنحة العسكرية للحركات، كثيراً من الاتهامات الموجهة للحكومة، ولا سيما المماطلة في تكوين الآليات، والمراوغة في تشكيل القوة المشتركة لحفظ الأمن والدعم اللوجستي، وعدم اتخاذ خطوات جادة لإصلاح الأجهزة الأمنية على المستويات كافة.
وحمل البيان الطرف الحكومي المسؤولية، متهماً إياه، بكسب الوقت، وصناعة حركات أخرى جديدة، بغرض تعقيد المشهد العسكري وتخريب عملية السلام، ومحذراً من أن الأسلوب المتبع من قبل الحكومة، من شأنه إعادة البلاد إلى مربع الحرب مرة أخرى.
وأشار البيان أيضاً إلى أن تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية يحتاج إلى قرارات من رئيس مجلس السيادة بإشراك قادة الكفاح المسلح في إدارة الأجهزة الأمنية على المستويين السياسي والتنفيذي في أعلى المستويات، بتعيين وزراء دولة في وزارتي الدفاع والداخلية، وتمثيل عادل في هيئة قيادة الأركان المشتركة، وقيادة هيئة الشرطة، وقيادة الأمن والمخابرات والدعم السريع، كخطوة أولى في مسيرة إصلاح الأجهزة الأمنية، علاوة على تشكيل اللجنة الأمنية العليا المشتركة لتقوم بمهامها لتنفيذ الترتيبات الأمنية.
خلل كبير
في هذا الوقت، انتقد محمد سليمان أركان، الأمين العام لحركة تحرير السودان (المجلس الانتقالي)، الضعف الذي يشوب تنفيذ اتفاق السلام، في كل جوانبه، وليس فقط ما يتعلق بالترتيبات الأمنية، لدرجة أن معظم بنود مصفوفة تنفيذه، تجاوزت مواقيتها المحددة من دون أن تنفذ، بينما ظلت الآلية الوطنية المشتركة لتنفيذ اتفاق السلام، تجتمع من دون أن ترى مخرجاتها النور أو تجد طريقها إلى التنفيذ.
وبخصوص ما يثار حول بند الترتيبات الأمنية، قال أركان لـ"اندبندنت عربية"، إن "البند الآن في وضع شبه مجمد، على الرغم من أنه يعتبر الضامن الرئيس لاتفاق سلام جوبا، إذ لم يحرز فيه أي تقدم، حتى على مستوى إصلاح الآليات التي اتفق على إعادة هيكلتها، مثل مفوضية إعادة الدمج والتسريح الموروثة من النظام السابق، ما يعني أن هناك خللاً كبيراً في مسيرة السلام".
ورأى الأمين العام لحركة تحرير السودان أن "الوضع الأمني المضطرب في معظم أنحاء البلاد، يستدعي ضرورة التعجيل في تنفيذ الترتيبات الأمنية، من خلال إعادة هيكلة منظومة المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية، وبناء جيش قومي موحد بعقيدة وطنية لا تعرف الانتماء الحزبي أو الحركي".
عثرات التنفيذ
وحول ما إذا كانت الأجنحة السياسية للحركات توافق على ما جاء في بيان قادتها العسكريين، وصف أركان، ما جاء في البيان بأنه يمثل إشارة أولى موجهة إلى الحكومة، لاختبار رد فعلها ومدى جديتها تجاه خطوات التنفيذ.
وبخصوص عقبات التمويل، أوضح أن "الحكومة الانتقالية، لم تقدم حتى الآن أي مبالغ مما هو منصوص عليه ضمن استحقاقات السلام، لذلك فإن الحركات الموقعة، ما زالت تتكفل بالصرف على قواتها التي وصلت إلى الخرطوم بموجب الاتفاق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق متصل، قال بدر الدين موسى، الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (جناح مالك عقار)، إن اتفاق الترتيبات الأمنية يمثل "عظم الظهر" لأي اتفاق سلام، يهدف إلى طي صفحة الحرب وتحقيق الاستقرار، ورأى أن عدم تحرك ملف الترتيبات الأمنية (قيد أنملة)، منذ توقيع الاتفاق قبل سبعة أشهر، ولو بنسبة واحد في المئة، "أمر مزعج ويدعو إلى القلق والحيرة". وأضاف، "مهما كانت الأسباب والمبررات والحجج، لكنها تبدو كلها، غير مقنعة على الإطلاق". وتمنى موسى أن يكون بيان قادة حركات مسار دارفور، بمثابة جرس إنذار وتنبيه، لتحريك جمود ملف الترتيبات الأمنية خصوصاً، واتفاق جوبا لسلام السودان بأكمله.
الترتيبات الأمنية
وسط هذه الأجواء، أصدر العميد الطاهر أبو هاجة، المستشار الإعلامي للفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة، بياناً، رداً على اتهام بيان قادة حركات الكفاح المسلح، للمكون العسكري بمجلس السيادة، بتعطيل عملية الترتيبات الأمنية، أوضح فيه أن الترتيبات الأمنية، عملية فنية احترافية تمثل أساس اتفاق سلام جوبا، وهي مهمة موكلة لجهات مختصة محترفة من طرفي التفاوض، ولديها لجان مختلفة تؤدي دورها في صمت ومسؤولية، وليس مفيداً أن تتم مناقشتها عبر الصحف والوسائط الإعلامية، كونها مسألة حساسة مرتبطة بأفراد وقوات على طرفي التفاوض، سواء القوات الحكومية أو قوات الكفاح المسلح.
أضاف أبو هاجة، "عقلية التخوين وطرق التفكير السلبية من الأفضل أن نضعها أرضاً، فلا أحد يريد أن يهضم أو يسلب حقوق الآخرين، واتفاق جوبا تاريخي إذ لم يحدث أن التف السودانيون منذ الاستقلال حول السلام، ودولة المواطنة، كما حدث بعد ديسمبر (كانون الأول)، وما حدث بعد اتفاق جوبا".
ولفت مستشار البرهان إلى أن هناك لجاناً مكونة لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية، بعضوية الحركات الموقعة، تحت إشراف وزير الدفاع، كما أن هناك لجنة عليا لمتابعة تنفيذ الاتفاق، أيضاً بعضوية قادة الحركات الموقعة وقادة الأجهزة الأمنية، مشيراً إلى أن تلك اللجان سبق أن وضعت مصفوفة لتنفيذها، لكن عند مناقشتها موضوع تأخير إجراءات الترتيبات الأمنية، توصلت إلى حقيقة أن سبب التأخير هو الوضع الاقتصادي وصعوبة توفير الدعم المالي المطلوب. ونوه بيان أبو هاجة بأن الوطن يحتاج إلى تلاحم أبنائه وقواته، بدلاً من زرع بذور الفتنة والفرقة، داعياً إلى العمل معاً لأجل التلاحم والتعاضد ونبذ والكراهية.
ومعلوم لدى الأطراف أن المكون العسكري والقوات المسلحة كمؤسسة لا علاقة لهما ببند الترتيبات الأمنية.
الجيش يرد ويجدد رغبته
وسبق بيان أبو هاجة نفي مصدر عسكري مسؤول بالاستخبارات العسكرية ما وصفه بالحديث غير الصحيح الذي كان قد أدلى به نائب رئيس الحركة الشعبية شمال، ياسر عرمان، في شأن اتهامه القوات المسلحة والاستخبارات العسكرية بعرقلة تنفيذ الترتيبات الأمنية وتسببها في تفتيت الحركات الموقعة وإنشاء أخرى جديدة. وأكد المصدر، لوسائل الإعلام المحلية، حرص القوات المسلحة بأجهزتها ووحداتها كافة، على وحدة الحركات الموقعة على الاتفاقية، مشدداً على أن لا مصلحة للقوات المسلحة واستخباراتها في تشظي شركاء السلام أو تأخير اندماجها في جيش البلاد. وجدد الرغبة الكبيرة للقوات المسلحة في تنفيذ هذا الملف لمردوده الإيجابي على سير العملية السلمية في السودان.
أضاف المصدر نفسه، "يدرك الجميع دور القوات المسلحة في ملف السلام والترتيبات المتصلة، عدا عرمان وحده، الذي لا يعلم بأن تأخير تنفيذ الترتيبات الأمنية يعود لأسباب لا علاقة للقوات المسلحة بها"، مشيراً إلى أن من أهم هذه الأسباب هو عدم توفر التمويل.
وكانت الحكومة السودانية والحركات المسلحة، باستثناء حركتي عبدالعزيز الحلو وعبدالواحد محمد نور، قد وقعت في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، على اتفاق جوبا لسلام السودان، وسط حضور دولي وأفريقي وعربي، وتضمن الاتفاق إصلاح المؤسسة العسكرية من خلال عمليات دمج قوات الحركات المسلحة الواردة في بند الترتيبات الأمنية.
ووضع الاتفاق حداً لحروب ونزاعات امتدت سنوات عدة في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، مخلفة آلاف الضحايا وما يقارب ثلاثة ملايين من اللاجئين والنازحين داخل وخارج البلاد.
وتواصل الحكومة حالياً في جوبا، التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح عبد العزيز الحلو)، إلى جانب مساعيها لفتح قنوات الحوار للتفاوض مع عبد الواحد محمد نور، قائد حركة تحرير السودان الدارفورية، سعياً لاستكمال حلقات السلام الشامل في البلاد.