في العرض المسرحي المصري "طقوس العودة"، الذي يقدمه "مسرح الغد"، التابع لـ"البيت الفني للمسرح" (إعداد وإخراج سعيد سليمان)، لسنا بإزاء استعراض لقصة الحب الشهيرة بين "حسن ونعيمة" من جديد. ويمكن القول إن العرض اتخذ القصة، التي حضرت حضوراً طيفياً، أو كخلفية لطرح أسئلة تتعلق بـ"الهنا والآن". فنعيمة في ممارستها طقوس استعادة حسن، إنما تبحث، من ناحية، عن قيم افتقدها المجتمع، كالشهامة، والنبل، والكرم، والرجولة، والبطولة الشعبية، والحس الفني... ومن ناحية أخرى تدين هذا المجتمع، الذي ما زال ينكر العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة، ويحرم المرأة حريتها في الاختيار، ولا ينظر إلى الفن وممارسيه بالقدر الذي يستحقونه. وهي أيضاً، في ممارستها للطقس، إنما تتحرر من سطوة الواقع وثقله، وتعود إلى فطرتها الأولى النقية، باحثة عن سلام روحي يخفف وطأة عذاباتها الجسدية والنفسية، فالطقس هنا ملاذ المتعبين والباحثين عن طوق نجاة.
كل ذلك يمكن استبطانه من العرض، الذي لم يعلنها بصراحة، منحياً الخطابة والدعاية جانباً. هو فقط اكتفى بشذرات من قصة الحب الشهيرة، جاءت في صيغة تساؤلات، حيث تراجع النص مفسحاً مساحة أكبر للطقس. وقدم لنا حسن (قام بدوره ماهر محمود) كشاب موهوب مكتمل الرجولة، ونعيمة (قامت بدورها نجلاء يونس) كفتاة ناضجة موهوبة هي الأخرى، وكأنه لا يقدم حسن ونعيمة في صورتهما القديمة، بل يضيف إليها ما يمكن اعتباره امتداداً عصرياً لها. ثمة مبرر لاستدعاء بطلي الحكاية، فنعيمة التي هي في الأصل مجرد فتاة ريفية جميلة، حاولت التمرد على واقعها وفشلت. بدت في العرض أكثر جرأة، ونضجاً، وثقافة، وموهبة. هي تفلسف قضيتها، وتغني وتعزف على آلة الكمان، كما لو كان المخرج أراد تأكيد فكرة الامتداد، والإشارة إلى أن الزمن على الرغم مما أحدثه من تطورات، فإن ثمة عادات وتقاليد بالية، ما زالت راسخة يرزح تحت أغلالها النساء والرجال معاً، خاصة أولئك الذين امتلكوا جرأة التمرد على واقعهم، وسعوا إلى تغييره.
وعي بالشخصية
بدا الممثلان في حالة وعي بطبيعة العمل وشخصياته، واشتمل أداؤهما على قدر عالٍ من الكفاءة والتمكن والسيطرة على الأدوات والأساليب والوسائل والمهارات التي يتم من خلالها هذا الأداء. وأدركا أنهما بصدد حالة لا درامية بالمعنى المفهوم، لا تعتمد في بنائها، بشكل أساسي، على الشخصية، أو الحبكة؛ بل على تصوير المناخ الخاص بالطقس. وتتطلب قدراً من اليقظة والذكاء في كل حركة أو إيماءة، باعتبار ذلك كله وحدات قد تبدو متنافرة، لكن سقوط واحدة منها يعني انهيار البناء الكلي للعمل. ويدركان كذلك أن الفعالية والحركية هما السمة المميزة للطقس، كما يقول المسرحي الأميركي ريتشارد ششنر، وهو أمر أدركه المخرج، قائد العمل وراسم تفاصيله، وعمل على حضوره بشكل لافت.
ولأننا بإزاء ما يمكن اعتباره مسرحاً طقسياً، فإن الطقوس التي تتحول إلى طاقات روحية وفكرية، جاءت مملوءة بالحس الشاعري، سواء في الأداء التمثيلي، أو في الغناء الشجي، الذي صاغه مسعود شومان بروح شعبية بديعة محتشدة بالصور، فضلاً عن مقاطع من قصيدة أبي القاسم الشابي "إرادة الحياة". ووضع ألحانه بالروح نفسها، المبدع أحمد الحجار، الذي قام بالعزف والغناء أيضاً، إضافة إلى غناء حسن ونعيمة. وفي حالة كهذه كان طبيعياً أن يأتي الغناء حياً، وليس مسجلاً، وهو ما أضفى على العرض كثيراً من المصداقية، ومنحه مزيداً من الطاقة، وجعل هناك ألفة بينه وبين مشاهديه.
قصة واقعية
قصة "حسن ونعيمة"، واحدة من أشهر قصص الحب الشعبية المصرية، وعلى الرغم من تعدد رواياتها، واختلاف بعض أحداثها من راوٍ إلى آخر، بحسب خياله، أو بحسب المكان الذي ينشد فيه، فإنها قصة واقعية شهدتها محافظة المنيا، إحدى محافظات الصعيد المصري (250 كيلومتراً جنوب القاهرة)، بطلاها حسن المغني الشعبي، الذي ذهب لإحياء حفلة زفاف في قرية نعيمة، وعندما شاهدها وقع في حبها، وهي الأخرى وقعت في حبه.
تحكي القصة أن حسن تقدم لخطبة نعيمة من أبيها الثري، لكن الأب رفض بشدة مدفوعاً بأسباب عدة، أولها التقاليد التي لا تعترف بقصص الحب وتعتبرها عاراً لا يمحوه سوى الدم. وثانيها الفروق الطبقية بين الأب الثري وبين حسن المغني الفقير، وثالثها النظرة الدونية لمن يعملون في مهنة الغناء، ورابعها أن الأب يريد تزويج ابنته لابن عمها حسب التقاليد المتبعة في صعيد مصر.
عندما رفض الأب والعائلة هذا الاقتران بين حسن ونعيمة، تهرب نعيمة من بيت العائلة إلى بيت حسن في القرية القريبة. وعلى الرغم من أن حسن تعامل معها بشهامة ونبل وكرم، كما يذكر الرواة، ورفض الزواج منها من دون موافقة عائلتها، فإن العائلة، بعد أن تستعيد ابنتها، تقرر الانتقام من حسن وتدبر له مكيدة، فتدعوه إلى إحياء حفلة زفاف في قريتها، وهناك يتم ذبحه وفصل رأسه عن جسده وإلقاء جثته في النيل.
القصة تم تجسيدها في فيلم سينمائي، أخرجه هنري بركات عام 1959، وكان الظهور الأول للسندريلا سعاد حسني، والمطرب محرم فؤاد، وإن انتهى الفيلم نهاية سعيدة بزواج حسن ونعيمة، وهو ما يخالف الواقع، لكنها السينما التي أرادت إرضاء جمهورها. وتم تقديم القصة مسرحياً مرات عدة، عن نص الراحل نجيب سرور.
صندوق الحكايات
يبدأ العرض من حيث تنتهي القصة، رأس حسن، الذي تم فصله عن جسده، حاضر في المشهد، وجثته تطفو فوق سطح النيل عبر شاشة العرض، التي لم تستخدم كثيراً، وإن كان وجودها ضرورياً كمؤشر أو دال على أننا بصدد زمن جديد غير زمن الحدث الأصلي، أكثر تطوراً. وتم مزج الزمنين معاً، فمن خلف ما يشبه عربة الحكايات أو صندوق الحكايات، يطل علينا حسن عبر فجوات تم تصميمها لهذا الغرض، واستخدمت كذلك في تحريك بعض العرائس بواسطة نعيمة. واستخدم الصندوق في أكثر من غرض، فهو إضافة إلى الحكايات، يمثل سطح بيت نعيمة، أو مكان لقائها بحسن. وقد نجحت مصممة الديكور نورهان سمير في صياغة هذا الصندوق وإضفاء الطابع الشعبي عليه، كما نجحت كذلك في صياغة قاعة العرض ككل.
فالعرض تم تقديمه في قاعة زكي طليمات في مسرح الطليعة، وهو اختيار واعٍ أيضاً. فمثل هذه النوعية من العروض تفقد كثيراً من حيوتها وقيمتها، بل ورمزيتها، إذا قدمت على مسرح العلبة الإيطالية، فكان أن تحلق الجمهور حول العرض وصار جزءاً منه، متماهياً معه، ومنفعلاً به. ونجحت المصممة في توزيع مناطق التمثيل والعزف والمشاهدة بشكل محسوب، من دون إغفال لزوايا الرؤية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإعداد، الذي قام به المخرج، راعى معرفة الجمهور بالقصة، ومن ثم لم ينشغل بها قدر انشغاله بطرح الأسئلة، وتجسيد ذلك في وحدات منفصلة متصلة، في ما يشبه الضربات السريعة المتلاحقة. فحافظ طوال الوقت على إيقاع العرض، وجعل المشاهد في حالة ترقب دائمة، وكذلك في حالة بحث دائب عن إجابات عن فيض الأسئلة الذي يتوالى أمامه. وجعله في الوقت نفسه، في حالة متعة أتاحتها عناصر العرض من تمثيل وغناء وعزف. واحتوت السينوغرافيا ذلك كله في صورة مسرحية دالة وموحية وباعثة على التأمل في مصائر الشخصيات أمامها.
وفضلاً عن ذلك، فإن العرض، في صيغته التي قدم بها، يأتي بمثابة سعي، مارسه المخرج في أكثر من عمل سابق، للبحث عن شكل مسرحي يناسب بيئته وموضوعاتها، من دون انفصال بينهما.