في مارس (آذار) الماضي، كشفت بريطانيا ضمن استراتيجيتها التاريخية لتعزيز دورها العالمي وسد الفجوة الاقتصادية والسياسية التي أحدثها "بريكست"، عن رفع موازنة الدفاع بمقدار 22 مليار دولار على مدى أربعة أعوام، وزيادة إجمالي عدد الرؤوس النووية المسموح بتخزينها بنسبة 40 في المئة. الخطوة البريطانية غير المسبوقة منذ الحرب الباردة جدّدت مخاوف اندلاع سباق تسلح نووي ظلت الديمقراطيات تجابهه بلا هوادة خلال العقود الماضية، إلا أن المملكة المتحدة برّرت قرارها بوجود مجموعة من "التهديدات التكنولوجية والعقائدية المتزايدة"، ومنها صعود الصين التي ربما تصبح بحلول عام 2028 أول دولة غير ديمقراطية يكون اقتصادها الأكبر في العالم.
ديمقراطيات تحت التهديد
قوبل رفع بريطانيا عدد رؤوسها النووية الحربية بانتقادات، منها أن القرار يُعدّ انتهاكاً للالتزامات التي تعهدت بها لندن في إطار حظر انتشار الأسلحة النووية، فضلاً عن أنه قد يكون خطوة أولى نحو سباق تسلح نووي جديد، والحديث هنا يشمل أصدقاء المملكة المتحدة الذين فرضتهم الجغرافيا. وفيما اعتبر النقاد أن إحياء الوجود البريطاني في آسيا ربما يؤدي إلى جرّ المملكة المتحدة إلى صراع عسكري مع بكين، يرى مراقبون ومسؤولون أن مواجهة التهديدات الصينية والتأهب لها بات أمراً حتمياً بالنسبة إلى الديمقراطيات، وليس بريطانيا وحدها، وهو الأمر ذاته الذي دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تجديد التزامات واشنطن تجاه حلفائه الأوروبيين، بعد أربعة أعوام من علاقة متوترة بين أوروبا وإدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
ريك فيشر، المتخصص في الشؤون العسكرية الآسيوية، يقول إن بريطانيا قررت زيادة عدد رؤوسها الحربية النووية جزئياً بسبب التهديد الصيني، مضيفاً أن هدف الحزب الشيوعي الصيني يتمثل في "تحقيق الهيمنة العالمية والقدرة على فرض سلطته وخياراته عالمياً وإقليمياً وعلى الدول الفردية"، الأمر الذي لن يتحقق من دون قوة عسكرية متفوقة.
ورداً على سؤال "اندبندنت عربية" حول ما إذا كانت الخطوة النووية البريطانية ستدفع دولاً أوروبية أخرى لمراجعة سياساتها، أكد فيشر أن على المملكة المتحدة وفرنسا زيادة قواتهما النووية لردع أي هجوم من الصين وروسيا، ودعا الولايات المتحدة إلى تقوية ترسانتها النووية، مشيراً إلى أنه من الضروري أيضاً لحلفائها في آسيا أن يفكروا في رادعهم النووي، سواء كان ذلك في شكل استضافة أسلحة نووية أميركية كما يحدث مع "ناتو" أو العمل مع واشنطن على إنتاج أسلحتهم الخاصة.
وقال مؤلف كتاب "التحديث العسكري الصيني" الذي يبحث في الأسس الاستراتيجية العسكرية ومسار الصين الصاعدة، "لعقود، نفى الحزب الشيوعي الصيني رغبته بالدخول في سباق تسلح نووي وقاد العالم إلى الاعتقاد بأنه يتبع مبادئ الحد الأدنى من الردع النووي، لكن الآن بعد أن وضع الحزب الشيوعي الصيني نصب عينيه تحقيق الهيمنة، فإن الأمر يتطلب قوة نووية مناسبة، لتكون في النهاية القوة النووية المهيمنة".
تابع، "لذلك، يعكف جيش التحرير الشعبي التابع للحزب الشيوعي الصيني على بناء مفاعلات مولدة سريعة جديدة لإنتاج البلوتونيوم اللازم، بهدف تسريع عملية رفع مخزونه من الرؤوس الحربية النووية". كما أنه يصنع خمسة أنواع من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية قصيرة المدى التي تحتاج إلى تلك الرؤوس الحربية. وعلاوة على ذلك، فإن "تعاون الصين وروسيا في الدفاع الاستراتيجي هو مؤشر إلى أنهما يفكران في هجوم استراتيجي، أو ربما الاستهداف المنسق لقواتهما النووية".
والعام الماضي، اتهمت الولايات المتحدة الصين بإجراء تجربة نووية في موقع لتجارب الأسلحة شمال غربي البلاد، وهو ما رفضه الحزب الشيوعي الصيني، مؤكداً أن بكين لم تنتهك التزامها المعاهدات الدولية للحد من التسلح. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان، في وقت سابق، إن "الولايات المتحدة تتجاهل كل الحقائق وتوجه اتهامات طائشة للصين"، واصفاً الادعاءات الأميركية بأنها تنمّ عن "تصرف غير مسؤول".
تحركات عسكرية لافتة
فرنسا هي الأخرى لم تتوانَ عن اتخاذ إجراءات عسكرية اعتُبرت بمثابة رسائل تحذير لتركيا التي تُنتقد من حلفائها في "ناتو" بسبب تراجع الديمقراطية فيها بوتيرة غير مسبوقة. بهدف ردع المطامع التركية للاستيلاء على حصة من غاز المتوسط، بعثت فرنسا، العام الماضي، بفرقاطات عسكرية إلى قبرص وشرق البحر المتوسط، وعززت وجودها البحري في المنطقة من خلال الانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط إلى جانب الولايات المتحدة بصفة مراقب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي أبريل (نيسان) الماضي، اقترحت الحكومة اليابانية، إجراء مناورة بحرية مع ألمانيا عندما تزور فرقاطة ألمانية قارة آسيا في وقت لاحق هذا العام، وذلك في إطار سعي طوكيو لتعزيز العلاقات الأمنية مع الديمقراطيات الأخرى في مواجهة التوسع البحري للصين.
ونقلت "رويترز" عن مسؤولين ألمان أن الفرقاطة ستبحر إلى آسيا في أغسطس (آب)، وستصبح في طريق عودتها أول سفينة حربية ألمانية تعبر بحر الصين الجنوبي منذ 2002. وذكر بيان الحكومة الألمانية أن الوزراء من الجانبين تبادلوا خلال الاجتماع وجهات النظر بشأن الوضع في شرق بحر الصين وجنوبه. من جانبها، تزعم بكين أحقيتها شبه الكاملة في المياه الغنية بالطاقة ببحر الصين الجنوبي حيث أقامت نقاطاً عسكرية فوق جزر صناعية، وتطالب أيضاً بروناي وماليزيا والفيليبين وتايوان وفيتنام بأجزاء من البحر.
وباعتبار أن تعزيز مهمة القوات الأميركية في أوروبا ضروري لمواجهة التحديات المستمرة، جمّدت إدارة بايدن في فبراير (شباط) الماضي، خطة ترمب لسحب 12 ألف جندي أميركي من ألمانيا. وكشف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، في أبريل الماضي، عن أن بلاده ستعمل على زيادة عدد قواتها بنشر 500 جندي إضافي بحلول الخريف، مؤكداً التزام الولايات المتحدة "الحفاظ على أمن ألمانيا، وحلفائنا في حلف شمال الأطلسي ناتو".
لكن الكاتب في موقع "بلومبيرغ" هال براندز، يرى أن ألمانيا ما زالت "نقطة ساخنة" في الحرب الباردة بين أميركا والصين، إذ إن ألمانيا الغربية التي كانت الحليف الأساسي للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، تقود اليوم كتلة أوروبية يمكنها الإدلاء بأصوات جيوسياسية متأرجحة في المنافسة بين واشنطن وبكين.
وعن الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها الدولة الأوروبية، يقول الكاتب الأميركي، "صحيح أن برلين ليست قريبة من بكين، ولكن في المواجهة بين أميركا والصين، فإن أوروبا تمثل أكبر تركيز متبقٍّ للقوة الاقتصادية والابتكار التكنولوجي والقيم الديمقراطية والإمكانات العسكرية، وتتطلب أي استراتيجية أميركية لعرقلة نفوذ الصين في الهيئات الدولية، أو مقاومتها اقتصادياً، أو إبقاء الديمقراطيات مهيمنة في التقنيات من الذكاء الاصطناعي إلى اتصالات الجيل الخامس، وجود تعاون قوي عبر الأطلسي".
ويضيف براندز الذي شغل منصب المساعد الخاص لوزير الدفاع الأميركي عام 2015، أن هذه المهمة "لا تختلف كثيراً عن المهمة التي واجهتها الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، إذ لم تكن واشنطن وحلفاؤها يسيرون دائماً بخطى ثابتة ضد الكرملين، ولكن تطلّب الأمر صبراً طويلاً ومثابرة وبعض الضغوط لتحقيق التعاون الذي أدى في النهاية إلى النصر، ومن المؤكد أن المسؤولين الأميركيين يرغبون بأن تلتفّ ألمانيا وأوروبا بسرعة إلى جانب بلادهم، ولكن واقعياً سيكون توحيد العالم الحر ضد منافس سلطوي جديد بحدّ ذاته مهمة طويلة وشاقة".
أوروبا لا تشارك أميركا مخاوفها
لكن يبدو أن تقاسم القارة العجوز للمخاوف الأميركية حيال الصين ليس أمراً مفروغاً منه. هذا ما توحي به تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي، التي قالت هذا الأسبوع، إن أوروبا لا تشارك أميركا مخاوفها بشأن الصين، ودعت إلى تطوير سياسة دفاعية تضع المصلحة الأوروبية أولاً، مشيرةً إلى أن واشنطن صرفت انتباهها عن الاهتمامات الدفاعية المشتركة مع أوروبا.
تصريحات الوزيرة الفرنسية دفعت مجلة "بوليتيكو" الأميركية إلى القول إن سماع حديث فلورنس بارلي "يوحي بأن فرنسا ستفتقد تنمّر دونالد ترمب في قمة ناتو التي من المقرر عقدها في يونيو (حزيران) الحالي"، في إشارة إلى أن نهج ترمب الداعي إلى تعزيز القدرات الدفاعية، يتوافق مع سياسة باريس الداعمة لرفع الإنفاق العسكري. لكن ذلك بحسب المسؤولة الفرنسية لا يعني أن باريس لا ترحب بعودة الولايات المتحدة إلى الشكل التقليدي للعلاقة مع أوروبا تحت إدارة بايدن، إنما هي قلقة من أن العودة ربما تبطئ أو تعطّل صحوة الأوروبيين بشأن الحاجة إلى زيادة الإنفاق العسكري.
وفيما يتّهم الشركاء الأوروبيون باريس بعدم الاكتراث بحاجاتهم الأمنية، والسعي لفرض رؤيتها الاستراتيجية ومضاعفة قوتها من خلالهم، فضلاً عمن ينتقد النداءات الفرنسية من أجل دفاع أوروبي أقوى باعتبارها تهديداً لوحدة "ناتو" أو مخططاً لدعم صناعة الأسلحة والطيران الفرنسية، تصرّ وزيرة الجيوش الفرنسية على أن تعزيز الدفاعات الأوروبية ضروري لتعزيز حلف شمال الأطلسي، وتقول إن الحلفاء الأوروبيين لا يمكنهم تجاهل التغييرات الأساسية التي تطاول السياق الاستراتيجي للعلاقة عبر الأطلسي، بغض النظر عن ساكن البيت الأبيض. أضافت، "إذا أردنا أن نلعب دورنا بالكامل، فينبغي أن نستمر في كوننا حلفاء جيدين ونواصل دفع جهودنا الدفاعية إلى الأمام. كوننا الأوروبيين أقوى، فإننا نقدم مساهمة إيجابية في الحلف الأطلسي، وليس هناك خطر من إضعاف هذا التحالف، بل على العكس".
وقالت بارلي، "ما زلت لا أفهم هذا الجدل الأبدي حول المنافسة المحتملة بين ناتو والأوروبيين. نحن الأوروبيون لدينا صوتنا الخاص، ولدينا الكثير من المصالح المشتركة مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني أنه ليست لدينا قضايا محددة يجب أن ندافع عنها". وكمثال على ذلك، أشارت الوزيرة الفرنسية إلى الصين، حيث على الرغم من تشديد المواقف أخيراً، فإن الأوروبيين لا يشاركون واشنطن القدر ذاته من القلق بشأن بكين. وتساءلت بارلي، "إذا كانت الولايات المتحدة والصين في شكل من أشكال المواجهة، فهل نريد نحن الأوروبيين أن نكون في مواجهة؟".
وبحسب مجلة "بوليتيكو"، سيكون الدور الأوروبي في مقدمة القضايا الحساسة التي ستطغى على قمة "ناتو" التي تعقد هذا الشهر في بروكسل، حيث سيناقش القادة مجموعة من التحديات منها تركيز واشنطن الأمني المتزايد على الصين، الذي لا يكترث به عدد من الحلفاء، والنشاط الروسي في أوكرانيا وبيلاروس وخارجها، واتفاقات الحد من الأسلحة التي تؤثر بشكل مباشر في الأمن الأوروبي مع اقتراب تاريخ انتهاء صلاحيتها، إضافة إلى التوتر في جنوب أوروبا وجنوب شرقها، والتهديدات السيبرانية الجديدة، والخلافات الداخلية لا سيما مع تركيا.