حفز تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الليبية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، في مارس (آذار) 2021، مختلف الجيران إلى جانب أوروبا ودول آسيوية للسعي للفوز بعقود الإعمار في البلد الغني بالنفط، الخارج للتو من الحرب.
وفتحت الحكومة فرصاً استثمارية أصبحت محل تنافس بين البلدان، في حين يرى جيران ليبيا من البلدان العربية، أنهم الأولى بإعمار البلد الشقيق الذي مثل في السابق شريكاً اقتصادياً مهماً.
وسبقت مصر الدول الأخرى بتوقيع عدد من العقود تفتح الطريق لشركاتها للعمل في شرق ليبيا، في حين تعمل تونس على استعادة موقعها داخل ليبيا عبر سلسلة من اللقاءات بين مسؤولين ورجال الأعمال للظفر بمشاريع إعادة التهيئة السكنية.
ويرى متخصصون أن حظوظ تونس أصبحت محدودة بسبب التجاذبات السياسية الداخلية والمنافسة التركية الشرسة. فقد حرصت الشركات التركية على المنافسة في منطقة غرب طرابلس، التي لطالما مثلت القلب النابض للمستثمرين التونسيين ومساحة مركزية لنشاطهم منذ الفترة السابقة للحرب.
التنافس على 2870 وحدة سكنية
وتشهد الفترة الحالية انعقاد لقاءات متتالية في كل من طرابلس وتونس في شكل ندوات ومعارض تجمع بين مستثمرين تونسيين وليبيين.
وذكر المستثمر العقاري جلال مزيو، نائب رئيس غرفة العقاريين التونسيين، لـ"اندبندنت عربية"، أنه لا تتوفر معطيات حول توقيع اتفاقيات تونسية- ليبية تتعلق بإعادة الإعمار، في الزيارة التي أجراها رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي إلى طرابلس ولقائه الدبيبة. فهي "زيارة رسمية سياسية أكثر منها زيارة تشاركية".
تحتاج تونس إلى السوق الليبية المفتوحة للمستثمرين حالياً، لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي تمر بها. وقد تمت دعوة المستثمرين التونسيين لحضور صالونات مختصة لعرض فرص لاستثمارات ضخمة تتعلق بإعادة الإعمار. وينتظر أن يشارك مستثمرون في العقارات من تونس وغيرها في صالون من هذا الصنف في 6 يونيو (حزيران) الحالي، تعرض خلاله مشاريع لبناء 2870 وحدة سكنية.
وعبّر مزيو عن استغرابه مما لمسه لدى المسؤولين الليبيين من رغبة في استقطاب المستثمرين الجدد ممن لم يسبق لهم التعامل معهم في السابق، على الرغم من الثقة التي ينالها المتعامل التونسي منذ عقود في البلد المجاور.
وأشار إلى التقصير الحاصل من الجانب التونسي في استقطاب الجزء الأوفر من الاستثمارات بالنظر إلى المعطى الجغرافي والتقارب الفعلي بين الشعبين، حيث مثلت تونس بلد إقامة الدبيبة قبل صعوده إلى السلطة.
غياب الدعم الحكومي في مواجهة منافسة شرسة
وتفتقر تونس إلى وضع استراتيجية خاصة بمشاركة المستثمرين التونسيين في عملية إعادة إعمار ليبيا وفق المستثمر العقاري التونسي فهمي شعبان، الذي يرى في حديثه مع "اندبندنت عربية" أن "السوق الليبية واعدة". لكن من غير المعقول أن يسعى المستثمرون التونسيون إلى الحصول على عقود بناء في ليبيا بمفردهم، ومن دون دعم حكومي سياسي ومساندة مالية من قبل البنك المركزي.
في المقابل، تنزل الحكومة التركية بثقلها في ليبيا لدعم الشركات التركية. فقد قامت بتوقيع اتفاقيات مع الحكومة الليبية تحصلت بموجبها على عقود وزعتها على مؤسساتها.
وتوفر أنقرة لرجال الأعمال الأتراك والمؤسسات التركية في ليبيا دعماً مالياً وإدارياً وسياسياً. فقد طلبت الحكومة التركية في العقد الماضي من الشركات التركية في ليبيا عدم المغادرة عندما ساءت الوضعية الأمنية، وأمرتها بالإبقاء على مكاتبها وفروعها في طرابلس وكل المدن الليبية مفتوحة، وتكفلت بكافة مصاريفها أثناء توقف نشاطها بسبب المعارك.
ومثلت هذه الخطوات تمهيداً لتوقيع عقود جديدة، إضافة إلى المحافظة على عقود سابقة. وتمثل الشركات التركية منافساً مباشراً لنظيرتها التونسية، بالنظر إلى السلع التي توفرها مثل مستلزمات البناء (الإسمنت والآجر والحديد والتجهيزات الصحية)، إلى جانب عقود البناء.
ما تبقى من عقود "ليبيا الغد"
ورأى الاقتصادي غازي معلى في تصريحه أنه من البديهي أن تتجه العقود الضخمة في ليبيا إلى الصين وباكستان وبلدان أوروبية مختلفة، بحكم حجم مؤسساتها وخبرتها في تشييد البناءات الضخمة، وهو ما لا يتوفر لدى الشركات التونسية، إذ يرجح أن تكتفي بعقود الوحدات السكنية والنزل والطرقات السريعة.
أما في ما يخص حيازة تركيا على عقود ضخمة، ذهب معلى إلى أن أنقرة عملت منذ بداية الحرب على الضغط بكافة الطرق السياسية والعسكرية من أجل المحافظة على عقودها القديمة. وهي تحصلت عليها ضمن المشروع الضخم "ليبيا الغد" الذي وضعه نظام معمر القذافي قبل سقوطه، وقد بلغ حجمه 120 مليار دولار. وتحصلت تركيا على عقود بلغ حجمها 20 مليار دولار في إطاره، أي خمس الاعتمادات تقريباً.
لكن هذا لا يمنع حصول الحكومة التركية الحالية على عقود جديدة في إعادة الإعمار، أهمها عقدان لإنشاء محطتين لتوليد الطاقة الكهربائية. وقد تم توقيعهما في أبريل (نيسان) 2021.
250 مليار دولار حجم عقود إعادة الإعمار
ولعبت الأزمات السياسية المتتالية في تونس وعدم الاستقرار الذي تسببت فيه دوراً في استبعاد المستثمرين التونسيين من مشاريع إعادة إعمار ليبيا، وفق المختص في الشأن الليبي محمد أبو القاسم حزين، لكن ذلك لا ينفي المواجهة المباشرة مع المنافسة التركية في هذه السوق الواعدة، التي يبلغ حجمها 250 مليار دولار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد سبق أن تحصلت تركيا على عقود بناء في إطار مشروع " ليبيا الغد"، تمركزت في طرابلس ثم مدن الغرب الليبي القريبة من تونس، وهي الزنتان والمشاشية وزوارة والتيجي والرويس وصبراطة وسمران والدويرات. وتمثلت في أحياء سكنية وبلغت قيمتها 1.5 مليار دولار، أنجزت الشركات التركية 70 في المئة منها.
لكن باندلاع الحرب عملت تركيا على الحفاظ على وجودها في هذه المنطقة القريبة من تونس. ووقعت عقوداً جديدة لمشاريع أخرى مع حكومة فايز السراج عام 2018، أهمها في "سبها" بالمنطقة الغربية لإنجاز الطريق الصحراوي، وإعادة تهيئة المطارات بخاصة مطاري طرابلس ومعيتيقة، وهو عقد بلغ حجمه ملياري دولار. كما وقعت مع الحكومة نفسها اتفاقية ستحصل تركيا بمقتضاها على تعويض قدره 1.5 مليار دولار للخسائر التي طالت شركاتها بسبب تخريب تجهيزاتها على الأرض نتيجة المعارك.
تغييب تونس
في المقابل، يذكر حزين تغييب الجانب التونسي. فقد تم الاعتداء على الدبلوماسيين التونسيين بالضرب والتعنيف ثم الاختطاف، ما أدى إلى إغلاق السفارة التونسية عام 2015 حتى 2021، بعد أن اكتُفي بفتح القنصلية بثمانية موظفين عام 2018.
كما اتخذ البنك المركزي الليبي إجراءات منعت فتح الاعتمادات في البنوك التونسية. كما سجل تعطيل إتمام أشغال الطريق السريع الرابط بين تونس وليبيا الذي لم يبق لإنجازه غير 130 كيلومتراً.
من جهة أخرى، توالت الاعتداءات المسلحة على البوابات الحدودية من قبل الميليشيات، ما أدى إلى إغلاق الحدود البرية بين تونس وليبيا، لفترات طويلة من دون مبرر.