المحاولة الأخيرة لإخراج الحكومة اللبنانية الجديدة من عنق الزجاجة عن طريق وساطة رئيس البرلمان نبيه بري المدعومة من "حزب الله"، بدت مطوّقة بكثير من الصعوبات خلال الأيام القليلة الماضية، فضلاً عن أنها بدلاً من أن تخفض سقف الحملات الإعلامية المتبادلة بين فريق رئيس الجمهورية ميشال عون ووريثه السياسي رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، وبين الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري وتيار "المسقبل"، أطلقت تصعيداً كلامياً متبادلاً عالي النبرة، في وقت لم تنجح محاولة قام بها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي بعد ظهر الأربعاء 2 يونيو (حزيران) الحالي من أجل ترتيب اجتماع بين عون والحريري.
دياب يستغيث بالأصدقاء والأشقاء
استمرار الانسداد في أفق الحلول، دفع رئيس الحكومة المستقيلة الذي يقوم بتصريف الأعمال حسان دياب إلى توجيه نداء مساء 2 يونيو قال فيه "300 يوم مروا على استقالة حكومتي، وما زال لبنان يتوغل في نفق يزداد ظلاماً، وكلما لاح بصيص في الأفق، تطفئه الحسابات السياسية التي لم تعُد تقيم وزناً لمصير البلد ولا لمعاناة اللبنانيين الذين، وبسبب عدم تشكيل حكومة، يستنزفهم البحث عن حبة دواء أو علبة حليب أطفال أو ليتر بنزين، ويكتوون بنار الأسعار التي تفوق بكثير قدراتهم ومداخيلهم، فيتجذر إحباطهم، ويدفع بعضهم إلى البحث عن الأمل والانفراج بعيداً من وطنهم الذي يخسر يومياً كفاءاته العلمية وشبابه وتتآكل قدراته".
وتحدث دياب عن "عدم ارتقاء القوى السياسية إلى مستوى المسؤولية الوطنية وقصور في إدراك حجم الأزمة وتداعياتها"، وعن "استمرار توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي"، مشيراً إلى "فقدان الأدوية وحليب الأطفال والمحروقات بسبب اعتماد التخزين للمواد الأساسية"، وإلى "التهريب بمختلف الطرق ولمختلف المواد الأساسية"، وإلى "تقليص مصرف لبنان الاعتمادات لاستيرادها". وتحدّث عن "حصار خارجي مطبق على لبنان وممارسة الضغوط المختلفة لمنع وصول المساعدات إليه، لدفعه إلى الانهيار الشامل". ودعا دياب "القوى السياسية إلى تقديم التنازلات، وهي صغيرة مهما كبرت". وناشد أصدقاء لبنان وأشقاءه عدم تحميل اللبنانيين تبعات لا يتحمّلون أي مسؤولية فيها. "فالشعب اللبناني ينتظر من أشقائه وأصدقائه الوقوف إلى جانبه، ومساعدته في محنته القاسية، ولا يتوقع منهم أن يتفرجوا على معاناته أو أن يكونوا مساهمين في تعميقها".
سوداوية تقرير البنك الدولي
مع تراجع الآمال بأن تنجح وساطة، بري بقيت الأنظار مشدودة إلى المساعي التي يبذلها "حزب الله" مع باسيل لتليين موقفه حيال صيغة الحل الوسط للعقدة التي تقف عندها الحكومة في الشكل على الأقل، أي تسمية وزيرين مسيحيين في شكل يضمن عدم حصول فريق الرئيس عون على الثلث المعطل. فبري كان واضحاً بأنه تلقّى جواباً إيجابياً من الحريري عن الأفكار التي طرحها عليه في اجتماعهما الاثنين 31 مايو (أيار) الماضي، وأنه ينتظر جواباً من باسيل بناءً على اجتماعات يعقدها "حزب الله" معه لإقناعه بتلك الأفكار.
ويتخوف كثير من الأوساط السياسية من أن تفشل المحاولة الأخيرة لبري، فينتقل لبنان إلى مرحلة أكثر سوداوية في وضعه المالي الاقتصادي والمعيشي، لا سيما أن تمادي الخلاف على الحكومة يرهق المواطن يومياً، ويؤثر سلباً في سعر صرف الليرة، في وقت بات تقرير للبنك الدولي عن أزمة لبنان على كل شفة ولسان بأنه صنّف أزمته الاقتصادية والمالية ضمن أشد عشر أزمات، وربما إحدى أشد ثلاث أزمات، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر". واعتبر البنك الدولي أن "لبنان غارق في انهيار اقتصادي في غيابٍ لأي أفق حل يخرجه من واقع متردٍّ يفاقمه شلل سياسي". وأضاف "في مواجهة هذه التحديات الهائلة، يهدّد التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الإنقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية أصلاً والسلام الاجتماعي الهش ولا تلوح في الأفق أي نقطة تحوّل واضحة".
إيجابية الحريري وجواب باسيل وتواصل بري وفرنسا
وتتقاطع مصادر بري المتعددة على التأكيد لـ"اندبندنت عربية" أن ما توصل إليه من حلول وسط مع الحريري قطع شوطاً على طريق تسهيل ولادة الحكومة، "وتم بأمان وسوية"، فيما المطلوب الحصول على أجوبة إيجابية من جانب باسيل.
وعلمت "اندبندنت عربية" أن خلية الأزمة الفرنسية المكلفة من الرئيس إيمانويل ماكرون متابعة جهود إنهاء الفراغ الحكومي في لبنان كانت على تواصل مع بري ليل الثلاثاء 1 يونيو وتبلّغت منه بأنه توافق مع الحريري على المخارج من الجمود في عملية التأليف، فيما الأجوبة الأولية من جانب النائب باسيل لم تكُن إيجابية بالقدر المطلوب. ونفت مصادر مطلعة على التواصل بين باريس وبري ما أشيع من أنباء عن أن العاصمة الفرنسية نصحت الحريري حين زارها في 28 و29 مايو، بالتنحي طالما يتعذر عليه التأليف، لمصلحة حكومة تشرف على الانتخابات النيابية طالما لم يبقَ أمام هذا الاستحقاق سوى أقل من عام. وهي معلومات أشاعتها أوساط "التيار الوطني الحر". بل إن باريس على العكس دعت زعيم تيار "المستقبل" إلى مواصلة جهوده من أجل التأليف، وبالتنسيق مع مبادرة بري، وهي تعتبر أنه على الرغم من ملاحظات بعض أعضاء خلية الأزمة على أدائه، فإنه لا بديل عنه لتولّي المهمة.
وفي معلومات أوساط متصلة بـ"حزب الله" أن باسيل لم يبلّغ موافقته على مبادرة بري التي تقضي بحكومة اختصاصيين غير حزبيين من 24 وزيراً لا ثلث معطلاً فيها لأحد على قاعدة توزيع الوزراء على ثلاثة تحالفات (ثلاث ثمانات)، على أن يتم حل عقدة تسمية وزيرين مسيحيين يرفض عون وباسيل أن يسميهما الحريري، عبر تولّي كل منهما اقتراح أسماء يقبل بها الآخر. لكن باسيل رفض أن يشترك الحريري في تسمية أي وزير مسيحي، واقترح أن يتم اختيارهما من قبل عون من إداريين أو من عسكريين متقاعدين، وحياديين، ما اعتبره الحريري تعدياً على صلاحياته في تشكيل الحكومة، لأن حصر تسميته الوزراء بالسُنّة يعني أن تتشكل الحكومة على يد غيره، فيما يُعطى إبداء الرأي بسائر الوزراء من بقية الطوائف إلى رئيس الجمهورية. هذا إضافة إلى أن باسيل أبلغ "حزب الله" أن كتلته النيابية لن تمنح الثقة للحكومة، لعدم ثقتها بالحريري.
تدحرج الحملات الإعلامية بين عون والحريري
استبق باسيل اجتماعه مع المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل، والمعاون السياسي للأمين العام لـ"حزب الله" حسين الخليل بمؤتمر صحافي قال فيه إنه يؤيد مسعى بري و"حزب الله"، لكنه استدرك إنه إذا حصلت "مماطلة في تأليف الحكومة" (يقصد الحريري)، فسنطلب من "رئيس الجمهورية كي يدعو إلى مؤتمر حوار وطني من أجل البحث في الحكومة والأزمة"، متهماً الفريق الآخر "بفبركة حجج لعدم التأليف". والانطباع الذي نقله موفدا بري ونصر الله عن نتيجة لقائهما بباسيل لم يكُن مشجعاً. وقالت مصادر بري لـ "اندبندت عربية" إن موقفه يُستنتج منه استمراره في وضع الشروط بطريقة مواربة لدفع الحريري إلى الاعتذار وللحصول على الثلث المعطل، فيما تنظر أوساط نيابية إلى اقتراح مؤتمر الحوار الوطني على أنها لإعادة الاعتبار لباسيل كونه بات شبه معزول بعد العقوبات الأميركية عليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم ينتظر "تيار المستقبل" طويلاً رداً على موقف باسيل، فيما اعتبر الحريري كما نقل عنه بعض النواب، أنه إذا كان نواب "التيار الحر" لن يمنحوا الثقة للحكومة، يكفي أن يحصل رئيس الجمهورية على حق تسمية 3 وزراء بدلاً من ثمانية. وتدحرجت الردود على الردود بأن هاجم بيان "المستقبل" بعنف باسيل والرئيس عون، معتبراً أن "رئيس الظل" جبران باسيل "لا يترك مناسبة إلا ويتكلم فيها بلسان رئيس الجمهورية، ويؤكد المؤكد بأن إرادة التعطيل تتقدّم لدى الرجلين على كل الإرادات الوطنية الساعية إلى تأليف حكومة مهمة طال انتظارها". في اليوم التالي، صدر بيان مطول عن الرئاسة ردّ على " الأضاليل التي يسوّقها والتعابير الوقحة التي كان يستعملها" تيار المستقبل. وأشار بيان الرئاسة إلى "استمرار هروب الحريري من تحمّل مسؤولياته في تأليف حكومة متوازنة وميثاقية". واعتبر أن "الادعاء دائماً بأن رئيس الجمهورية يحاول من خلال مواقفه الانقضاض على اتفاق الطائف ومفاعيله الدستورية هو قمة الكذب والافتراء وخداع الرأي العام". واتهم الحريري "بالاستيلاء على صلاحيات رئيس الجمهورية" وبأن "الأوضاع المالية الصعبة والديون هي ثمرة ممارسات فريق الرئيس المكلف وسوء إدارته لشؤون الدولة منذ مرحلة ما بعد الطائف". واتهم "المستقبل بمحاولة قطع الطريق على أي محاولة إنقاذية برفضه فكرة مؤتمر الحوار الوطني". ووصف لغة "المستقبل" بأنها "سوقية".
وردّ الأخير معتبراً أن "رئاسة الجمهورية تقع أسيرة الطموحات الشخصية لجبران باسيل، وأن فخامة الرئيس العماد ميشال عون مجرد واجهة لمشروع يرمي إلى إعادة إنتاج باسيل في المعادلات الداخلية وإنقاذه من حال التخبط الذي يعانيه... ومؤسف أن يصبح موقع الرئاسة ممسوكاً من قبل حفنة مستشارين، يتناوبون على كسر هيبة الرئاسة وتلغيمها بأفكار واقتراحات وبيانات لا تستوي مع الدور الوطني المولج بها".
مؤتمر الحوار أو الاستقالة النيابية يزيدان التأزيم
أثار بيان "المستقبل" حفيظة البطريرك الراعي الذي اعتبر أن فيه إهانات للرئاسة، بعد اجتماعه مع الرئيس عون، والذي كان يأمل منه دفع الرجلين إلى اللقاء، فواجهه الأخير بما تعرّض له من اتهامات من تيار "المستقبل".
دفعت وقائع الأيام الثلاثة كثيرين من المراقبين إلى التشاؤم بإمكان نجاح وساطة بري، نظراً إلى أن الحملات المتبادلة تؤشر إلى صعوبة التعايش بين عون والحريري. والأخير تسلّح باقتناع بري بأنه أبدى مرونة حيال مبادرته، وبامتعاض رئيس البرلمان من فكرة مؤتمر الحوار الوطني في القصر الرئاسي لبحث الأزمة، بهدف إجهاض وساطته، وبسبب اعتباره أن محاولة تأليف الحكومة عبر اجتماع في القصر هو إمعان في مخالفة الدستور الذي ينص على أن يؤلف الرئيس المكلف الحكومة ويتفق مع رئيس الجمهورية على إصدارها، ومحاولة افتئات على صلاحيات البرلمان بمنح الثقة المسبقة للحكومة عبر استدراج رؤساء الكتل إلى اجتماع بحجة ضمان موافقتهم على أي حكومة قبل إصدار مراسيمها. وبدا أن أي توجه نحو الدعوة إلى مؤتمر للحوار ستكون مرفوضة من بري والحريري معاً وأن الأخير أخذ قراراً بعدم الاعتذار عن مهمته تأليف الحكومة.
وإزاء تلويح النائب باسيل بإمكان استقالة كتلته من البرلمان إذا لم يعتذر الحريري عن تأليف الحكومة، من أجل إجراء انتخابات نيابية، تبعد الحريري عن الرئاسة الثالثة، فإن مصادر نيابية أبلغت "اندبندت عربية" أن بري لن يعتبر أن تلك الاستقالة تسقط البرلمان حتى لو انسجم حزب "القوات اللبنانية" (15 نائباً) مع هذه الخطوة، بحجة فقدان البرلمان للميثاقية بخروج كتلتين مسيحيتين وازنتين، إضافة إلى استقالة نواب حزب "الكتائب" الثلاثة سابقاً. فرئيس البرلمان يرى أن هناك 20 نائباً مسيحياً من المستقلين باقون في المجلس، بالتالي لم يفقد ميثاقيته، وأنه بإمكان الحكومة الدعوة إلى انتخابات فرعية لملء المقاعد الشاغرة. فبري يعتبر إسقاط البرلمان محاولة للمسّ بالموقع الشيعي الذي تمثله رئاسة المجلس النيابي، والأرجح أن "حزب الله" يتناغم معه في هذا الموقف.
في انتظار المحاولات الأخيرة التي يبذلها "حزب الله" مع الفريق الرئاسي وباسيل، يتجه لبنان نحو مزيد من التأزم السياسي الذي سيفاقم أوضاعه المعيشية سوءاً، إذا لم يحصل اختراق ما في جدار الأزمة، في الأيام القليلة المقبلة.